fbpx

عن الانتخابات وحملاتها التي حاولت إخفاء
دمار الموصل بصور المرشحّين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الناخبون في الموصل لم يستجيبوا عموماً لدعوات المشاركة الكثيرة في الانتخابات. الناس يريدون أولاً إنهاء الدمار والخراب، فالمشاهد في أزقة كثيرة ما زالت تشي بأن حرباً وضعت أوزارها للتو.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

على بقايا أرصفة البلدةِ القديمة في الموصل وشوارعها، التي خاضت معارك نهشت معالمها وبيوتها المتكئة بعضها على بعض، انتشرت اللوحاتُ الدعائية للسياسيين المتنافسين للفوز في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر. المشهد رفضه كثيرون من الأهالي، فعلى رغم مرور أربعة أعوام على تحرير المدينة من قبضة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، ما زال مشهدُ الخراب يهيمن على معالمِ المدينة بأزقتها وبيوتها ومحلاتها وأماكن الخدمة العامة، لا سيّما في منطقتي الميدان والشهوان.

يقول خالد وليد، الذي كان يملك بيتاً في الميدان أحالته الحرب الى ركام، وهو يشير الى لوحة دعائية كبيرة: “كان يفترض أن تفضي الانتخابات السابقة إلى برامج تؤهل المدينة القديمة لكن اليوم المشهد يتكرر، صور المرشحين الدعائية تملأ الشوارع والتقاطعات وتكاد تغطي معالم الدمار”.

يضيف وليد منتقداً صرف القوى السياسية عشرات ملايين الدنانير، للفوز بمقعد في البرلمان: “أجزم أنهم لن يخدموا المدينة، سيتسابقون كعادتهم على امتيازاتهم ويتركوننا في هذا الخراب. لذلك لم أنتخب مثل غالبية الناس”. 

سنوات عجاف…

عام 2018، وبعد مرور أكثر من عام على تحرير المدينة من تنظيم “داعش”، شهدت الموصل انتخابات تشريعية شأنها شأن مدن العراق الأخرى، غير أن المدينة لم تكن تشبه غيرها في عمق مأساة أهلها الذين كانوا يبحثون عن جثث أحبتهم تحت أنقاض بنايات الجانب الأيمن منها ويستنطقون جدران بيوتها المهجورة لعلّهم يجدون بارقةَ أملٍ تدلهم إلى مصير من فقدوا.

كانت المدينة مثقلة بتداعيات الحرب، ويتناقل أهلها قصص آلاف المفقودين والمغيبين والقتلى، فيما انشغل مرشحوها لمجلس النواب بالترويج لأنفسهم للظفر بامتيازات المقاعد النيابية لمدينة تئن تحت سيل من الأزمات، وتنتظر نقطة انطلاق عمليات إعادة إعمارها وتأهيل المناطق المتضررة منها، وتعويض الأهالي عما حملته لهم الحرب من دمار ودم وخسائر، لكن بعد مرور ثلاث سنوات لم تنل المدينة غير الاضطرابات السياسية التي أفضت إلى استبدال ثلاثة محافظين في غضون سنتين.

يقول المراقب السياسي محمد عبد الواحد، “بسبب الولاءات الخارجية للنواب السابقين لم تحصل المدينة على حقوقها. يضاف إلى ذلك غياب شخصية تمثل المدينة في البرلمان وتتصدر مركزاً سيادياً في بغداد. فقد انشغل السياسيون بالصراعات وبقيت المدينة تعاني من ويلات الحرب”.

ولم يبذل ممثلو المدينة في مجلس النواب جهداً لاستحصال حصة المحافظة من التعويضات ناهيك بضآلة تلك التعويضات، مقارنة بالمدن المحررة الأخرى التي لم تتعرض لدمار بحجم ما تعرضت له الموصل.

ووفق  إحصاءات رسمية نشرت عام 2020 خصص لمحافظة نينوى 15 مليار دينار، فيما كان نصيب أقلّ محافظة متضررة من الحرب  أكثر من 100 مليار دينار!

وبعد مرور أكثر من عام على تلك الإحصاءات، بدأت بغداد رفع مبالغ تعويضات الأهالي من العمليات العسكرية بدفعات، ما أثار استغراب محافظ نينوى نجم الجبوري الذي قال في تصريحات صحافية إن “المبلغ المخصص للتعويضات والبالغ 60 مليار دينار سيدفع بمعدل مليارين لكل شهر وفي الحقيقة هذا أمر غريب”. 

وطالب المحافظ، رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بالتعامل مع الموصل كحالة استثنائية، إذ لا يمكن دفع المبالغ بهذه الطريقة، لا سيما أن المبلغ بأجمعه لا يسد سوى جزء بسيط من أموال التعويضات”.

إقرأوا أيضاً:

التعويضات نقطة في بحر المتطلبات

يعبّر علي ميزر الجربا، نائب رئيس “المفوضية العليا لحقوق الإنسان”، عن استغرابه التباين في توزيع الأموال بين المحافظات المحررة، “ما حصلت عليه نينوى لا يصل إلى نصف ما حصلت عليه الأنبار من أموال التعويضات، بينما نينوى هي الأكثر تضرراً والموصل هي المدينة الوحيدة التي أُعلنت منكوبة في البرلمان العراقي، وعدد المتضررين وضحايا الإرهاب فيها يتجاوز عدد مجمل المتضررين في المحافظات الأخرى”.

وسأل، “كيف تأخذ محافظة أخرى أقل ضرراً من نينوى، تخصيصات أكبر منها بضعفين أو ثلاثة أضعاف، لولا تخاذل نواب نينوى وسكوتهم وضعف تمثيل المحافظة السياسي ما أدى الى ضياع  حقوق أبنائها؟”.

تلك الأرقام تؤكدها تصريحات مدير دائرة التعويضات في محافظة نينوى محمود العكلة، الذي يقول إن التعويض المادي “لم يشمل إلا قرابة 2600 معاملة فقط”، فيما بلغ عدد المعاملات التي قدّمت أكثر من 66 ألف معاملة.

ذلك ما يجعل أبو علي (75 سنة) وهو من سكان الميدان، ينتظر بأمل يتلاشى مع الوقت، أموال التعويض عن دارٍ صغير أحالتها الحرب إلى ركام وصار يسكن في دارٍ مستأجرة، شأنه شأن آلاف أبناء المدينة على أمل أن تسعفه الحكومة بتعويض ينتشله من الإحباط، ليتمكن من البدء من الصفر.

ولم تكن حصة نينوى من الموازنة الاتحادية أفضل حالاً من التعويضات، فقد أفردت حكومة بغداد لنينوى 436 مليار دينار(298 مليون دولار أميركي). وهو رقم صغير جداً أمام تكلفة إعادة إعمار المدينة والتي تتجاوز بحسب محافظها 15 مليار دولار.

دائرة بصراع محموم 

امتدت حلبة الصراع الانتخابي في نينوى التي تملك 31 مقعداً في البرلمان، إلى 8 دوائر انتخابية، يتنافس عليها 423 مرشحاً، وكانت حصة الدائرة السادسة من المتنافسين، والتي خصصت لها خمسة مقاعد وتضم كامل المدينة القديمة، أكثر من 100 مرشح.

وبحسب مدير إعلام مكتب مفوضية نينوى سفيان المشهداني، فإن تلك الدائرة هي الأكبر من ناحية المرشحين في نينوى، مبيناً أن “الدائرة السادسة هي الأكبر من ناحية الكثافة السكانية وعدد مراكز الاقتراع، لذا كان عدد المتنافسين على مقاعدها 100 مرشح، توزعوا على كيانات سياسية عدة”.

أمام هذا الواقع، بدأ المرشحون يتسابقون لتقديم المساعدات الآنية قبل موعد الانتخابات بأيام وواصلوا بث سيل من الوعود، تتصدرها إعادة الإعمار وتأهيل البنى التحتية وتعويض المتضررين وإنصاف ذوي الضحايا وبناء ما دمرته الحرب.

ينتقد الناشط مصطفى الدباغ استغلال حاجات الناس من الفقراء والبسطاء وجهلهم بمهمات النائب في حال فوزه. يقول الدباغ، “يجهل كثيرون أن وعود النواب تتقاطع مع وظيفتهم التي تتركز في التشريع والمراقبة لا القيام بأعمال تنفيذية وخدمية”.

الالتفاف على مواطنين منكوبين

كل ما يأمله المواطن في الموصل القديمة، كما يقول الكاسب عبدالله علي، هو أن تأمين حاجات عائلته الأساسية، وهو لا يكترث بموضوع الرقابة والتشريع فمثل هذه الأمور “ترف لا يتناسب وواقعه المتعب”.

يضيف علي، وهو خريج جامعي يعمل في مجال طلاء المنازل: “بالنسبة إلى الفقراء، الإجراءات الآنية من خدمات ملموسة وتقديم طرود غذائية وحشو الجيب بمبلغ مالي بسيط أفضل من الحديث عن مهمات معقدة تتقاطع مع مفاهيمهم البسيطة”.

في مساء اليوم الانتخابي، كان حسين فارس الذي يسكن في منطقة خزرج، عائداً إلى منزله (90 متراً مربعاً) وهو يحمل أكياساً سوداً بعد 9 ساعات في العمل.

الرجل الخمسيني، قاطع الانتخابات مثل معظم معارفه وأصدقائه، ولم يعر أي اهتمام لحركة الناخبين المتوجهين الى مركز انتخابي لا يبعد من محل عمله أكثر من 100 متر، يسأل: “هل يستطيع المرشح أن يؤمن لي ولعائلتي مثل هذه الأكياس يومياً حتى بعد الانتخابات؟”.

ويضيف، وقد بدا فرحاً بما حصل عليه، على رغم انه قاطع العملية الانتخابية: “لا أعلم ما سيفعله المرشح بعد فوزه وأنا لا استبشر منهم خيراً. لكنهم منذ قرابة شهرين بدأوا بتوزيع المساعدات والأموال للناس من خلال مكاتب فتحوها وبكل تأكيد سيغلقونها بعد الانتخابات”.

اتخذ كثر من المرشحين النهج ذاته، مع اشتداد حملات الدعاية الانتخابية وحتى يوم الاقتراع. ويرى المواطن أحمد محمد طاهر في ذلك “استغلالاً لحاجة الناس”.

انتهى يوم الاقتراع في محافظة نينوى، بنسبة مشاركة تعد من الأقل في عموم البلاد، إذ لم تتجاوز الـ40 في المئة، بالقياس على مليون ونصف المليون ناخب حدّثوا بياناتهم، فيما يبلغ عدد من يحق لهم الاقتراع في محافظة نينوى أكثر من مليونين ونصف المليون. ذلك العزوف الكبير عن المشاركة، يعكس من جهة عدم رضا غالبية أهالي نينوى عن الواقع الخدمي والمعيشي فيها، ومن جهة أخرى يعكس غياب بديل يثق به الموصليون لانتشال المدينة من أزماتها.

الحملات الكبرى لم تؤتِ ثمارها

شهدت شوارع البلدة القديمة في الأسبوعين الأخيرين قبل يوم الاقتراع، تجمعات دعائية يقوم أصحابها بتوزيع مقاعد بلاستيكية لجمهور يتجاوز الخمسة آلاف شخص، ينتظرون خطاباً يلقيه المرشح. عادة ما كان الحاضرون يحصلون بعد انتهاء المؤتمر على نحو 30 ولاراً لكل فرد.

مساء اليوم نفسه كان المرشح يعود إلى مكتبه وينشر مقاطع فيديو عبر صفحاته على السوشيل ميديا يُظهر فيها حجم جمهوره ويُبشرنا بأنه حسم الفوز مبكراً. لكنّ بعض هؤلاء المرشحين المنتمين لقوى تملك المال والسلطة وآخرين بوزن ثقيل سياسياً واجتماعياً، خسروا المنافسة أمام مرشحين لم يقوموا إلا بنشر بضع صور تعرف بهم وبرقمهم في القائمة الانتخابية. والسبب، بحسب المراقب السياسي سبأ الأغا، هو ظهور شخصيات حلّت شيفرة الشارع ووصلت إلى الجمهور من خلال ذكائها وبساطة حضورها وليس امتلاكها للمال.

وخسر سياسيون وازنون في نينوى وآخرون تقليديون مثلوها في الدورات البرلمانية السابقة أمثال أسامة النجيفي رئيس “ائتلاف متحدون” والذي ترأس مجلس النواب في دورة 2010- 2014، وكذلك محمد إقبال الصيدلي الذي شغل منصب وزير التربية من 2014 إلى 2018، وغيرهما ممن روجوا حملاتهم بمبالغ مالية ضخمة بحسب مراقبين.

يرى باحثون ونشطاء، أن الناخبين في الموصل لم يستجيبوا عموماً لدعوات المشاركة الكثيرة في الانتخابات. الناس يريدون أولاً إنهاء الدمار والخراب، فالمشاهد في أزقة كثيرة ما زالت تشي بأن حرباً وضعت أوزارها للتو.

ينبه الباحث الاجتماعي أحمد غانم الى خطورة اعتياد الناس على السلبية وعلى تقبّل مظاهر الدمار، مشيراً الى تأثير ذلك في حالة المواطنين النفسية: “لقد جرّب الناس هنا العيش مع بقايا جثث بعد التحرير مباشرة والخوض في سراديب محشوة بأحزمة متفجرة حتى أصبحوا أقل بهجة وسروراً وسلبيين تجاه كل شيء”.

مع اختتام المشهد الانتخابي بحملاته الدعائية ووعود مرشحيه التي انطلقت من وسط الخراب، ومع بزوغِ شمس اليوم التالي كان مئات الشباب والفتية منهمكين على الطرق الرئيسية في إزالة صور المرشحين وقلع الرافعات الحديدية وسلخِ الصور عنها، ليظهر مجدداً ما توارى خلف تلك الدعايات الضخمة من دمار. وقد تبقى مشاهدُ الخراب قائمةً كما اعتادت عليها أعين الناس في الموصل القديمة، في حال تنّكر المسؤولين لوعودهم.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!