fbpx

“سأذكره حتى يعود”…
قصة وفا ابنة المعتقل علي مصطفى

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا تخجل وفا بضعفها، وترفض تأليه الجمهور لها، فقد تحدثت وكتبت عن قلقها واكتئابها بشكل مطوَّل، لتوضح للآخرين أنها ليست شخصية مفعمة بالأمل على الدوام، وأن هناك أياماً تستلم فيها للعبث وفقدان الحس…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

اِقتِيدَ علي مصطفى قسراً من منزله في دمشق في يوليو/ تموز 2013. وأكد جيرانه ما افترضته أسرته بالفعل؛ فقد اختطفته قوات الأمن التابعة لنظام الأسد، عقاباً له على دعمه العلني للثورات، ولكي يكون عبرة للآخرين. علي مصطفى وهو أحد النشطاء السوريين الذين قاتلوا في لبنان ضد الاحتلال الإسرائيلي في الثمانينات، وكان مندفعاً في الإعراب عن تضامنه مع الشعوب العربية المتعبة. بعد اختفائه قرر أفراد العائلة الفرار من سوريا إلى تركيا، وليس بحوزتهم سوى جوازات سفرهم.

بعد 8 سنوات، امتلأ حساب علي على تطبيق التواصل “سكايب” برسائل من ابنته الكبرى وفا. أخبرته فيها عن الأحداث الراهنة، وحياتها الشخصية، وأطلعته على مأساة انفجار مرفأ بيروت- الذي صادف أن وقع في عيد ميلادها- وأخبرته بانسحاب القوات العسكرية الأميركية من أفغانستان. تناثرت الرسائل بين الصور التي جمعتهما سوياً وصور العائلة، وصاحبتها روابط لأغاني فيروز، ومكالمات هاتفية من دون رد. فقد منحها هذا التواصل غير المتبادَل شعوراً بالارتياح، وكأنه حبل يربط بينها وبين أبيها إلى أن يعود.

تجلس وفا الآن في غرفتها في برلين، يبرز على جدران الغرفة البيض مُلصق بالخط العربي. وتتلألأ عيناها الزمرديتان وطلاء أظافرها الأحمر الساطع عبر الشاشة، مع شعرها الداكن الكثيف الذي يتدلى كالأمواج، وتبدو على استعداد لإجراء المقابلات اليومية. فقد جلست بشكل مستقيم تظهر عليها ملامح الرصانة والهدوء، وهي جاهزة لسرد ما مرت به من معاناة على منظمات السلام والمنظمات غير الحكومية. ومن الواضح أن وفا تستطيع تولي زمام الأمور والصمود في هذه المعركة التي يقودها الرجال، فقد حازت قصتُها وكفاحُها دون كلل من أجل العدالة اهتمامَ وسائل الإعلام العالمية.

تقول وفا مازحةً: “بدأت القصة مع اسمي”. فقد اختار والدها هذا الاسم تيمناً باختصار وكالة الأنباء الفلسطينية التي أسستها “منظمة التحرير الفلسطينية” عام 1972 “وفا”، في إشارة إلى التحرير. وهي تؤمن أن ذلك كان أول دافع للمقاومة التي قامت بها. أما شغفها بالثورة فقد ظهر في وقت لاحق، عندما كانت فتاة صغيرة تُحمل على أكتاف الرجال وهي تُردد وتهتف بالشعارات التي اقتبستها من محادثات والديها مع الضيوف. ومهما كانت الظروف، فقد اعتادت أن تمضي أيام الخميس في حافلة مع عائلات أخرى متجهة إلى التظاهرات في دمشق التي نُظمت تضامناً مع الانتفاضة وتنديداً بغزو العراق. وقد تركت القصص والآراء التي سمعتها على الطريق بصمة لا تمحى في وعيها السياسي.

بيد أنّ وفا لم تشعر بالانتماء إلى سوريا حتى عام 2011. فقد غرست الأيام الأولى من الانتفاضات فيها رؤية ديموقراطية ووطنية قمعها نظام الأسد في السابق، فضلاً عن الشعور بالانتماء المرتبط بالحشود المتنوعة التي سارت بجرأة في الشوارع.

“كانت تظاهرات الجمعة العظيمة هي المرات الأولى التي ذهبت فيها إلى المسجد. لم يكن هناك نساء سواي أنا وصديقتي. تظاهرنا بأننا نصلي حتى لا يبدو وجودنا مستغرباً. وعندما انتهى الإمام من الصلاة، لا أستطيع أن أجد الكلمات لوصف المشهد، ولكن شعرت حينها أن المسجد أصبح إنساناً له أرجل وبدأ يتحرك. لقد بدا الأمر وكأنه زلزال، فقد خرج الآلاف وهم يهتفون (حرية! حرية!)”، تروي وفاء.

تؤشر وفا بيديها بحماسة، كما لو كانت تتحدث إلى إحدى صديقاتها، معربةً عن أحلامها العميقة بتحرير والدها ووطنها. لا تزال تشاهد مقاطع فيديو على “يوتيوب”، تعرض لقطات من ذلك اليوم، وتشعر بالفخر لأنها شاركت في هذه اللحظة المصيرية. وفي بعض الأحيان تشعر بأن حياتها قبل الثورة غريبة عليها، لكنها تجبر نفسها على تذكر التواريخ والأحداث، مستخدمة ذاكرتها كسلاح ضد ما يمليه نزوع النظام إلى النسيان. تمتزج هذه الحماسة بصمود مثير للإعجاب؛ إذ تستخدم صيغة المضارع فقط عندما نتحدث عن والدها، لأنها ترى أن الحديثَ عنه في صيغة الماضي، وكأنه لم يعد موجوداً، نصرٌ لآسِرِيه. ولذا فهي تحرص على تأكيد أنه حيّ، جسداً وروحاً.

في الآونة الأخيرة، عادت إلى ذهنها الذكريات عندما كانت تذهب في رحلات بالسيارة مع شقيقاتها ووالدها عبر جبال مدينة مصياف الساحلية. هذه الرحلات، التي قد تبدو عادية، مثلت بالنسبة إليها أهمية كبيرة، بسبب اختيار والدها الموسيقى التصويرية لفيلم “تايتانيك” لترافقهم في الطريق، وقد أسرت ألحانها الرومانسية الجميلة -على أنغام الموسيقى الأيرلندية وترانيم الكمان- تموجاتِ البحر، وهدَّأت من قوة الصدام بين “المقاتل والمقاوم”. وتضحك وفا خين تسمع أغنية “قلبي سيستمر” للمغنية سيلين ديون، التي تصدرت قوائم أفضل الأغاني في المنطقة العربية خلال العقد الأول من الألفية.

إقرأوا أيضاً:

تحتاج وفا إلى هذه الذكريات العابرة لتجديد مساعيها. على رغم أنها راوية قصص مُقنِعة ومُفعَمة بالحيوية، يوحي الضباب الذي ينعكس في عينيها من النافذة المقابلة لشاشة الكمبيوتر أن الألم والإرهاق لا يزالان يسكنان جسدها، كرصاصة لم تُنزَع بعد. فكثيراً ما كانت تعقد حاجبيها وتضغط بيديها على جبهتها طوال المحادثة، كما لو كانت تحاول فهم ما حدث، وتحاول أن تستوعب أنها جزء من 150 ألف عائلة، أبلغَت عن حالات اعتقال أو اختفاء أحد أفرادها، وواحدة من 6 ملايين مواطن فروا بأرواحهم، غير متأكدين متى سيعودون أو إذا كانوا سيعودون أصلاً.

“جزء من معرفة من أنا مؤلم؛ لأنني بتُّ أعرف الآن أن هذه هي أنا، وهذه هي حياتي، وهذا ما ستكون عليه حياتي دائماً. ومن الصعب تقبُّل ذلك. أحياناً أمشي في الشارع وأتساءل عن شعور النساء الأخريات تجاه عدم فقدانهن أوطانهن وأسرهن، وعن شعورهن حول عدم الاضطرار إلى القتال كل يوم لمجرد استعادةآبائهن”، تقول وفا.

لا تخجل وفا بضعفها، وترفض تأليه الجمهور لها، فقد تحدثت وكتبت عن قلقها واكتئابها بشكل مطوَّل، لتوضح للآخرين أنها ليست شخصية مفعمة بالأمل على الدوام، وأن هناك أياماً تستلم فيها للعبث وفقدان الحس؛ فتقول “هذا فيه ظلم لي ولهم، لأنني سأكون كاذبة إذا قدمت جانباً واحداً من شخصيتي”. وما زالت عاجزة عن الاستماع إلى عزف العُود لفرقة “الثلاثي جبران”، بعد سنوات من خسارتها صديقها المفضل بقذيفة دبابة، لأن العود يذكّرها بالربيع حين كان والدها يتعهّدها بالرعاية وهي حزينة. ظلت صابرة من خلال البكاء والصراخ، والسهر ليلاً والدعاء، وأمضت أياماً في الاستماع إلى الموسيقى والتطلّع في السقف.

وقد وجدت ملاذاً في اللواتي التقت بهن خلال الثورة، ممن شاركنها مخاوفها وشغفها وحماستها، والخوف غير المعلن عند توجّههن إلى التظاهرات وهن يدركن أنهن قد لا يعدن إلى منازلهن.

بيد أن وفا لم توصف بأنها سورية بشكل صريح حتى عام 2011. فقد غرست الأيام الأولى من الانتفاضات فيها رؤية ديموقراطية ووطنية قمعها نظام الأسد في السابق، فضلاً عن الشعور بالانتماء المرتبط بالحشود المتنوعة التي سارت بجرأة في الشوارع.

“عند حضور الموت، لا تكون هناك مساحة للكذب أو التظاهر، لأن كل شيء يصبح حقيقياً وصريحاً. وقد أتاحت الثورة لنا جميعاً الانفتاح على بعضنا بعضاً. لم نتفق على كل شيء، لكن ما جمعنا هو الاعتقاد بأننا جميعاً نستحق ما هو أفضل من هذا”، تضيف وفا.

من الواضح أن وفا تعتبر نفسها مسؤولة عن نساء أخريات يواجهن أيضاً ظلماً وقمعاً، فلا تسمح إطلاقاً للصحافيين بإساءة تأويل قصصها وحكاياتها وتحويلها إلى حكاية تصوِّرها كأنها فتاة في محنة وبحاجة إلى الخلاص من قيود الإسلام والفوضى في الشرق الأوسط. وتقول بثقة، “لن أغذّي رغبتهم في الحديث عني بهذا الشكل”.

وفا ممتنة في أعماقها للأسر السورية التي دعمتها، وأدانت التعذيب والاختفاء القسري والاحتجاز غير القانوني للأفراد طوال أيام الثورة. ومع أنها تحدثت أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة العام الماضي، منتقدة بجرأة “تقاعسها الجماعي عن العمل وتخليها عن المسؤولية”، فقد أكدت عدم تخلّيها عن العمل المدني والدعم المشترك. وأكدت أنها ترى أن التواصل الشفهي يمكن أن يحقق تقدماً تدريجياً مؤثراً وقوياً وأن “خلق رواية معاكسة لرواية النظام” طريقٌ إلى تحقيق العدالة. وحتى عندما سُئلت إن كانت لديها نصيحة أو حكمة تودّ نقلها إلى الفتيات والنساء الفارّات من أفغانستان من أجل أمنهنّ وسلامتهنّ، توقّفت متفاجِئة من السؤال، ودار لسانها بالإجابة بحذر وحرص.

“لا أعتقد أنني في وضع يسمح لي بإسداء نصيحة لهن. فكل تجاربنا مختلفة، ونتعامل معها بشكل مختلف أيضاً. أتمنى فقط  ألا يتحتم عليهن الخوض في هذه التجربة، وأرجو أن يكون بإمكاني، وبإمكان العالم أيضاً، تقديم يد المساعدة”، تقول مريم.

يتجلّى بوضوح في هذا الجواب مدى التواضع الذي يميّز التزام وفا بمحاربة الظلم والقهر في كل مكان. فهي ترى في كل محنة تفرّدها وتشابُكها مع محنتها الخاصّة في آنٍ، ولديها امتنان لأن العزاء يأتي في صور ولغات متباينة. فحين تتحدث، تفعل ذلك ووالدها دائماً على طرف لسانها حاضر في ذهنها، مع وعيها أيضاً بنضالات الآخرين، متمنّيةً أن يكون بوسعها فعل المزيد. فهذه هي الحياة الوحيدة التي يمكنها أن تحياها في ظل غياب والدها والآخرين، بسبب احتجاجاتهم من أجل الحرية ومن أجل مستقبل يستعيدون فيه كرامتهم وحقهم في أن يحيوا حياة خالية من القهر والخوف.

“سأذكره حتى يعود. وسيرى حينها أنني لم أنسَه، وأن العالم كله يعرف مَن هو”، تختم وفا حديثها.

إقرأوا أيضاً: