fbpx

تقنيّات البؤس: تمارين تحضيراً لزمن العتمة الشاملة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم نكن نحن المواطنون اللبنانيون لنصدّق ان كل هذه المآسي ستحدث لنا يوماً ما. وقد يكون في عدم التصديق هذا عُطباً ما أصاب عقولنا فعطّل القدرة على التخيّل والتوقُّع.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تكاد شركة كهرباء لبنان أن تقترب من التوقف التام عن إنتاج الطاقة وتوزيعها في طول البلاد وعرضها. هذا ما أفادت به إدارتها الفنية في بيان صادر عنها منذ أيام قليلة. تأتي هذه “الإفادة” كنتيجة حتمية مأساوية لبلد انهارت عملته النقدية ووصل اقتصاده الوطني الى الحضيض ونخر الفساد مؤسساته كلها في ظل سُلطة حُكم أمراء الحرب اللبنانية وزعماء الطوائف والمذاهب الدينية بتحالف مع أسوأ طبقة اوليغارشية، مُتسببين، هؤلاء جميعاً، بوصول 82% من الشعب اللبناني الى الفقر.

لم نكن نحن المواطنون اللبنانيون لنصدّق ان كل هذه المآسي ستحدث لنا يوماً ما. وقد يكون في عدم التصديق هذا عُطباً ما أصاب عقولنا فعطّل القدرة على التخيّل والتوقُّع. 

فأنْ نعيش يومياتنا على تقنين الطاقة الكهربائية لساعات محددة، كان امراً قد أصبح مقبولاً من جانب اللبنانيين منذ زمن بعيد، يعود تاريخه إلى سنوات الحرب الأهلية اللبنانية. ومذذاك الزمن اعتاد اللبنانيون التقنين الكهربائي واستعانوا عليه بضوء الشموع والقناديل واللمبات الصغيرة التي تعمل على بطارية السيارة.

وبالرغم من استمرار هذا التقنين في الطاقة الكهربائية حتى بعد توقف الحرب سنة 1990 ، استمرَّ الشعب اللبناني يُنتج حياته في الاقتصاد والتجارة والثقافة تعليماً وانتاجاً فنياً من ادب ومسرح وموسيقى وفنون تشكيلية، على ضوء ما تيسّر من كهرباء.

ولكن أنْ يكتشفوا اليوم بأن بلادهم، بلاد “سويسرا الشرق” والإشعاع والنور، أصبحت مفلسة لدرجة عجزها التام عن انتاج الطاقة الكهربائية، فهو ما يدعوهم الى اليأس من دولتهم والحيرة في تدبُّر أمور حياتهم.

السؤال الاصعب اليوم هو كيف لكل هذا ان يسير في ظل انقطاع تام لكهرباء

“الدولة” وبتكاليف مالية باهظة لأسعار مصادر الطاقة البديلة من بنزين وفيول اويل ومولِّدات الاحياء الصغيرة؟ من اين للمواطن اللبناني المُقيم ان يدفع هذه المبالغ الخيالية وقد تآكل دخْله الشهري وتبخّر معظمه تحت وطأة التضخم وانهيار العملة الوطنية؟ كيف تنهض الصناعة الوطنية؟ وكيف تفتح المدارس والجامعات والمسارح ودور السينما أبوابها من دون كهرباء؟ وكيف تدور عجلة الإنتاج الثقافي والفني؟

في منتصف سبعينات القرن المنصرم كان لبنان مُكتفياً بالطاقة الكهربائية، وما زاد عنه باعه الى الدول المجاورة. قبل ذاك الزمن بقليل غنّت المطربة اللبنانية صباح من ألحان وليد غلمية وكلمات ميشال طُعمة : ” مرحبا يا حبايب/ يا حبايب مرحبا/ نوَّرتونا يا حبايب/ طفّوا نور الكهربا… “. وقبلها بسنوات ايضاً غنّت فيروز من ضمن مسرحية الليل والقنديل اغنية من كلمات وألحان الاخوين رحباني : ” ضوّي يا هالقنديل/ ع بيوت كل الناس/ ع ليل كل الناس/ ع سطوح حِلْياني دواليها/ ع ضياع ما بعرف اساميها”. في كلمات الاغنيتين ثمة احتفاء جميل بالضوء والنور. نور الحبايب (المُستثمرين) الساطع. ووضوء القنديل (الخير) يشع على كل شيئ ليزيل العتمة (الشر).

هذا الاحتفاء الفني/ المجازي والساذج بالطاقة نوراً وضوءً، ما كان ليحْدُث لولا وجود طفرة ثقافية حقيقية عاشها لبنان في الخمسينات والستينات، تأمّنت بفضل ازدهار اقتصادي رعته طبقة سياسية كان من بينها رجال دولة من طراز فؤاد شهاب الذي بدوره أرسى مؤسسات خدماتية حيوية للدولة الناشئة حديثاً. فكان من هذه المؤسسات شركة كهرباء لبنان.

لكن الجدير بالذكر ان دخول الطاقة الكهربائية الى بيروت سبق بكثير اعلان دولة لبنان الكبير. ففي عام 1885  أجازت السلطة العثمانية انشاء اول محطة لتوليد الكهرباء. أما في مرحلة الانتداب الفرنسي فقد توسعت هذه المحطة واعطيت بعض الامتيازات في الإنتاج والتوزيع لعاملين في القطاع الخاص من دون ان تشمل الأراضي اللبنانية كافة. واستمر هذا الامر بعد الاستقلال مع توسُّع اكبر ليطال المدن الرئيسية من دون الأرياف. وصولاً الى سنة 1964 وفيها أنشأت الدولة اللبنانية شركة كهرباء لبنان كاحتكار حصري وخاص بها لإنتاج وتوزيع الطاقة الكهربائية.

في السبعينات وصلت قدرة إنتاج الشركة الى الحد الذي سمح لها ببيع الكهرباء الى سوريا. مرحلة الثمانينات بدأت رحلة الصعوبات ومن ثم التعثر. ومع توقف الحرب وصلت الشركة الى درجة الانهاك وبات وضعها على كل المستويات لا يُبشر بالتفاؤل. تصارع حينها فريقا الحكم. فريق رجال الاعمال الجدد يخططون لتخصيصها وبيعها للقطاع الخاص الذي يملكون فيه الحُصة الأكبر، وفريق آخر مشكّل من عُصبة امراء الحرب يرفضون خصخصة الشركة بحجة أنها ملكية لعموم الشعب اللبناني. في الوقت الذي كان جُلّ هدفهم تسخيرها لمصالحهم السياسية، بحيث استعملوها فيما بعد لأكبر عملية توظيف لأزلامهم والمحسوبين عليهم، ولإتمام صفقات السمسرة ونهب المال العام. 

إنَّ المفارقة هُنا في مأساوية التداعيات التي ممكن ان تحصل نتيجة لتوقف وزوال شركة كهرباء لبنان، ومن دون ان يواجه البلد كياناً ودولة احتمالات التحلل والزوال، هي مفارقة غريبة مُحصلتها سلبية في مطلق الاحوال.

فإذا أخذنا الاتحاد السوڤياتي كمثلٍ لكيان زال وانتهى الى غير رجعة، نلاحظ ان مُعظم البنية التحتية للاقتصاد بقيت وعلى رأسها المحطات الكهربائية التي لعبت دوراً أساسيا في إعادة تشكيل الدول الجديدة المُنبثقة عنه. عِلماً ان هذا الاتحاد السوڤياتي بدأ فقيراً مُعدماً لا يملك من الطاقات والموارد الاقتصادية ما يكفي لتحقيق ما وضعته الثورة كهدف أساس لها: وهو إقامة المجتمع “الشيوعي”.

فحين رفع لينين شعاره الشهير سنة 1920  “كل السلطة للسوڤيات زائد كهربة البلاد…”، كان يقصد ان لا نمو من دون كهرباء وصناعات ثقيلة، ولا تطور في القضاء على الاُميّة ونشر التعليم والثقافة من دونها ايضاً. كانت الطاقة الكهربائية بحسب لينين جسر العبور الوحيد الى اشتراكيته.

مات لينين، ومات من بعده كُثر، وانتهت تجربة النظام الاشتراكي الى فشل ذريع في التطبيق والنظرية. توقف الاتحاد السوڤياتي عن الوجود ومعه زالت كل منظومة الدول الاشتراكية. ولكن بقيت محطات الطاقة الكهربائية موجودة تُنتج لانها كانت عصب الحياة وبقيت معها العلوم والفنون مخزوناً ثقافياً مُستمراً يدلُّ على التاريخ الحضاري لهذه الشعوب التي اعادت صياغة كياناتها في دول جديدة ومُستقلة.

لا أشير الى هذا المثل لأقول إن لبنان اليوم بحاجة الى قائد مثل لينين… أعوذ بالله من هذا القول! ولكني اتقصَّد المِثال لأُبْرِز المفارقة “الپارادوكسية” بشكل معكوس. فإذا كان لبنان كدولة مُفلسة مالياً، سلطته مأزومة وعاجزة، والكهرباء التي هي عصب الحياة ستتوقف حتماً ومعها سيتوقف كل شيئ… فكيف اذاً لا يزول هذا البلد بكل سُلطاتة وحُكّامه؟

يُخطئ من يُجيب، مُعتقداً عن حُسن نية او سوئها، بأن لبنان بلد تتمثل فيه اسطورة طائر الفينيق وكل هذا اللغو والانشاء الساذج. فالمُرجح ان لبنان كبلد باق فقط بقوة الأمر الواقع، أي واقع الجغرافيا السياسية المحيطة به، وحُكامه المعرفون باقون لكون المُنتفضين في ١٧ تشرين الأول/ اكتوبر فشلوا في جعلهم يتنحّون جانباً.

نعم، البلد باقٍ وحكّامه الفاسدون باقون ايضاً. ولكنه سيكون بالتأكيد بلداً معزولاً ومفصولاً عن شبكة العالم الحديث، وسيصير بلداً فقيراً متخلّفاً بكل المقاييس، ليعيش شعبه في زمن ما قبل اكتشاف الطاقة الكهربائية، مُتكلاً على مساعدات وإعانات الدول الغنية.

يحْدث كل هذا بـ”فضل” حُكّامه المؤبَّدين في مواقع السلطة، إذْ لا قدرة لأحد في العالم على ازالتهم وجعلهم يتنحّون عن مواقع القرار او على الأقل إجبارهم على تغيير سلوكهم وسياساتهم الفاشلة. 

نعم، البلد باقٍ وحكّامه الفاسدون باقون ايضاً. ولكنه سيكون بالتأكيد بلداً معزولاً ومفصولاً عن شبكة العالم الحديث.

هي سُلطة خُرافية لا تُنتج إلا العتمة الشاملة ولا تختلف في شيئ عن سلطة طالبان الجديدة في أفغانستان إلّا في الملبس والشكل الخارجي لحُكّامها. هذه السلطة التي فشلت تحركات انتفاضة 17 تشرين الأول/ اكتوبر بتغييرها، علينا اليوم ان نُسلِّم بوجودها بوصفها سلطة باقية إلى الأبد. علينا أن نعتاد على وجودها كما على اوضاعنا المُتأرجحة بين فقر متعدد الأبعاد وآخر مُدقع. 

 ولكي نعتاد على ذلك، علينا أن نمارس تماريننا اليومية في تقنيات البؤس تحسباً لزمن العتمة الشاملة. هي تمارين في التقشف والعزلة والنسيان. تقشف في كل مستلزمات الحياة المادية والثقافية. وعزلة داخلية وخارجية عن كل حداثة تجري في العالم. ونسيان كل الأوهام والخرافات.

ولا استثناء لأوهام الاستعانة بنور “حبايب” صباح كتعويضٍ عن نور الكهربا… ولا استثناء لخرافة ضوء قنديل فيروز، الذي عبره تمّت مصالحة عجائبية بين الخير والشر، كما في مجمل الخلاصات الأخلاقية لمسرح الأخوين رحباني، وتحديداً في مسرحيتهم الغنائية “الليل والقنديل” حيث ينتصر قنديل فيروز (منتورة مصدر الحب والخير) ليعود قاطع الطريق المجرم (هَوْلو يلّي العتمي صاحبتو) تائباً بفضل الحب، مُرَجِّعاً الأموال المنهوبة الى اصحابها ومُعلِّقاً القنديل الكبير (رمز الاشعاع والنور) على مرتفع “ضهر الشير” ليُنير الطريق للمسافرين والعابرين، فيرتفع الحق ويتحقق الأمن والإزدهار.

قنديل منتورة هو ما يجب إطفاؤه تحديداً، لأنه أنار الخرافة في وعْيِنا. خرافة ان يتنكّر الشرُّ (وهُم حُكّام لبنان) بلباس الخير، ليوهِم البشر بقدرته العجائبية على الإصلاح والتغيير في البلاد والعباد. هي خرافة تسللت عبر وجداننا العاطفي والرومنطيقي، فاستقرّت في العقول لتُعطّل القدرة لدينا على التفكير والتخيّل والتوَقُّع. 

إقرأوا أيضاً: