fbpx

“وثائق باندورا”: نافذة على رجال أعمال محسوبين على “حزب الله”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

وجود اسماء رجال أعمال لبنانيين في “وثائق باندورا” ممن جرى ربطهم بحزب الله يقود للبحث عن واحدة من أكثر الملفات تعقيداً، أي تلك المتعلقة بتمويل “حزب الله” ونفوذه السياسي والمالي داخل الطائفة الشيعية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“الهالة اللي حولي كذبة”، يتمتم ويهزّ رأسه بضيق. 

يحاول صالح عاصي دحض الصورة المتداولة عنه كرجل أعمال لبناني ثري له امتدادات مالية وسياسية مشبوهة بين لبنان والكونغو وفرنسا ودول أخرى، معتبراً المتداول عنه وعن تبييضه أموالاً طائلة لصالح “حزب الله” “استهدافاً سياسياً”. 

في شقته الفخمة المطلّة على الواجهة البحرية لبيروت في مبنى “بلاتينوم”، وهو المبنى الأغلى ثمناً في لبنان ويقيم فيه أيضاً رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، يقضي عاصي معظم وقته مع عائلته بعدما عرقلت العقوبات الأميركية الكثير من أعماله العابرة للحدود. 

 الخزانة الأميركية فرضت عام 2019 سلة عقوبات على رجال أعمال لبنانيين بتهم تهريب أموال بمبالغ ضخمة لصالح حزب الله الذي تصنّفه الولايات المتحدة تنظيماً ارهابياً، ومن بين هؤلاء ورد اسم عاصي، لينضم الى لائحة تقارب 90 اسماً لهيئات وكيانات فُرضت عليها عقوبات خلال السنوات الأخيرة.

في “وثائق باندورا”، التي تكشف معلومات غير مسبوقة عن أسرار الجنان الضريبية وشركات الـ”أوف شور” لعدد كبير من زعماء العالم وشخصيات عامة، ظهر اسم عاصي بوصفه المستفيد الوحيد من شركة Veriolia Holdings Limited والتي أسستها شركة “Trident Trust” وهي واحدة من 14 شركة من مقدمي الخدمات الخارجيين الذين يمثلون مصدر المستندات المسرب. التسريبات كشفت عن تبادل رسائل الكترونية مع الشركة المشغلة “Trident Trust” وهذه الرسائل أرسلها شخص من Barclays، وهو بنك استثماري بريطاني متعدد الجنسيات، يطلب فيها من Trident Trust إغلاق الشركة التي يملكها عاصي في 2013 وفعلا تم حلّ الشركة عام 2014.

سبب تأسيس الشركة واقفالها ليس واضحاً، لكن ليس غريباً على الجنات الضريبية إنشاء شركات واقفالها فهذا إجراء قانوني، لكنه يثير تساؤلات حول الأهداف الحقيقية لإنشاء تلك الشركات لمدة محدودة وما إذا كان يهدف إلى تمويه نشاطات أو أسماء ما.

عاصي ينفي تماماً في مقابلته مع “درج” أن تكون هذه الشركة عائدة له وينكر صلته بالوثائق التي وردت في التسريبات، لكنه لم ينف انشاءه العديد من شركات الـ”أوف شور”، بل يجيب بوضوح أنه يفعل ذلك “للتهرب من الضرائب”.

واسم عاصي كان واحداً من بين عشرات الأسماء اللبنانية التي وردت في تلك الوثائق ضمن مجموعة لبنانية وازنة اختارت ملاذات ضريبية لتحمي بها ثرواتها وأموالها إما من الضرائب والرسوم أو لاخفاء الأسماء التي ترتبط بها. واسم عاصي ورد ضمن تسريبات شركة Trident Trust التي كان زبائنها اللبنانيون يتقدمون في العدد على زبائن دول أخرى مثل بريطانيا وفرنسا. 

كما ورد في “وثائق باندورا” اسم رجل الأعمال اللبناني قاسم حجيج الموضوع أيضا على لائحة العقوبات الأميركية.

ما يلفت هو أن الشخصيات اللبنانية التي لاذت بجنان ضريبية لاستثمار ثرواتها بعيداً من الأعين تفعل ذلك فيما آلاف اللبنانيين يكابدون لتحصيل مدخراتهم المحتجزة في المصارف بفعل الانهيار المصرفي الكبير عام 2019. هذا الانهيار تسبب به فساد النخبة الحاكمة، وهو وضع أكثر من نصف اللبنانيين تحت خط الفقر، بل إن فساد السلطة سبّب انفجاراً هائلاً دمر الواجهة البحرية للمدينة في آب 2020 فقتل وجرح المئات، لكن التركيبة السياسية الطائفية أعاقت تماما آليات المحاسبة. من هنا تبرز حقيقة الاستفادة الكبرى التي تنالها طبقة واسعة من السياسيين النافذين ورجال الأعمال في الجنان الضريبية في بلد مفلس ومنكوب يكافح ابناؤه للحصول على أساسيات العيش من كهرباء ووقود ودواء. 

صالح عاصي

من هو صالح عاصي؟

في سيرة صالح عاصي، وهو في العقد الخامس من عمره، الكثير من المفارقات، فهو نشأ في بيئة شيعية فقيرة في جنوب لبنان لعائلة يسارية المزاج وانتسب بعض أفرادها للحزب الشيوعي، ووالده كان شرطياً محدود الدخل. 

كان هذا الفقر شائعاً في أوساط شيعة لبنان الذين كانوا على هامش الإزدهار الذي شهده لبنان في ستينات وسبعينات القرن الفائت والذي كان يتمحور حول المسيحيين بدرجة أولى والسنة بدرجة أقل في سياق التركيبة الطائفية القائمة.

في مرحلة ما بعد الحرب ومع صعود حزب الله بدعم إيراني ونمو قوته وتمدده في أوساط شيعة لبنان والخارج، تبدّل هذا الأمر، فباتت نخب مالية شيعية حاضرة بقوة.

يستذكر عاصي فقره السابق وفقر بيئته: “كانوا الشيعة يشتغلوا بالفعالة هلق ليكي وين صاروا”، مشيرا الى مفارقة كونه يسكن المبنى الاغلى ثمنا في لبنان وان هذا المبنى فيه كثير من الأثرياء الشيعة.

سافر صالح عاصي في منتصف الثمانينات الى إيطاليا لاستكمال دراسته في الهندسة وهناك بدأ، كما يقول، عمله كمترجم بين التجار لينطلق بعدها في مجال التجارة ولتوصله أعماله الى انغولا والكونغو في افريقيا.

مطّلعون على مسيرة عاصي يربطون بينه وبين نشاطات مشبوهة متنقلة بين إيطاليا وأفريقيا وعلاقات استفاد منها من خلال نسجه روابط وثيقة مع نخب حاكمة في الكونغو ساهمت في تقوية تجارته مستفيدا، كما كثير من الشخصيات المالية اللبنانية في افريقيا، من صلات مع حكام البلاد لتمتين أعمالهم. 

يسخر عاصي من هذه الرواية، ويكرر أن عمله “قانوني” وشفاف وأن استهدافه هو إما سياسي أو من منافسين، ويقدم نفسه كقصة نجاح لشاب من خلفية فقيرة تمكّن من الصعود. وعاصي اسم بارز في تجارة المواد الغذائية في الكونغو حيث تشير تقارير صحفية إلى مشاركته وشركاته في تحديد الأسعار في سوق الخبز حتى انه لقب بـ “ملك الخبز”، فهو يملك مخبزاً صناعياً ضخماً في العاصمة كينشاسا.

يقول عاصي لـ”درج”، “كنت فقيراً وكنت اعتقد ان من معهم مال قذرون. أنا لم آكل اللحم في لبنان لكن أكلته في إيطاليا التي احبها واعتبرها بلدي. انا الان اعمل في قطاع الخبز الذي يأكله الفقير وأربح “على ضهره”. اعمل بالطحين والسمك. الكيلو مثلا يكلف دولاراً أبيعه بـ 2 دولار. بحسب الماركسية هذا غير مقبول لكن هذا في النهاية عمل”. 

يحاول عاصي عبر مسار قانوني صعب رفع العقوبات عنه وهو ينكر تماما تهم مساهمته في تبييض أموال لصالح “حزب الله”، ويشكو من أن العقوبات سببت عراقيل له ولعائلته: “هذه افتراءات. اريد ان أبرهن براءتي من تهمة تمويل حزب الله. اذا ابني بدو يفتح حساب بنك ما بيقدر”.

على مدى السنوات الماضية ربطت تقارير عدة بين عاصي وشخصيات أساسية وضعت ايضاً على لوائح العقوبات مثل أدهم طباجة الذي أعلنت الولايات المتحدة مكافأة باهظة لمن يدلي بمعلومات عنه. وتم فرض العقوبات على صالح عاصي لاتهامه بالعمل لصالح طباجة وبالتالي “حزب الله”. 

عاصي الذي يعتبر ان عملياته المصرفية شفافة وعبر المصارف اللبنانية. ربطت تقارير صحفية تركية في بدايات عام 2020 بينه وبين رجل الأعمال التركي سيزجين باران كوركماز الذي عقد عاصي شراكة معه لتفادي العقوبات من خلال استخدام تركيا كساحة بديلة. كوركماز تم اعتقاله في النمسا الصيف الماضي بتهم غسيل اموال واحتيال على الخزانة الاميركية بما يزيد عن مليار دولار. 

عاصي يقرّ في حديثه لـ”درج” بصداقته ومعرفته بكركماز لكنه نفى انه حاول ان يستخدم تركيا كساحة بديلة علما ان الصحافة التركية نشرت وثائق تثبت شراكات رسمية لعاصي في تركيا. 

يكتفي عاصي بالتعليق بأن مشاكل كركماز هي بسبب تضييق اميركي.

قاسم حجيج

قاسم حجيج 

تنتشر له على يوتيوب ومنصات اجتماعية فيديوهات فيها الكثير من صوره الشخصية مع العائلة وفي مناسبات اجتماعية مع شخصيات سياسية  واغاني تمتدح “كرمه” و”وطنيته”.

قاسم حجيج رجل أعمال لبناني ثري معروف، وهو ممن طالتهم العقوبات الأميركية وتحديداً عام 2015 اذ اتهم بدعم أنشطة “حزب الله” المالية في لبنان والعراق.

يعتبر قاسم حجيج أحد اركان الاغتراب اللبناني وكان رئيس الجالية اللبنانية في الغابون وقنصل الغابون في لبنان، فضلاً عن كونه رئيس بلدية دير انطار في قضاء بنت جبيل جنوب لبنان ورجل اعمال معروف. ويملك آل حجيج مؤسسات استثمارية عدة في لبنان أبرزها فندق «كورال بيتش» وبنك الشرق الاوسط وافريقيا MEAB.

بحسب بيان وزارة الخزانة الأمريكية، فإن حجيج “ساعد في فتح حسابات مصرفية لـ”حزب الله” في لبنان واستثمر في البنية التحتية التي يستخدمها حزب الله في كل من لبنان والعراق “.

تظهر “وثائق باندورا” أن حجيج هو مدير وحيد لشركة طيران خاص هي Comet Jet S.A ، وقد تم تأسيس الشركة بموجب قانون BVI Business Companies لجزر فيرجن البريطانية في 2009، وقد استخدم حجيج في المراسلات كشوف حسابات من مصرفه في لبنان MEAB.

اللافت أن Comet Jet هي أيضًا عضو في Phoenix XXVI Aviation إلى جانب شركة Imperial Jet اللبنانية التي خسرت مؤخرًا تحكيمًا دوليًا ضد الدولة اللبنانية. فقد زعمت الحكومة اللبنانية أن شركة إمبريال جت كانت تعمل بشكل غير آمن، في حين رأت الشركة أنه تم سحب ترخيصها بشكل تعسفي لأسباب سياسية. 

هذه التفاصيل تطرح تساؤلات حول وجود علاقة بين Comet Jet التي يملكها حجيج وImperial Jet التي خاضت منازلة قضائية شرسة مع الحكومة اللبنانية، بحيث واجه لبنان احتمال دفع تعويضات محتملة تزيد على مليار دولار. 

السؤال يبدو منطقياً خصوصاً أن لا أثر لشركة Comet Jet، اذ لم نجد لها موقعا إلكترونيا، وليس واضحاً، في السجلّات، ما حلّ بها. 

“درج” حاول التواصل مع حجيج لكن لم يصلنا أي جواب منه.

قاسم تاج الدين

“حزب الله” ورجال الاعمال الشيعة: طوق من ماس

وجود اسماء رجال اعمال لبنانيين جرى ربطهم بحزب الله في “وثائق باندورا” يقود للبحث مجدداً عن واحدة من أكثر النقاط تعقيداً وغموضاً، أي تلك المتعلقة بتمويل “حزب الله” ونفوذه السياسي والمالي داخل الطائفة الشيعية والذي تنامى منذ انتهاء الحرب عام 1991 برعاية ايرانية.

شبكة هذا التمويل ترتدي أهمية تحت وطأة الانهيار الذي يشهده لبنان في ظل سلطة مرعية بشكل شبه كامل من “حزب الله” الذي وقف سداً منيعاً لحماية عهد الرئيس ميشال عون ورموزه في وجه التظاهرات الاحتجاجية عام 2019، ومنع محاسبة الكثير من الطبقة السياسية بتهم فساد خصوصاً في جريمة تفجير مرفأ بيروت.

مع الأزمة الاقتصادية المستمرة والمتفاقمة أطلق حزب الله أو دعم العديد من المبادرات الخيرية التي تستهدف الأسر ذات الدخل المنخفض طوال عامي 2020 و 2021، فأصبحت مؤسسة مثل “القرض الحسن” أكبر منظمة تمويل صغرى في البلاد. في سبتمبر 2021 ، استورد “حزب الله” الوقود من إيران عابرًا من سوريا للتعامل مع أزمة الوقود المتصاعدة في لبنان فتم وضع الوقود في مخازن تابعة لشركة الأمانة الخاضعة للعقوبات الاميركية.

يشير الباحث السويسري من أصل سوري والأستاذ في جامعة لوزان في سويسرا ومؤلف كتاب “الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني” جوزف ضاهر في حديث لـ”درج” الى أن الحزب قدم هذا الشكل من الخدمات بوصفه، “نصرا سياسيا وجهادا ضد الحصار المفروض من أميركا، وعمّق الحزب من شبكات الرعاية الخاصة به للاستجابة للحاجات الاجتماعية الاقتصادية لبيئته. كل تلك الإجراءات ساهمت في تكريس سياسته في تعميق دور الدويلة ضمن الدولة في لبنان”. 

وتقوية النفوذ داخل البيئة الشيعية الحاضنة لا يكتمل من دون شيعة المهجر، فالصعود القوي للحزب في العقدين الأخيرين وتمدده عبر الحدود سهّل له الاحاطة الكاملة بالنظام الاجتماعي والمالي لشيعة افريقيا واميركا اللاتينية.

لا أرقام رسمية واضحة لمالية “حزب الله” لكن التقديرات تتحدث عن ميزانية تصل الى نحو مليار دولار سنوياً تذهب في جزئها الأكبر لتغطية رواتب حوالي مئة ألف موظف، فـ”حزب الله” هو ثاني أكبر مشغل بعد الدولة اللبنانية. 

التعاملات المالية لـ”حزب الله” نقدية في الغالب كون النظام المصرفي مراقب او تطاله العقوبات، لذلك يصعب معرفة حجم تلك التداولات بدقة، لكن من التقيناهم في سياق هذا التحقيق، يؤكدون أن طرق حقائب المال النقدي لـ”حزب الله” سالكة إلى لبنان.

صحيح أن الدعم الأكبر لـ”حزب الله” يأتي من إيران لكن مع استمرار العقوبات والقيود يواصل الحزب البحث عن مصادر تمويل مختلفة. من هنا يبدو اهتمام “حزب الله” بتعزيز نفوذه وروابطه مع شيعة المهجر خصوصاً في غرب ووسط إفريقيا حيث أنشأ شبكة هامة بين رجال الأعمال.

يشير الباحث جوزف ضاهر الى العلاقة المتشابكة بين “حزب الله” ورجال أعمال شيعة لبنانيين: “مع نمو هيمنة حزب الله في البلاد في العقد الماضي، كان يُنظر إليه على أنه الخيار الأفضل للجزء الشيعي من البرجوازية في لبنان وفي الشتات لخدمة مصالح البلاد على أفضل وجه. والعقوبات التي فُرضت على الحزب وبعض رجال الأعمال دفعت الكثير من رجال الأعمال لإخفاء هذه الصلات لأسباب واضحة. في الوقت نفسه، وبسبب هيمنة حزب الله في لبنان، اندفع بعض رجال الأعمال للتعامل معه للاستفادة من بعض العقود والمزايا”.

هناك أسماء معروفة تم فرض عقوبات عليها من قبل الولايات المتحدة مثل – عائلة تاج الدين، التي أدارت العقارات، وصدّرت الماس، وأسست متاجر كبرى وشركات تصنيع الأغذية في جميع أنحاء أنغولا وغامبيا وسيراليون والكونغو لسنوات عدة. تلعب الشركات الموجودة في غرب إفريقيا والمملوكة لرجال أعمال مقربين أو منتسبين إلى حزب الله دورًا في الدعم المالي من خلال مخطط مالي رسمي أو غير رسمي. بعض الانشطة شملت تجارة السيارات المستعملة والعقارات والاستيراد والتصدير.

وكان لافتاً إفراج الولايات المتحدة عن الشخصية الشيعية الأبرز من بين رجال الأعمال الشيعة المعاقبين أميركياً وهو قاسم تاج الدين الذي كان مداناً ومسجوناً في الولايات المتحدة ومتهماً بتبييض أموال طائلة لـ”حزب الله” لكنه خرج في ملابسات غير واضحة عام 2020، بعدما تم تبرير ذلك بوضعه الصحي وبدفعه غرامات عالية. لكن تقارير صحفية أشارت الى أن تاج الدين خرج بصفقة مبادلة تم بموجبها الإفراج في لبنان عن العميل الاسرائيلي السابق اللبناني الاميركي عامر فاخوري، والذي له سمعة سيئة بوصفه أحد جلادي معتقل الخيام سيئ الذكر خلال الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان. 

لتاج الدين موقع بارز على ما يبدو لدى “حزب الله”، يفسر قبول الحزب بالإفراج عن عميل اسرائيلي وتجاهل الغضب الواسع الذي اشتعل في لبنان في داخل البيئة الشيعية جراء ذلك. عند الإفراج عن تاج الدين استقبل استقبالاً حاشداً في بيروت وهو اليوم في لبنان لكنه بعيد عن الحضور العام. 

الباحث جوزف ضاهر يرى أن الكلام عن اعتماد “حزب الله” على شبكة رجال أعمال شيعة للتمويل يبقى مضخّماً: “الدعم المالي الرئيسي مصدره إيران، وبشكل خاص ولاية الفقيه، مؤسسة آية الله خامنئي، التي لها ميزانيتها ومصادر تمويلها المنفصلة عن الميزانية الإيرانية. لكن تنوع التمويل هو ضرورة لحزب الله، خاصة مع تصاعد العقوبات والمضاعفات وتنامي نشاط الحزب في لبنان وأماكن أخرى. وتخدم شبكات رجال الأعمال الشيعة المنتسبين للحزب هذا الغرض”.

الانطباع العام عن “حزب الله” بين الكثير من أنصاره وخصومه ايضاً أنه ليس حزباً فاسداً بمعنى أنه من غير المعروف عن قياداته المباشرة مظاهر ثراء بارزة، وهو ما جذب إليه الكثير من التأييد بوصفه أقرب إلى اليسار، على عكس حركة أمل التي يجاهر كثيرون من قلب الحاضنة الشعبية الشيعية باستيائهم من تثبيت دورها كركن أساسي في منظومة الفساد اللبناني.

مهند الحاج علي، مدير الاتصالات والإعلام وباحث مقيم في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت لا يرى أن “اليسارية” المزعومة للحزب لها أرضية فعلية، “حزب الله هنا ليس يسارياً أو صاحب مشروع للنهوض بالشيعة من حالة الفقر وتنمية المناطق المهمشة، بل بالعكس، يتبنى التنظيم سياسة نيوليبيرالية اقتصادياً، ويتحالف مع تجار حديثي النعمة بنوا قدراتهم المالية في افريقيا، وبشكل منفصل عن الاقتصاد العالمي الذي يتطلب قدراً من التعليم والثقافة واللغة غير متوافر غالباً بين هؤلاء. عملياً، لا توجد أساسات فعلية قابلة للصرف في الاقتصاد اللبناني، خارج إطار القوة المفرطة لحزب الله. اذا نظرنا للقطاعات الاقتصادية ما زال الشيعة محدودي التأثير في أغلبها، من الصناعة والسياحة إلى القطاع المالي”. 

يرى الحاج علي أن هناك حساسية لدى الثنائي الشيعي المسيطر تجاه البورجوازية والنخب الشيعية التقليدية، “ينقسم الأثرياء إلى أولئك المتحدرين من نخب تقليدية، اجتماعياً (ملاك أراضي وتجار مهاجرون)، وحديثو الثراء من أبناء القرى الجنوبية المهاجرين إلى أفريقيا. “حزب الله” أقصى النخب الشيعية التقليدية وأخرجها من المعادلة برمتها، من الاقتصاد والسياسة بشقيها الوطني والمحلي، وقبض بشكل كامل على الفضاء العام. بدعوى مجابهة أميركا واسرائيل ووسط سردية من المؤامرات اللامتناهية، تسود حالة قمعية بدرجة أعلى من الطوائف الأخرى بحجة تحصين الجبهة الداخلية. في مناطق هيمنة الحزب، لدى حزب الله مفهوم الأمن الشعبي بحيث يلعب الأهالي دوراً أو نوعاً رقابياً مشدداً تجاه الخارجين عن الإجماع تحت غطاء هذه المواجهة الكبرى”.

ويضيف، “لهذا يبقى الإحساس الشيعي العام بالتقدم منسوباً بالكامل لحزب الله وقوته العسكرية، ولا يتجاوزها بأي شكل آخر، لهذا يُمثل رافعة اجتماعية شديدة الفظاظة وغير مستدامة”.

ناظم سعيد أحمد

ألماس ولوحات و… مقاومة

الشعور بالصعود الاجتماعي والسياسي بسبب قدرات “حزب الله” العسكرية في مواجهته إسرائيل خلال حرب 2006 وتعاظم نفوذه داخل لبنان، رائج في أوساط كثير من أثرياء الشيعة الذين برزوا في العقدين الأخيرين، الذين يحاولون الموازنة بين علاقاتهم السياسية داخل لبنان وأعمالهم خارجه.

“أنا افتخر انني من جنوب لبنان.. كان ابن الجنوب من 70 سنة لورا ما في بنطلون على جسمه. الفقر كان آكل الدنيا والواحد بدو يتدين مصاري حتى يعمر بيت صغير”، يقول ناظم سعيد أحمد في حديثه لـ”درج” في لقاء في شقته الفخمة في وسط بيروت والتي حولها الى متحف متجدد مليئ باللوحات القيمة والتحف الثمينة، حتى لا يكاد يخلو جدار في منزله أو زاوية من تلك القطع.

تنقّل أحمد في عمله ما بين تجارة الألماس بين أفريقيا وبلجيكا، التي يحمل جنسيتها، وجمع وبيع اللوحات والقطع الفنية. لم يرد اسم أحمد في “وثائق باندورا” لكن اسمه اقترن بصالح عاصي وبقاسم حجيج في ملف العقوبات وكان هذا مدخلاً لمحاولة الاقتراب من قصته.

يسهب أحمد في الحديث عن كفاح عائلته، وكيف هاجر جده من بلدته حاريص جنوب لبنان بسبب الفقر الى افريقيا مطلع القرن الماضي، وكم عانى والده هناك قبل أن يبدأ بتجارة الماس في سيراليون والتي أصبحت تجارة العائلة بين أفريقيا وبلجيكا التي تعتبر مقرا رئيسيا ايضاً في تجارة الالماس. 

لكن هذه الاعمال كانت، بحسب الخزانة الاميركية التي فرضت عقوبات على أحمد، مجرد واجهة لتبييض ملايين الدولارات من الأموال لصالح “حزب الله”، بل واتهمت الخزينة الاميركية أحمد في بيان رسمي بأنه يمول أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله شخصياً.

يبتسم ناظم لدى سؤاله عن هذه التهم ولا يجيب عن علاقته بنصرالله وقيادات “حزب الله”، ويختزل تلك التهم بأنها حرب ضد الشيعة، “اتهموني بانني حزب الله. انا جسمي لبيّس لأني اصوم واصلي وانا افتخر بمن نحن ومن اين نحن”. 

يلفت أحمد في حديثه الى استمرار حضور نخبة شيعية ثرية في لبنان في مقابل هجرة نخب كثيرة من طوائف أخرى للخارج، “نحنا الشيعة مآمنين بالبلد وما فينا نكون الا هون، خاصة بالحرب اللي قايمة علينا”.

قصة اتهام أحمد بأنه ممول أساسي لـ”حزب الله” بدأت مع بدء ازدهار أعماله كما يقول، وينسب الحملة ضده الى “تقارير استخباراتية بلجيكية” لشخصيات موالية لإسرائيل: “ضريبة النجاح بدأت بعد العام 2020 . بوقتها كنا نبيع بحوالي 450 مليون دولار سنويا. هذا الامر أزعج كثيرين وبدأت المعارك ضدنا.”

“حققوا معي وهذه القضية تبرأت منها في بلجيكا، اتهموني أني أموّل حزب الله وأثير النعرات الطائفية. من فعل ذلك هو ضابط مخابرات بلجيكي يهودي ولاؤه لإسرائيل. انا عندي أصدقاء يهود وليسوا مع اسرائيل ومنهم ضد اسرائيل. هذا عمل موساد. التقرير نشر في صحف بلجيكية وبعدها عقدت لجنة تقصي حقائق عن الكونغو وصدر تقرير عن الأمم المتحدة بأننا نمول حزب الله والقاعدة وهذا هراء لأن التنظيمين ضد بعضهما بعضاً. استغرق الأمر سنوات قبل أن يطوى الملف”.

لكن طي ملف أحمد في بلجيكا لم يمنع استمرار الاتهامات له خصوصاً مع تزايد نشاطه في مجال القطع الفنية الثمينة.

وسوق الفن معرّض بشكل خاص للالتفاف على العقوبات لأنه يمنح المشترين والبائعين درجة عالية من إمكانية إخفاء الهوية مع القليل من الشفافية، وفقًا لمكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية.

غالبًا ما يتم استخدام الوسطاء والشركات الوهمية لشراء أو بيع أو الاحتفاظ بأعمال فنية باهظة الثمن ولتقديم مدفوعات وتلقيها، مما يسمح للجهات التي تقف خلفها بإخفاء هويتها. 

في تبرير العقوبات الاميركية على أحمد ورد اتهام له بأنه خزن بعض أمواله الشخصية في أعمال فنية قيّمة “في محاولة استباقية للتخفيف من آثار العقوبات الأمريكية”. 

لا يخفي ناظم أحمد شغفه بجمع القطع الفنية إذ يقوم بتحميل صور “كنوزه” بشكل دائم على صفحته الخاصة على انستغرام، حيث لديه ما يقارب الـ190 ألف متابع منتظم، ويجري من خلالها مقابلات مباشرة مع فنانين في دول مختلفة ويجري نقاشات مع متابعيه.

بعض مجموعاته تعرضت لأضرار جراء انفجار مرفأ بيروت صيف 2020 لكنه أعاد ترميمها .

يفاخر أحمد بمجموعته الفنية في المبثوثة في كافة أنحاء المنزل ويهتم بأن يراها زواره ويلفت إلى قطع عدة للفنان الاسباني خافيير كالينغا” وأنه كان من أوائل من انتبهوا لموهبته، “اشتريت منه 8 لوحات كانت الوحدة بـ 7000 يورو. اليوم لوحته بتوصل لمليون ونص يورو”.

رغم الشغف الذي يظهره أحمد إلا أن الاتهامات الأميركية تشير الى أنه اختار الفن كغطاء لعمله الأساسي باعتباره سمة النخب الراقية البعيدة من الشبهات. 

ومسألة الفن وغسل الأموال أمر يدور النقاش حوله منذ مدة لاسيما أنه لا يمكن التحكم في معظم المعاملات التجارية الفنية التي يتم إبرامها، ولا يتم الكشف عن هويات البائعين والمشترين، ولا حتى أماكن تواجدهم، فقيمة الأعمال الفنية تقديرية ونسبية في طبيعتها، لذلك من السهل تضخيمها حسب الحاجة، ما يسمح بنقل مبالغ مالية كبيرة للغاية، إضافة إلى المضاربات، وانتشار الأعمال المزورة.

يدرك  أحمد كل هذه الاتهامات ويرد عليها، “عاقبوني بالفن. انعمل قانون من ورايي عن الفن ” لافتاً الى القيود الأميركية التي فرضتها الولايات المتحدة بعد فرض العقوبات عليه واتهامه باستخدام الفن كواجهة أنشطة مشبوهة.

في منزل أحمد يبدو الحديث عن القطع الفنية شأناً عائلياً فابنته الكبرى هند تملك معرضاً فنياً في وسط بيروت،” أنا خليت اولادي يعشقوا الفن .. الله اعطاني عين بتشوف الفن”.

ريما زوجة أحمد وأم ابنائه الستة تقول إنهم منذ ان كانوا في بلجيكا دأبت على أخذ ابنائها الى المتاحف، “زوجي عنده شغف بالفن وزوجي بيقعد من الصبح لليل كل ما يكون عنده وقت او عنده اجتماع بيطّلع بالفن. ببلجيكا كل الوقت كنا نروح على متاحف. نحنا أشبعنا عيون أولادنا فن”. 

يتمتع أحمد أيضا بعلاقات مع العديد من ممولي “حزب الله” المصنفين على لوائح العقوبات الأميركية، بما في ذلك قاسم تاج الدين ومحمد بزي، حتى أن العقوبات ربطت بينه وبين صالح عاصي وأدهم طباجة وقاسم حجيج في قضية شراء أرض مقابل 240 مليون دولار اعتبرتها واشنطن واجهة لصفقة لحزب الله وكانت أحد أسباب العقوبات عليه.

يقول أحمد، “انا بعرف كل الناس بالبلد.. انا قاعد هون وعندي علاقات مع الكل. 

 “اشتريت اراضي فجن وليد جنبلاط وسعد الحريري واتهموا انو حزب الله عم يشتري. معقول يعني حزب الله بحاجة يشتري ارض حتى يبعت صواريخ على فلسطين؟ اشتريت الارض انا والحج قاسم حجيج. كان معي 150 مليون قلت للحج قاسم دقيتلوا ناقصني 70 مليون بتشارك  قلي اي”.

ويكمل، “الشيعة مستهدفون. انا معروف بالبلد وما في يوم مشتغل مع حدا.. لا بشتغل لا بالبنزين ولا بالنفط. ومصاري ما عندي هون بالبنوك. رياض سلامة (حاكم مصرف لبنان) سكرلي حساباتي”. 

إقرأوا أيضاً:

تشابك السياسة والمال

العلاقة مع رجال أعمال شيعة أخذت أبعاداً أكثر تعقيدا مع تقاسم نفوذ الطائفة بين القطبين الأكبرين “حركة أمل” “وحزب الله”. صحيح أن لـ”حزب الله” الحضور الأقوى لكنه ترك هامشاً أساسيا لحليفه رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل نبيه بري الذي يقترن اسمه واسم افراد من عائلته بالكثير من الصفقات والاثراء غير المشروع. 

ولعل قضية صالح عاصي مع القضاء اللبناني نموذج لتشابك العلاقة بين السياسة والمال وتوزيع الادوار بين القطبين الشيعيين، ففي سجل عاصي دعوى قضائية في النيابة العامة الاستئنافية عام 2018 جرى اتهامه فيها باستهداف شخص وتهديده والاعتداء عليه في الكونغو وقد وضع في الدعوى عنوان مختلق لعاصي، وسريعا ما وضعت اشارة على اسمه لاعتقاله فور دخوله مطار بيروت وهو اجراء تسبب بعدم عودة عاصي الى لبنان لنحو عام ونصف إلى أن أبطلت محكمة التمييز هذه الدعوى عام 2020. 

لهذه القصة خلفيات أساسية لكن لا يتم الحديث عنها علناً، لكنها نموذج عن امساك الثنائي الشيعي أمل و”حزب الله” بمفاتيح مالية أساسية عند اثرياء الشيعة عبر تقديم تسهيلات من جهة لكن مع أخذ الأثمان من جهة أخرى.  

رجل أعمال بارز ومطلع على القضية تحدث لـ”درج” طالبا عدم ذكر اسمه، يعيد قضية ملاحقة عاصي في لبنان الى توتر في العلاقة بين عاصي وبين أحمد البعلبكي وهو المستشار الأمني للرئيس بري. 

 في بلد ينخره الفساد والطائفية لم يكن صعباً تحريك ملف قضائي في حق عاصي كي يرضخ، “لو كان عاصي محسوباً على حزب الله هل كان سيجرؤ أحد على تهديده؟ ها هو وفيق صفا (مسؤول رفيع في حزب الله) يهدد القاضي بيطار (محقق انفجار مرفأ بيروت). لو كان عاصي ممولا للحزب لما كان غاب عن لبنان لأكثر من سنة ولما كان يعيش الان بعيدا عن الانظار يتحاشى الظهور العام”، يقول رجل الأعمال لـ”درج”. 

يعيدنا ذلك إلى حقيقة موازية وهي أن العقوبات أعقد من علاقة رجال الأعمال الشيعة بـ”حزب الله” وان كانت لا تنفيها، والإدارة الأميركية نفسها ليست بعيدة عما تمثله هذه الثروات من احتمالات فساد ومقايضة، وما اللجوء الى الـ”أوف شور” سوى قبول للنظام المالي الذي تتصدره أميركا بأشكال الالتفاف على العقوبات، ولكنه أيضاً قبول بإخفاء مصادر الثروات.

إقرأوا أيضاً: