fbpx

“العدالة والتنمية” المغربي…
خسر الانتخابات لكن ليس الأيديولوجيا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لعله من الأكثر إفادة وحكمة دراسة تجربة “العدالة والتنمية” كمنظمة سياسية في السياق الوطني المغربي. فقد كان هذا السياق هو الأكثر وزناً على القرار الحزبي لـ”العدالة والتنمية”، كما في تقرير المصير الانتخابي والتنظيمي للحزب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في 8 أيلول/ سبتمبر، ألحق المواطنون المغاربة خسارة ثقيلة بـ”حزب العدالة والتنمية” في صناديق الاقتراع وسحبوا منه ثقتهم. فاقت نسبة المشاركة في الانتخابات 50 في المئة، ما يعد تاريخياً نسبة عالية نظراً إلى المعدلات السابقة في المغرب. وحاز “حزب العدالة والتنمية” 125 من 395 مقعداً برلمانياً عام 2016، لتنخفض النسبة إلى 12 مقعداً عام 2021، ما فاجأ مؤيدي الحزب وأعتى خصومه في آن.

دفعت هذه الهزيمة محللين إلى إعلان أفول الإسلام السياسي ونهاية الربيع العربي. ولكن كما حاجج البعض، فهذه التكهنات شديدة المبالغة. لا يمكن فهم خسارة “العدالة والتنمية”، إما في السياق الإقليمي لتعثرات الإسلام السياسي أو في سياق تعرجات الربيع العربي، والذي بحسب درجة التفاؤل لدى المراقب إما وُئد عام 2013، أو أنه مستمر في ظل صعوبات متفاقمة في السودان وبدرجة أقل في الجزائر. السياق الأنسب لفهم مسار “العدالة والتنمية” الانتخابي هو تاريخ الحزب الحديث، كحزب سياسي مستقل في المغرب. ومما يفيد أيضاً في فهم الخسارة المؤخرة هو تاريخ النضال الحزبي في المغرب، وسبل الملكية في إدارة علاقاتها مع الأحزاب السياسية المستقلة المشابهة لـ”العدالة والتنمية” تاريخياً. 

كسائر الأحزاب السياسية المستقلة في المغرب- تلك التي لم يخلقها القصر وحاشيته لخوض الانتخابات وإدارة الشأن الحكومي- تمتع “حزب العدالة والتنمية” بفوائد المشاركة السياسية الرسمية، ولكنه أيضاً تحمل كلفتها.

المفاجأة الكبرى

فاجأت هزيمة “العدالة والتنمية” معظم المراقبين، ومن ضمنهم مناضلون في الحزب وخصومه. لم تكن هناك دلالات على أن الخسائر الانتخابية ستكون بذاك الثقل، فقد دلت استطلاعات الرأي العام المختلفة على درجة رضا المواطنين المغاربة العالية على الأداء الحكومي. وفقاً لمؤشر الثقة عن عام 2021، الذي أجراه المعهد المغربي لتحليل السياسات، فقد ازداد منسوب الثقة في الحكومة المغربية، لما يزيد عن الضعف ما بين 2020 و2021. وكانت هذه الأرقام استثناءً على الصعيد الإقليمي، فوفقاً للدورة السادسة لـ”الباروميتر” العربي والتي أجريت ما بين صيف 2020 وربيع 2021، احتل المغرب الصدارة في نسب الثقة في الحكومة والرضا عن العمل الحكومي (ومن ضمنها الاستجابة لجائحة كورونا) من بين سبع دول عربية شملها الاستطلاع. وقد فاخر رئيس الحكومة سعد الدين العثماني بهذه النتائج كجزء من حملة “العدالة والتنمية” الانتخابية عندما كان يقابل الصحافيين المشككين. 

وعلى رغم أنه كان يحاول أن ينسب الإنجاز إلى حزبه، لم يكن العثماني يتكلم عن فراغ. فقد نجحت الحكومة المغربية في التصدي لجائحة “كورونا”، نجاحاً منقطع النظير في العالم العربي. كان الحظر الذي أقرته الحكومة هادفاً، وكانت الإصابات المتفشية تعالج بسرعة، ومعدل الوفيات معقولاً نظراً إلى بلد بحجم المغرب. وكانت حملة التطعيم جيدة وكان إقبال المغاربة على اللقاحات عالياً، قياساً بالدول الأخرى في الإقليم. ووفقاً لنتائج “الباروميتر” العربي، بدا وكأن الحكومة المغربية نجت من مصير غيرها من الحكومات التي واجهت الجائحة بكفاءة أقل (مثل الأردن على سبيل المثال، حيث كانت نسب الرضا عن العمل الحكومي والثقة في الحكومة عالية في بداية الجائحة ومن ثم انهارت لاحقاً مع الإخفاق الحكومي). بوصفه الحزب الذي قاد العمل الحكومي في تلك الفترة (ولو ربما صورياً)، كان من المتوقع أن يجني “العدالة والتنمية” ثمار هذا النجاح انتخابياً. 

أما المنافسون الرئيسيون لـ”العدالة والتنمية”، فقد واجهوا الكثير من العلل التنظيمية ومروا في أزمات إعلامية ما أثر على سمعتهم. عزيز أخنوش، قائد “حزب التجمع الوطني للأحرار” الذي فاز بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات، كان عانى من حملة مقاطعة شرسة عام 2018، استهدفت الشركات التي يمتلك فيها حصصاً وازنة. أما “حزب الأصالة والمعاصرة”، والذي حاز المرتبة الثانية في الانتخابات، فقد مر بأزمة قيادة عاصفة ومحنة تنظيمية صعبة. كما واجه “حزب الاستقلال” هزة تنظيمية كبرى في مؤتمر عام 2017 سميت “حرب الصحون”. وعلى رغم أن جميع هذه الأحزاب أولت اهتماماً كبيراً في الانتخابات وكرست لها موارد كبيرة، خصوصاً “التجمع الوطني للأحرار”، لم يكن من المتوقع أن يحتل “العدالة والتنمية” مرتبة أدنى من هذه الأحزاب الثلاثة.

إقرأوا أيضاً:

عبر التاريخ 

إذا أخذنا في الاعتبار التحولات الداخلية التي طرأت على “حزب العدالة والتنمية” والسياق السياسي المعاصر، لا ينبغي أن تكون الهزيمة الانتخابية مفاجئة كثيراً. لم يكن “حزب العدالة والتنمية” الذي خاض الانتخابات عام 2021، الحزب ذاته الذي ظفر في انتخابات 2011 و2016. عبر الكثير من المناورات والمكائد، جرد القصر (أو المخزن بحسب التعبير المحلي المغربي) الحزب من جميع أسلحته. كان الحزب على وشك الانشقاق والتشظي بعد قرار المشاركة في الحكومة عام 2017، و”قيادتها” بلا الأمين العام الجماهيري للحزب عبد الإله بنكيران. وعلى رغم أن بنكيران نفسه حال دون ذلك التشظي، ودعا إلى الوحدة الحزبية والانصياع للقرار الحزبي الجماعي، راود الكثير من المناضلين والقياديين الحزبيين الشعور بأن قرار العثماني ورفاقه من دعاة المشاركة في الحكومة، هو بمثابة خيانة للحزب. لم يكن واضحاً عام 2017، إذا ما كان للحزب أن ينجو من قرار المشاركة في حكومة ورئاستها بلا قيادة الحزب المنتخبة. أما إن عاد هذا القرار ليداهم الحزب ويطارده في الانتخابات اللاحقة، فلذلك سابقة تاريخية شبيهة لحزب ذات توجه إيديولوجي مختلف تماماً. 

فقد حظي “حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” بعلاقة هي الأكثر حدية تاريخياً مع الملكية المغربية، مقارنة بالأحزاب الأخرى. قُمِعَ “الاتحاد الاشتراكي” وتمت ملاحقة قيادته بشتى الوسائل والسبل بما يشمل القتل والنفي والاعتقال، ما أسفر عن اتخاذ الحزب دور المعارضة الرئيسية للملكية، من بين الأحزاب السياسية المستقلة. شهدت فترة التسعينات تحسناً في العلاقة بين “الاتحاد الاشتراكي” والقصر، وعام 1997، كسب الحزب (أو سمح له أن يكسب) الانتخابات البرلمانية، وعقبها كلف الملك الحسن الثاني أمين عام الحزب عبد الرحمن اليوسفي بتشكيل حكومة عام 1998. عام 2002، كسب “الاتحاد الاشتراكي” الانتخابات البرلمانية مجدداً، ولكن عوضاً عن تكليف اليوسفي بتشكيل حكومة ثانية، كلف الملك الجديد محمد السادس “تكنوقراطياً” مستقلاً غير حزبي اسمه ادريس جطو بتشكيل الحكومة. قرار الاتحاد الاشتراكي بالمشاركة في حكومة لم يرأسها الحزب، على رغم حيازته التفويض الشعبي لذلك، أدى إلى انشطار الحزب وشرذمته، وتتالت الاستقالات والانسحابات والانشقاقات منه، وعانى عام 2006، من هزيمة انتخابية مرة. 

تتعدد أوجه الشبه بين تجارب “الاتحاد الاشتراكي” و”العدالة والتنمية”، فكلاهما شارك في الحكومة في ظروف لم يتحكم بها تماماً. كما أشرفا على سياسات تحرير اقتصادي (خصخصة في حال الاتحاد الاشتراكي، رفع الدعم في حال العدالة والتنمية) لم يدعوا إليها، ولكنهما تبنياها بلا تحفظ. كما “فرض عليهما” شركاء في الحكومة كان الحزبان يهاجمانهم في المجال العالم ويناضلان ضدهم (إدريس البصري في حال الاتحاد الاشتراكي، أخنوش في حل العدالة والتنمية). وقد أدارا ظهرهما للتجاوزات الإدارية ضد الفاعلين المجتمعيين المساندين لهما، فوقف “العدالة والتنمية” موقف المتفرج من القمع الوحشي الذي واجهه نشطاء حراك الريف والصحافيون المستقلون منذ عام 2017. كما صادق “حزب العدالة والتنمية” على تشريع القنب الهندي والتطبيع مع إسرائيل، ما ناقض قيمه المحافظة، كما ناقض التحرير الاقتصادي قيم “الاتحاد الاشتراكي”. تفيد المقارنة ما بين التجربتين الحزبيتين للإضاءة على مصير “العدالة والتنمية” الانتخابي المشابه لمصير “الاتحاد الاشتراكي” قبل 15 عاماً، وإن لم يتشابه المصير التنظيمي للحزبين (بعد). وليس من المفيد اعتماد إما مصير الربيع العربي أو مصير الإسلام السياسي لتفسير خسارة “العدالة والتنمية” الانتخابية وتحليلها. 

على رغم دلالتها المهمة، لا تعبر المشاركة في الانتخابات السلطوية ولا خسارتها عن الانهيار الإيديولوجي، والإسلاميون بارعون في إبراز مظلوميتهم حينما يطردون من مؤسسات السلطة. 

نهاية الإسلام السياسي؟ 

كسائر الأحزاب السياسية المستقلة في المغرب- تلك التي لم يخلقها القصر وحاشيته لخوض الانتخابات وإدارة الشأن الحكومي- تمتع “حزب العدالة والتنمية” بفوائد المشاركة السياسية الرسمية، ولكنه أيضاً تحمل كلفتها. لعبت الأيديولوجيا دوراً مهماً في تأطير عمل “العدالة والتنمية” الحزبي ومشاركته السياسية الرسمية. سبق لي أن عرفت الأيديولوجيا كتعبير عن العضوية في مجتمع سياسي مرغوب يُنشِئ ويُعلم ويُحِد من خيارات الفعل السياسي الممكن. من المؤكد أن أيديولوجيا “العدالة والتنمية” حددت عمل الحزب السياسي بطرق مهمة. كان من الصعب على العثماني تبرير مصادقته على معاهدة التطبيع مع إسرائيل عام 2020، لمناضلي الحزب (فذلك من المحرمات، وفقاً للإيديولوجيا الحزبية)، فاستعاض عن ذلك باستقبال القيادي في حركة “حماس” الفلسطينية إسماعيل هنية، الأبطال عام 2021، وهو استقبال لم يحظ به رؤساء دول. مع ذلك، فقد حاول “العدالة والتنمية” منذ عام 2015، الابتعاد من الموروث الإيديولوجي للإخوان المسلمين والأحزاب التابعة للتنظيم العالمي بشكل دؤوب، وعوضاً عنه أرسى جذوره في الحركة الوطنية المغربية. لذا، لا يعبر مصيره عن مصير “الإسلام السياسي” بحد ذاته. 

أما أن يعتبر النقاد أن الإسلام السياسي في العالم العربي انتهى، فذلك ضرب من الخيال و”التفكير بالتمني” بحسب العبارة الإنكليزية الرائجة. في المغرب تحديداً، أكبر التنظيمات السياسية وأكثرها جماهيرية وانضباطاً، “جماعة العدل والإحسان الإسلامية”. لدى الجماعة قدرة على الحشد لا مثيل لها على مستوى المغرب، ولا دلائل تشير إلى خمول هذه القدرة. في الواقع، ربما يدفع مصير “العدالة والتنمية” عقب المشاركة السياسية الرسمية لتقوية موقف الجماعة من رفض المشاركة في مؤسسات الحكم في المغرب. وعلى رغم دلالتها المهمة، لا تعبر المشاركة في الانتخابات السلطوية ولا خسارتها عن الانهيار الإيديولوجي، والإسلاميون بارعون في إبراز مظلوميتهم حينما يطردون من مؤسسات السلطة. 

لعله من الأكثر إفادة وحكمة دراسة تجربة “العدالة والتنمية” كمنظمة سياسية في السياق الوطني المغربي. فقد كان هذا السياق هو الأكثر وزناً على القرار الحزبي لـ”العدالة والتنمية”، كما في تقرير المصير الانتخابي والتنظيمي للحزب. التصريحات الإيديولوجية الكبيرة لا تفيد في هذا الصدد. كما أن المنظور السائد في دراسة العمل السياسي في الأنظمة السلطوية وعلاقات الأنظمة والمعارضات في العالم العربي، والذي يرتكز على ثنائية القمع والاحتواء، بدوره قليل الإفادة. لطالما تحدى المغرب الافتراضات التي يقوم عليها هذا المنظور، كأحادية المعارضة مثلاً، أو حصر الخيارات السلطوية ما بين القمع أو الاحتواء. ينبغي اتباع منظور أكثر دقة، يستفيد من التاريخ المغربي ويرتكز على العلاقة المركبة والقديمة والمتطورة ما بين الملكية المغربية والقوى السياسية المستقلة. 

إقرأوا أيضاً: