fbpx

“لا مكان للحقائق في حربنا”: صحافي يمني يحكي عن أحوال المهنة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“حجم الصدمة يحجب القدرة على رؤية المشهد كلّه، لم يبقَ لنا سوى بعض الأحلام الجميلة في المنام، أما الواقع الشامل، فكابوس مؤرق”. يتحدّث الصحافي اليمني المعروف عبد الفتاح الحكيمي بمرارة عن الواقع الحالي في بلده

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“حجم الصدمة يحجب القدرة على رؤية المشهد كله، لم يبق لنا سوى بعض الأحلام الجميلة في المنام، أما الواقع الشامل، فكابوس مؤرق”

يتحدّث الصحافي اليمني المعروف عبد الفتاح الحكيمي بمرارة عن الواقع الحالي في بلده، خصوصاً لجهة دور الإعلام والصحافة في بلد يعيش حرباً وانقساماً ومآسياً إنسانية حادة، فيقول، “المشهد الإعلامي حاد وقاطع، لا مكان فيه للحقائق، فقط إما أن تكون معنا أو ضدنا، وقل ما شئت. للأسف أُلحِق الإعلام بآلة الحرب، وأصبح جزءاً مشؤوماً منها”.

يضيف الحكيمي (55 سنة)، “بوسعك أن تتسلّم المنصب الإداري الرفيع والحصول على مزاياه فقط من دون أن يسألك أحد ماذا تفعل أو ماذا قدّمت من منافع وأين أخفقت، وأين نجحت، تقاس على هذا أشكال المؤسّسات المختلفة القائمة في البلاد”.

يعاني جزء كبير من الصحافيين في اليمن في السنوات الأخيرة على نحو مقلق ولا يتقاضون ما يكفيهم من المال. ثمة انهيار للعملة الوطنية ويعيش معظم سكان هذا البلد المنكوب في معاناة كبيرة بفعل أمور كثيرة، كان آخرها اندلاع حرب مستمرة منذ نحو ثلاث سنوات ونصف السنة، ولا أحد يعرف إلى الآن متى يُمكن لها أن تتوقف.

في مرحلة مبكرة من عمله في ميدان الصحافة، كان وقتها في السادسة والثلاثين من عمره تقريباً، شغل عبد الفتاح الحكيمي منصب نائب رئيس مجلس إدارة مؤسسة 14 أكتوبر للصحافة والطباعة والنشر، في عدن جنوب اليمن عام 1999، بقرار تعيين جمهوري من الرئيس السابق علي عبدالله صالح.

ربما كان لعمله في العاصمة اليمنية صنعاء، حين كان نائب رئيس تحرير صحيفة “الوحدة” عام 1995 ورئيس تحرير مجلة “معين” من 1995- 1999 الصادرتين عن مؤسسة الثورة للصحافة والطباعة والنشر، القريبة من مركز صناعة القرار السياسي، دور مباشر في هذا التعيين الجمهوري، إلا أنه كان وقتها من الأقلام الصحافية الشابة التي يُشار إليها بالبنان خصوصاً بوصفه قلماً سياسياً بارعاً، وكان يُتوقع له أن يكون في صدارة المشهد الصحافي في البلد، لا سيما بعد أن أصدر في العام ذاته 1999 كتاباً بعنوان: “النقد الأدبي والمعارك القلمية في اليمن”.
في الغالب فإن منصباً قيادياً في إحدى مؤسسات الدولة في اليمن قادر بما يكفي على أن يجعل شاغله يعيش في وضع مادي جيد. لكن هذا الأمر بدا غير صحيح بالنسبة إلى الحكيمي في نهاية المطاف.

عوضاً عن ذلك، اختفى الرجل من المشهد الصحافي في السنوات الأخيرة. بدا وكأنه ترك مهنة المتاعب، أو كأن متاعب الحياة هي من أخذته من مهنة المتاعب وراحت تبتلعه ليتوه في دهاليزها.

هاتفته، طالباً لقاءه. تعمّدتُ أن أحضر إلى مكان اللقاء بسيارتي الصغيرة قبل الموعد بخمس دقائق، فوجدته سبقني بالحضور على رغم ما به من علامات إنهاك بدت واضحة على ملامحه.

انطلقنا معاً، بعد ذلك، من منطقة “إنماء” إلى حيث يسكن في منزل أرضي صغير متواضع بكل ما تحمله الكلمة من معنى في منطقة ترابية بعيدة من المدينة تدعى “أبو حربة” في الخط الرابط بين مديرتي “المنصورة” و”البريقة”.

بدأت أحاول ترتيب بضعة أسئلة عن تجربة صحافي عايش تجارب مهمّة في اليمن. وفي رأسي راحت أسئلة أخرى باحثة عن أجوبة تشرح أسباب المآل الذي يؤول إليه كثر من صُنّاع الرأي في بلد أنهكته صراعات دامية على السلطة كما لم تفعل مع بلد آخر.

“يعيش الحكيمي، مثله مثل كثر من الصحافيين في اليمن، في واقع صادم ومرير وغير عادل إنسانياً بالمطلق. يتقاضى الحكيمي الآن راتباً شهرياً يعادل 215 دولاراً فقط”

يعتقد عبد الفتاح الحكيمي أن مرحلة ما بعد عام 1990 لها سمات خاصة في تجربته، فقد نقلته إلى قاعدة قراءة وتفاعل واسعتين من حيث الجمهور والجغرافيا وتنوّع المادة الصحافية والواقع السياسي والاجتماعي نفسه في البلد، في إشارة إلى مرحلة ما بعد تحقيق الوحدة اليمنية بين الشطرين الشمالي والجنوبي في 22 أيار/ مايو. يقول عن تجربته،” في عام 1990.احتجتُ إلى 6 سنوات من العمل في منصب قيادي في إحدى المؤسسات الصحافية الحكومية لأكتشف أن مؤسسات الدولة ليست جزءاً من مشروع بناء الدولة الحقيقية في اليمن”.

يضيف الحكيمي: “كانت تقريباً مرحلة فارقة في حياة معظم الصحافيين والكتّاب والمبدعين اليمنيين لارتباطها بمناخ حريات محدود بعد وحدة 22 أيار 1990. لكن مرحلة البداية كانت منذ 1979 عندما نشرت في صحيفة  “14 أكتوبر” أولى مقالاتي وهي لحظات لم تغادر نفسي أيضاً، كان من الصعب على شخص مبتدئ مثلي أن  تنشر له الصحافة مقالة في الصفحة الأخيرة، لكن ذلك ما حدث عندما فاجأني الأستاذ محمد زين الكاف بذلك ونشر مقالتي عن التصحيح الإداري في عدن”.

كان الجو حاراً والرطوبة مرتفعة أثناء إجراء الحديث. عادة في مثل هذه الأيام من السنة تكون الأجواء خانقة في عدن. وتشتد المعاناة لدى سكان المدينة بفعل تردي خدمة الكهرباء وانقطاعها بشكل متكرر وعلى نحو منتظم.

شربنا بعض العصير والكثير من الماء. حاولتُ تلطيف الجو بعد أن شعرت بأن الإعياء نال من الرجل، فطلبتُ منه إن كان بمقدوره إحضار آلة العود لعلّها تأخذه إلى ذكريات جميلة.

بدا الأمر مناسباً له، ومريحاً في آن. أحضر العود من غرفة مجاورة وجلس القرفصاء كما يفعل معظم اليمنيين، وراح يدندن.

يقول الحكيمي: “الهوايات الشخصية تتميز بكونها من عوامل المتعة للأشخاص، فهي ليست قيوداً أو أعباء ثقيلة وإنما محطة استراحة ذهنية ونفسية، فهي فضاء”.

ويضيف: “أتذكر أنني التحقت بمعهد الفنون الجميلة في عدن أواخر سبعينات القرن الماضي، وكنت أدرس في قسم الهواة عصراً، ولم يؤثر ذلك في دراستي النظامية في فترة الصباح. للهواية الشخصية سحرٌ خاص يطغى على المشاعر، فلا تحس بوطأة الوقت أو غيره. مارست هواية العزف على آلة العود والغناء كأقرب الأشياء إلى نفسي، إنها غاية الامتاع الرباني”.

لكن العزف على آلة العود ليس كل ما كان يقوم به الحكيمي كمرادف لابتعاد قلمه من المشهد الصحافي.

“حاجتنا إلى الحرية تكون غالباً أكثر من حاجتنا إلى لقمة العيش. وفي اليمن، لا يتوفر لنا هذا أو ذاك”

يقول: “قبل الحرب كنتُ أبدأ يومي بالاطّلاع على مستجدات الأوضاع السياسية في البلد، ثم أواصل مشوار البحث العلمي في موضوع النباتات الطبية وأسمائها في اليمن الذي استغرق مني قرابة 8 سنوات إلى اليوم، أمضيت جزءاً من الوقت في التنقل بين مناطق كثيرة من البلاد للتعرّف إلى الغطاء النباتي والأعشاب التي تباع  في عطارات المدن، وما هو مشترك أو مختلف بين نباتات هذه  المناطق، ولم يتراجع اهتمامي بالموضوع بعد انفجار الحرب الشاملة في البلد”.

يواصل الحكيمي حديثه: “أنجزت معظم مادة البحث التي شملت أكثر من 400 نوع نباتي تُستعمل كلها في الطب الشعبي، وتُستخلص منها أدوية بالطرائق الصيدلانية الحديثة”.

و”لا يفوتني في المساء أن أغسل تعب النهار بدندنات على العود تجدد حيويتي ونشاطي” يضيف الرجل.

يعيش الحكيمي، مثله مثل كثر من الصحافيين في اليمن، في واقع صادم ومرير وغير عادل إنسانياً بالمطلق. يتقاضى الحكيمي الآن راتباً شهرياً من مؤسسة “14 أكتوبر”، يعادل 215 دولاراً فقط. في حين يتقاضى وكيل في وزارة الإعلام 4500 دولار في الشهر. لا تقف الكوميديا السوداء بين راتبي الاثنين كمفارقة ظالمة، بل أيضاً في الفارق بين عُمر الاثنين. 20 عاماً الفارق الزمني بين عمري الاثنين.

ما زالت الحرب مستعرة في اليمن، ومستمرّة بوتيرة عالية، ومعها انهار كل شيء بما في ذلك أخلاق كثر من الناس. لا أحد يعرف على وجه الدقة متى قد يتوقف كل ما يحدث في هذا البلد.

يعتقد الحكيمي أن “الحرب في اليمن تفتقر إلى كل أخلاقيات وقواعد الحروب، آلاف المدنيين غير المحاربين قُتلوا ظلماً، دائرة الفقر والعجز المالي استوحشت، فقدت العملة الوطنية قيمتها قرابة مرّتين وأجور الموظّفين في الحضيض، وطبقة طفيلية فتّاكة صاعدة من أنقاض الحرب والدمار ترتزق من المال العام وترضع الفوضى، تدمير شامل للبنى التحتية والمساكن”.

يضيف: “ازدهر عالم المخدّرات والبطالة وتراجع التعليم والأمن إلى الحضيض، وكل ما له علاقة بالحياة مشلول ومترنّح تماماً، ويقال مع ذلك الإيمان يمان والحكمة يمانية، وذلك قول فيه تخصيص لمناسبة قديمة فقدنا معها الحكمة التي لا تناسبنا بنا اليوم، فاستبدلناها بالجنون”.

ما زال كثيرون من الناس غير مصدّقين ما يحدث في بلدهم. يقول الحكيمي: “ما لم أكن أتوقعه هو تفكّك منظومة القيم الاجتماعية وانهيارها بهذه السرعة، أما الصراع الدموي على السلطة فكان يخبو بنذره من تحت الرماد. لا يوجد مشهد عام واضح  في اليمن، توجد الفوضى الشاملة والحزبية والميليشيات كبديل عن لغة السياسة، والصحافة والإعلام هي الأكثر تعبيراً عن التشوّهات الفكرية وأخلاقيات الحرب”.

تنظر السلطة في اليمن إلى مهنة الصحافة وفق معيار غير تقديري، أو هو “كارثي” وفق تعبير الحكيمي، “إذا لم توفر الدولة الحد الأدنى من الحياة المعيشية الكريمة للصحافي والكاتب وغيرهما؛ فعليها على الأقل كف الأذى عن ملاحقة الصحافيين والتضييق على حياتهم الخاصة، هنا تكون بيئة العمل الصحافي مقدمة على  توفّر وسائل العيش التقليدية” يقول الحكيمي.

ويضيف: “حاجتنا إلى الحرية تكون غالباً أكثر من حاجتنا إلى لقمة العيش. وفي اليمن، لا يتوفّر لنا هذا أو ذاك”.

إقرأ أيضاً: طرقات وحواجز ومعابر: كيف قطّعت الحرب أوصال اليمن