fbpx

“الصدع الكبير”: لماذا لم تحقق الثورات العربية شعاراتها؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مسألة الديمقراطية باتت أولوية على ما عداها من القضايا التي طرحتها ثورات الربيع العربي، فغيّرت كثيرا من مفردات الحياة السياسية، وأزاحت قضايا كانت تعتبر أولويات، كالصراع العربي- الإسرائيلي، لتغدو قضية الديمقراطية مطلبا ملحا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يطرق الكاتب الفلسطيني ماجد كيالي في كتابه “الصدع الكبير: محنة السياسة والأيديولوجيا والسلطة في اختبارات الربيع العربي”، إشكاليات رئيسية في المنطقة العربية هي، نقص الدولة والمواطنة، والانقسامات الطائفية والإثنية، والتنازع بين الديني والدنيوي في السياسة والثقافة والدولة.

الكتاب يفكك قضايا سياسية ونظرية شائكة، وإشكاليات في التاريخ العربي الإسلامي، ما زالت حاضرة وبقوة في واقعنا الثقافي والسياسي. 

يبدو الاهداء لافتاً إذ يقدمه كيالي لأربعة مفكرين ومناضلين من أجل الحرية والديمقراطية، وهم: 

علي الشهابي، الكاتب الفلسطيني (من مخيم اليرموك) المعتقل من قبل النظام السوري، منذ أواخر 2012، وهو الاعتقال الثالث له، ومازال مصيره مجهولا.

رزان زيتونة، الحقوقية والناشطة السورية المعروفة، التي اختطفت في دوما، (مع زوجها وائل حمادة، ورفيقيها سميرة الخليل وناظم حمادي) من قبل جماعة “جيش الإسلام” (أواخر 2013)،  ولم يعرف مصيرها ورفاقها حتى الآن، رغم انتهاء سيطرة جيش الإسلام واستعادة النظام لتلك المنطقة.

ميشيل كيلو، الشخصية السياسية السورية الشهيرة والكاتب السياسي والمترجم والمناضل، والذي تعرض لتجربة الاعتقال مرات عدة (توفي في 19/4/2021).

سلامة كيلة، وهو كاتب وناشط فلسطيني، قومي ويساري، من بير زيت في الضفة الغربية، عاش ردحاً من عمره في سوريا، وسجن عدة سنوات قبل اندلاع الثورة السورية، كما تعرض للاعتقال بعد اندلاعها، وتوفي في عمان أواخر 2018.

اختبارات التحرر من العصبيات

في القسم الأول من الكتاب، “في اختبارات الدولة والمواطنة والديمقراطية في العالم العربي”، يشدد الباحث على أن الأحزاب العربية لم تشتغل على مسألة الدولة كمعطى سياسي وقانوني ومجتمعي، ولا على مسألة المواطنة، بل انقادت إلى التمثل بشعارات كبرى، مثل: التحرير والوحدة والاشتراكية.

 بيد أن المعطى التاريخي هنا يظهر أيضا تشابكا جدلياً بين الأحزاب القومية والأنظمة السلطوية، فكان حزب السلطة هو السلطة، وهو قائد الدولة والمجتمع، والعكس صحيح: أيضا السلطة هي الحزب، أو تتجسد في شخص الأمين العام الذي يجمع كل مصادر القوة والسطوة بين يديه.

الجديد هنا هو النقد الذي وجهه المؤلف للتيارات اليسارية، فهو لا يعتبر اصطفافها مع النظام السوري، لحظة فارقة، بل هي متماهية مع فكرها الاستبدادي(ديكتاتورية البروليتاريا، والشرعية الثورية) الذي  صادر مفهوم المواطنة والحرية والكرامة.

 في المقابل فإن التيار الإسلامي قسّم المجتمع على أساس ديني، ما يقوّض مفهوم الهوية الوطنية، ويبعثر مفهوم الكيانية الوطنية. في حين أن النظم العربية التي صبغت هويتها السياسية بأيديولوجيات قومية وجدت في الشرعية الثورية مسوغاً سياسياً للاستيلاء ليس على السلطة فحسب، بل على المجتمع برمته، بعد أن وصلت إلى السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية. 

ولدى محاولة فهم ما جرى في ثورات الربيع العربي، تبدو حالتا مصر وتونس متشابهتين من حيث وصول التيار الإسلامي إلى السلطة (الاخوان المسلمون في مصر، وحركة النهضة في تونس) و في تبني المرجعية الدينية ذاتها، لكنهما تختلفان في سياق الفعل السياسي، والتعامل مع القوى الأخرى.

 ويخلص الكاتب إلى نتيجة مفادها أن هاتين التجربتين تؤكدان قابلية التيارات الاسلامية(والعلمانية أيضا)، لهضم مسائل الديمقراطية والدولة المدنية والمواطنة والحريات باعتبار ذلك جزءا من الصراع على الوعي السياسي والثقافي، للتكيف مع الواقع والعصر والعالم. لكنه يشدد في الوقت نفسه، على أن الاشكالية تكمن في عدم تحرر التيارات العلمانية(وضمنها اليسارية والقومية والليبرالية) من عصبياتها الأيدلوجية والهوياتية والتنميطية، ويرى أن التحرر من هذه الهويات لا يكون حتى يتم التحرر من فوبيا الاسلام السياسي، وأن الاسلام السياسي لن يتحرر حتى يتحرر هو الآخر من فوبيا العلمانية.

اكتشاف الذات المتعثرة بالديمقراطية

لا شك في أن مسألة الديمقراطية باتت أولوية على ما عداها من القضايا التي طرحتها ثورات الربيع العربي، فغيّرت كثيرا من مفردات الحياة السياسية، وأزاحت قضايا كانت تعتبر أولويات، كالصراع العربي- الإسرائيلي، لتشغل قضية الديمقراطية القضية الأساس، بعد أن استشرى الفساد طولا وعرضا، وفي مفاصل الحياة السياسية والمجتمعية للأنظمة العربية. وبات الاصلاح السياسي مطلباً ملحاً، لكن الذي حصل أن كل مساعي الاصلاح انتهت إلى الفشل، لأنها لم تعالج الجوهر، ولم تطرق مبنى ومعنى الثقافة والعلاقات المجتمعية والسياسية. 

كيالي يرى  أن محنة الديمقراطية في العالم العربي تنبع من “افتقاد الموروث التاريخي، السياسي لمفهوم الدولة والمواطنة، واتكاء هذا الموروث على مفاهيم ” الخلافة” الدينية، والأحكام السلطانية” والنماذج “المملوكية”، بحيث بات ثمة في الواقعين الثقافي والسياسي ما يعمل على تكريس هذا الموروث وإعادة انتاجه، بتلاوين مختلفة” ويخلص إلى التشديد على أن نقص الدولة ونقص المواطنة في واقع البلدان العربية أساسيان في تفسير مشهد التعثر الديمقراطي في البلدان العربية.

 ويحاول في سياق بحثه تناول العوامل التي أدت إلى استعصاء العملية الديمقراطية في العالم العربي، من قبيل ضعف تمكين الدولة ، والديمقراطية، فوات البنى المجتمعية، التدخلات والاحتلالات، ويخلص إلى التشديد على أن الديمقراطية هي ثمرة التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وليست كونها شعارا سياسيا. 

المفارقة التي استوقفتني أن أغلب المثقفين العرب لم يتناولوا الآثار التي تركتها الأنظمة الديكتاتورية على سيكولوجيا الشعوب، ربما باستثناء عالم الاجتماع العربي مصطفى حجازي في كتابه الشهير: “سيكولوجيا الانسان المقهور”. إذ إن التخلف بات يجد حالة من الرضى والاستكانة، وأن القبول بظلم الطغم الحاكمة باتت تجد مسوغاتها بين الجماهير، وليس فقط لكون الأنظمة صادرت مفهوم الجمهورية وحولته إلى “جملكية”، كما يحصل في الحالة السورية. 

المقصود أن البنية الاجتماعية جرى تدميرها وتدجينها وترويضها، وصولا إلى تماثلها مع اطروحات المستبد. المقصود أيضاً أن للنظام العربي الرسمي طابع مميز في تسلطه، غاية في التعقيد في عنفه وصلفه، لا يتشابه مع أنظمة الطغيان العالمية، إلا بالصفة التي يحملها رئيس أو زعيم أو ملك. لكنه يمتلك  خواص مكثفة من صفات  الاستبداد والطغيان.

 لكن عجلة التاريخ لا تتوقف، ونرى وفق منطق التاريخ انهيار الأنظمة والحضارات في لحظة فارقة، و ربما كانت مأثرة ثورات الربيع العربي أنها كسرت حاجز الخوف، وأطاحت بهيبة الدولة المستبدة، وأسست – رغم عدم نجاحها-  لحقبة تاريخية جديدة، هذا هو منطق التاريخ، وهذا هو منطق فلسفة السياسة وصراع القوى الاجتماعية.

في مسار التحول من الطوائف إلى الطائفية

في القسم الثاني، والذي جاء تحت عنوان: “مصادر الصراعات الطائفية والاثنية وأبعادها ومصائرها”، يشدد كيالي على أن البعد السياسي هو ما يحوّل مجموعة بشرية من كونها طائفة دينية(وحتى اثنية) عادية، إلى كونها مسألة طائفية. وقد أصاب بتحليله، وتقييمه لنشأة ظاهرة النظام الطائفي، سواء أكان نظاما أو ميليشيا، فالمشرق العربي غني بتعدد مذاهبه، لكن تداخل المصالح السياسية جعل امكانية الإتكاء على هذا التعدد بالغ الأهمية كونه يستمد منه مسوغاته الأيديولوجية، والتاريخية، ويعمل على تخليق سرديات تتوافق معه.

 كما أن المسألة الطائفية ليست حكراً على الجانب العربي، فقد عانت كثير من الدول من ويلاتها، ولا خلاص منها إلا بنزع الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية المولدة للنزاعات الطائفية، أي باختصار عبر نزع النظام السياسي من طائفيته، بما يمثله من حاضنة سياسية وعسكرية واقتصادية للوعي الطائفي.

 القصد كما يقول المؤلف أن المشكلة لا تكمن بوجود الطوائف، بل في الفكر السياسي الطائفي الذي يجعل منها مكونات متمايزة، بالرغم  إلى انتمائها إلى وطن وهوية واحدة، ويفترض أنها تخضع لقانون واحد وعليها الواجبات نفسها ولها الحقوق ذاتها. ولعل سياسة النظام السوري، واحدة من الأمثلة الحية على قدرة هذا النظام على تشويه المكونات الطائفية للمجتمع السوري، فضلا عما فعله حليفه “حزب الله” في تحويل الشيعة إلى طائفة سياسية لها حواضن اجتماعية ومؤسسات ترعاها، وبنى عسكرية تنافس الدولة، إن لم تكن تسيطر عليها. 

ويعزو كيالي بروز النزعة الطائفية في الظروف الحالية إلى أربعة أسباب: تمدد النفوذ الإيراني، سياسة النظام السوري الإبادية، سياسة الحكومة العراقية(المالكي)، ومشكلات تتعلق بالمواطنة والديمقراطية وبناء الدولة. 

في الواقع إن البحث في أسباب إحياء المد الطائفي وتصاعد صوته، وقدرته على أن يسود في الواقع العربي، هي مسألة بالغة الأهمية، ولا يمكن ردّها فقط إلى الأسباب التي ذكرها المؤلف، إذ لا يمكن في حال من الأحوال تجاهل فشل الدولة القُطرية في بناء دولة المواطنة والحرية والكرامة، هذا الفشل أوجد التربة الخصبة لإحياء الفكر الأصولي، سواء أكان دينيا أم قوميا شوفينيا، أو عشائريا أو حمائليا، فعندما تغيب الدولة، كونها الأداة المؤسسة للمجتمع، يصبح المجتمع حرا ومتحررا من أنظمتها الناظمة، وتبحث مركباته عن حواضن لحمايتها.

 في سوريا، مثلا، استند النظام إلى  طائفته لتثبيت ركائز حكمه، واستفاد من العصبيات المجتمعية لتدعيم نسيج طائفته وتحويلها إلى طائفية سياسية. ما أقصده أن الدولة الفاشلة تجلب الخراب وتؤسس لإنهيار مجتمعي بالغ السوء. لا يمكن التخلص منه، من دون التخلص من النظام السياسي، ومن دون المرور في فترة احتضان لعدالة انتقالية. 

وفي سؤال المؤلف عن وجود طائفة سنية من عدمه، يرى أن السنة لم  يتصرفوا إلا باعتبارهم شعباً، أو الشعب الذي يضم باقي الطوائف، بدون أي تمايزات من اي نوع، ولم يكن في وسعهم التحول إلى طائفة مغلقة، وإلا فقدوا أكثريتهم، سواء بالمعنى الديني أو السياسي.  لكن المفارقة أن السنة في سورية، مثلا، هم من عانوا من أهوال التنكيل والازاحة طوال نصف قرن، بعد أن نجح نظام الأسد(الأب والابن) في تسييد النزعة الطائفية، وفي تفتيت المجتمع السوري، ليتمكن من الاستمرار في حكمه، وما زال. 

في المقابل سعى كيالي إلى مناقشة مصطلح “العلوية السياسية”، إذ اعتبر أن النظام جعل العلويين أمام خيار اللاخيار، عبر ممارساته التي جعلت الطوائف كلها تنتقل إلى الطائفية، وفاقم احساس الأكثرية(السنة) بالغبن التاريخي اللاحق بهم، من نظام، تارة ينظرون إليه على أنه نظام علوي، وتارة أخرى كنظام أسدي، همه الأساس مصلحة الأسرة الحاكمة على حساب كل الطوائف، بما فيها طائفته العلوية. 

في سياق معالجته للمسألة الكردية، أصاب كيالي باستنتاجه أن الظلم الواقع على الكرد لم ينبع من كونهم جماعة قومية في سورية، بل جاء في إطار نظام اضطهد وهمّش المواطنين كلهم من مختلف الجماعات، ومن ضمنهم العرب السوريون. لكن بعض الجماعات الكردية لم تع هذه الحقيقة، فدخلت في لعبة النظام، بوعي أو بدونه، وهو ما عمل عليه النظام لتعزيز سلطته، وإضفاء شرعية لبقائه، لكن ذلك لا يعني في حال من الأحوال أن الكرد، كجماعة قومية لم تتعرض للاضطهاد نتيجة قوميتها، بل هو واقع حقاً، ولا خلاص منه إلا بالتحرر من الدولة المستبدة، ربما عبر نظام فيدرالي، يحافظ على الوحدة الجغرافية والسياسية والاقتصادية لسورية.

عموماً يرى كيالي أن فكرة الأقليات الدينية والاثنية، بالمعنى السياسي، هي من اختراع النظم الاستبدادية والشمولية، لكنها  في الوقت نفسه معطى تاريخي، ونتيجة لصراعات حدثت في أزمان قريبة أو بعيدة.

 الجديد في الموضوع، أن الأنظمة الاستبدادية اشتغلت على العصبيات الهوياتية، وعملت على توظيفها، لأغراض سياسية. بيد أن ثورات الربيع العربي كشفت الحالة الحقيقة لواقع المجتمعات العربية، وأزاحت المستور عنه، وأكدت أن معطى الهوية الجمعية هشّ، وأن الوحدة الوطنية السورية كمثال، التي طالما تغنى بها النظام السوري، إنما هي شعار كاذب يخفي تعاظم التناقضات التي أوجدها النظام السياسي، عبر تحويله الطوائف إلى الطائفية. 

إشكالية العلاقة بين الديني والدنيوي

في القسم الثالث، والذي جاء تحت عنوان: “إشكالية الديني والدنيوي في السياسة والدولة”، يحاول كيالي أن يدخل في إشكالية العلاقة بين الديني والدنيوي، فيرى أن مشكلة التيارات الاسلامية تكمن في عدم تمييزها بين الدين والدنيا، مع التشديد على أن التيارات الإسلامية لها اجتهاداتها في فهم  هذه العلاقة الشائكة، اذ هناك اجتهادات ضمن التيارات الإسلامية تذهب إلى الأخذ بالدولة المدنية، كبديل عن الدولة العلمانية.

لكن كيالي يشدد من جانب آخر على أن الدولة في العالم العربي نشأت مأزومة، وليس في سياق تطور تاريخي طبيعي.

 المفارقة أن معظم بلدان العالم عانت من أزمات واشكاليات في تشكلها، لكنها في نهاية المطاف وصلت إلى بناء الدولة المدنية الحديثة، في حين أن بلدان العالم العربي لم تنل حظها، ولربما من الصحيح أن نعزو ذلك إلى قوة التنابذ بين المجتمعات العربية والأيديولوجيات السائدة، من قومية أو إسلامية أو يسارية. 

بتقديري أن كيالي وإن أصاب في تشخيص الأزمة، لكنه من جانب آخر لم يشر إلى الدور الذي لعبته القوى الكبرى، إبان مرحلة الاحتلالات، في عدم تمكين المجتمعات العربية من بناء اقتصاد متمركز على ذاته، بل اوجدت اقتصاداً كولونيالياً، وبالتالي نشأت سيروات اجتماعية واقتصادية وثقافية تسّيدت بديمومة المرحلة الاستعمارية، ثم ما لبثت أن أسست مراكز قوى لها في هذه الدولة أو تلك، حتى حانت لها الفرصة للإنقضاض على السلطة، فما أن حصلت بلدان عربية على استقلالها، حتى دخلت من مرحلة الاستعمار الداخلي، بكل ما يعنيه هذا المصطلح من دلالات بالغة الأثر.

 بالطبع تفاوتت هذه الحالة من بلد عربي إلى آخر، مع ملاحظة أن ثمة بلد عربي، هو فلسطين، لم ينل نصيبه من الاستقلال الوطني، بل خضع لعملية احتلال بالغة التعقيد، حطمت مجتمعه، وأنهت كيانه السياسي، وجعلته يدور في فراغ حقبة من الزمن، وما زال في إطار صراع  بين مشروع كولونيالي استعماري استيطاني ومشروع وطني فلسطيني تحريري.

كان من المهمّ  لو أشار الكاتب إلى دور القوى الخارجية في إجهاض سيرورة التطور المفترضة في المجتمعات العربية، خصوصاً أن هذه السيرورة انقطعت مع مرحلة الاستعمار بُعيد سايكس بيكو، ثم ما لبثت أن دخلت في إطار مرحلة ما بعد الاستعمار الخارجي لتدخل في إطار الاستعمار الداخلي، وتصاعد قوة التنابذ المجتمعي، ناهيك عن بروز قوة إقليمية باتت تصدر مفهومها الأيديولوجي تحت إطار شرعية الدفاع عن الطائفة، كما حصل مع إيران، ما نقل الطوائف إلى الطائفية، فكرا وسياسة. 

ولدى  نقاش المؤلف لفكرة الدولة في الإسلام يبدو جزمه بعدم وجود نموذج محدد للدولة، أو عدم وجود نظرية للدولة في الدين الإسلامي متسرعاً بعض الشيء، ولربما خاضعا لموقف أيديولوجي، إذ أن العلاقة بين الوحي والسياسة كانت عبر التاريخ العربي الإسلامي علاقة شائكة،حيث كان للفلاسفة والمتكملين أفكارهم في هذا الخصوص، ولعل أهمهم الماوردي وغيره. 

ويصيب الكاتب في التأكيد على دور ايران في اذكاء الطائفية، وفي نقل الطوائف الشيعية في العالم العربي إلى مسار الطائفية الشيعية والعمل على تغذيتها ودعم مرتكزاتها.

 في حين يغيب احساس السنة بذاتهم على أنهم طائفة، ليس لأنهم الأكثرية فحسب، بل بسبب احساسهم بأنهم الحاضنة لكل الطوائف، وأن الوعي الطائفي، وإن صدر من جماعات هامشية (القاعدة أو داعش) إلا أنها لم تعبر عن مزاج الشارع السني على الإطلاق، ناهيك عن كون بلدان عربية واسلامية سنية لم تزعم حقها في تمثيل السنة (السعودية أو تركيا) كما فعلت إيران، وكما تدخلت في كثير من البلدان العربية بزعم الحفاظ على الطائفة الشيعية أو المراقد المقدسة. 

وعليه، أعتقد أنه من الضروري النظر إلى أن تصاعد الحركات الأصولية سببه الأساس الدولة الفاشلة، ناهيك عن كون الحركات الأصولية، والتي اتخذت منحى إرهابياً، استمدت مقوماتها الأيديولوجية والفكرية من تفسيراتها للاسلام الحديثي(نسبة إلى أحاديث الرسول العربي)، في حين تم تجاهل الاسلام القرآني. ما يعني أن الإسلام السياسي المعتدل قد أخلى الساحة للاسلام السياسي المتطرف، وأحدث صعود الإسلام المتطرف قطيعة سياسية ومعرفية في تفسير النص القرآني وفي اعتماده على الإسلام السني – الحديثي. 

كيالي يعتبر أن تجربة بعض القوى الإسلامية كانت بمثابة درس تاريخي لهذه القوى لإعادة جدولة حساباتها، والانطلاق نحو التصالح  مع قيم الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة، وفي ذلك نزوع أخلاقوي واضح لدى المؤلف.

نموذج حي: الحالة السورية

في القسم الرابع، والذي جاء تحت عنوان: “نقاش في إشكاليات الحالة السورية”،  يحاول كيالي أن يدخل إلى العوامل التي أدت إلى إجهاض الثورة السورية(محلية أو خارجية) وما تعرض له المجتمع السوري من تحطيم وتفكك كبيرين.

و الأخطر من ذلك أن المعارضة السورية لم تستطع أن تصوغ كياناً سياسياً جامعاً للسوريين. لكن كيالي يجزم أن ما حققته الثورة السورية كان كبيرا في إطار توق السوريين للحرية والكرامة، وفي كسر جدار الخوف والتصدي لوحشية النظام السوري واجرامه.

 بيد أن ذلك كان فقط في مسار العام الأول من عمر الثورة، أما كل ما حدث بعد ذلك، فكان نتاج تدخلات خارجية.

 وهنا لا بد من وقفة متأنية لقراءة مآلات الثورة السورية. وذلك عبر طرح العديد من التساؤلات من قبيل: هل حقا كان عمر الثورة السورية هو العام الأول منها فقط؟ وكيف يمكن وضع جدول زمني لعمر ثورة اشتعلت من جديد في مهدها(درعا)؟ وكيف لثورة أن تنتصر دون رئة خارجية؟

 هل كان انتصار الثورة الفيتنامية ليقع من دون دعم الاتحاد السوفيتي والصين، والاستفادة من ظروف الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والغربي؟ القصد أن الثورات تستند تلقائيا إلى منافذ خارجية، وتستفيد من التناقضات الدولية والاقليمية، لكن في الحالة السورية، كان الوضع بالغ التعقيد، إذ أن تركيا هي عدو النظام، لكنها كانت تنسق مع كل من روسيا التي تقصف المعارضة بالطائرات، وإيران التي أمدت النظام السوري بجيش من الميليشيات الطائفية.

 صحيح أن المعارضة السورية لم تستفد، كما يجب، من أصدقاء سورية، ليس لقلة خبرة قادتها السياسية فحسب، بل لتضارب مصالح دول كثيرة في سورية، أيضا، ناهيك عن وجود العامل الإسرائيلي، ودوره المحدد والناظم في بقاء النظام أو رحيله.

 نعم، المعارضة بنت شعاراتها وخططها على وهم الدعم الخارجي، كما يؤكد كيالي، ما جعلها تتصور أن نهاية النظام السوري لن تكون إلا مماثلة لما حصل للنظام الليبي أو التونسي أو المصري، وأن التدخل الدولي آت لا محالة للمساعدة في إزاحة الأسد، لكنها لم تقرأ أبدا الدور الروسي، ما جعلها في نهاية المطاف تشعر بالخذلان.

ويمضي كيالي للغوص في الاستراتيجيات التي اتبعها النظام السوري لتقويض فكرة الثورة السورية، ولست بصدد مناقشة ما طرحه، بقدر أهمية البحث عن القضايا الجوانية أو الجوهرانية التي أدت إلى تبديد فكرة الثورة السورية، عبر نقد الخطاب الأيديولوجي والسياسي لقوى المعارضة، بأطيافها وتلاوينها كافة. 

كنت أتمنى أن يدخل كيالي عميقا في تفكيك الخطاب السياسي والأيديولوجي والثقافي للمعارضة السورية ودوره في إجهاض الثورة السورية. أما تناول الموضوع سياسيا، ضمن سياقاته المعروفه، فهو واضح للجميع، لكن من غير الواضح كيف أثّر  التطييف لدى معسكر المعارضة السورية  في تبديد الوعي الهوياتي لدى السوريين، سيما أن الإشكاليات التي طرحها في الأقسام السابقة كانت في هذا السياق.

 على الرغم من توافقي في كثير من المفاصل لنقده لممارسات الثورة السورية، سواء عسكريا أم سياسيا، إلا أنني أجد من الضرورة التأكيد على أن طريق الثورة ليس معبدا بالورود، ومن يتصور أن الثورة سوف تصنع مجتمعا جديدا فهو واهم، الثورة هي مسار عمل نضالي شاق وطويل، ومسار تغيير مجتمعي بالغ الصعوبة والتعقيد، ولا مجال لتحقيق حلم الثورة من دون المرور بالفشل والهزيمة، ونجاحات هنا وهناك.

 الثورة كما قال كيالي تفكك وتهدم، لكنها في الوقت نفسه تبني وعيا جديدا، قد لا نلحظ تأثيره مباشرة، لكن من الأهمية في مكان دراسة التغييرات المجتمعية التي حصلت في المجتمع السوري، ودراسة التأثيرات التي أحدثتها الثورة السورية على وعي السوريين في الخارج. 

 كنت أمام كتاب ذهب في أقسامه الاولى عميقا في البحث السوسيولوجي، لكن غلبته الصيغة الصحفية في القسم الأخير، وهي ملاحظة لا بد منها.

 لكن من الانصاف القول إن كتاب ماجد كيالي يشكل قفزة نوعية في معالجة قضايا سياسية وأيديولوجية راهنة عبر اختبارات الحاضر، أي عبر ما أفرزته ثورات الربيع العربي، ثورات لم  تحقق شعاراتها، لكنها  أحدثت صدعا كبيرا في وعينا، وجعلتنا ندرك حقيقة بديهية أن الثورات مسار تاريخي يحمل في احشائه تغييرا حتميا، قد لا نراه راهنا لكنه مقبل لا محالة. 

إقرأوا أيضاً: