fbpx

مصر : الانتحار أو الموت كطَبق شهي
على مائدة السوشيل ميديا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حالات الانتحار الموثقة في الفترة الأخيرة، تم تداولها على السوشيل ميديا من دون ضوابط إنسانية، وكأن الموت في صورة الانتحار، يتحول بشكل ما إلى سلعة في سوق المشاهدات الإلكترونية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

 وثقت كاميرات المراقبة منذ أسابيع قليلة انتحار شابة مصرية بإلقاء نفسها  من داخل أحد “المولات”  في منطقة مدينة نصر، وتم تداول فيديو الانتحار على نطاق واسع وجنوني على منصات التواصل الاجتماعي، سبق هذا التداول، مشاركة فيديو، لسيارة فاخرة تسير بسرعة جنونية عكس اتجاه السيارات على طريق الجلالة، كانت شابة مصرية من الطبقة البرجوازية تقود هذه السيارة، وقررت إنهاء حياتها بطريقة مروعة.

حالات الانتحار الموثقة في الفترة الأخيرة تم تداولها على السوشيل ميديا من دون ضوابط إنسانية، وكأن الموت في صورة الانتحار، يتحول بشكل ما إلى سلعة في سوق المشاهدات الإلكترونية، و مادة “الإثارة” والفرجة لدى الجماهير المتعطشة لكل ما هو جديد على مسارح وسائل التواصل الاجتماعي.

السوشيل ميديا في مصر، تكشف دائماً عن الهوة السحيقة داخل هيكل المجتمع المصري، التي تفضح تفتت الوحدة الثقافية والدينية المتخيلة لدى كثيرين عن النظام الاجتماعي في مصر. كما برزت تعليقات البغض التي تحاكم المنتحر وتقسو عليه ، مثل”كويس ارتحنا منها” أو “اللي بعده” أو “محدش يقول الله يرحمه”.

هذه التعليقات المملوءة بالضرر والأذى، الواقعين على سيرة المنتحر وأسرته، تظهر جانباً كبيراً من الجهل الاجتماعي والمؤسسي في الرؤية وطريقة التعامل مع هذه الظاهرة، كما تظهر الجهل بالأسباب التي تؤدي عادة إلى الانتحار، فضلاً عن السبل السليمة لمعالجتها.

يستفيد هؤلاء من الحاجز الذي تمنحه الكتابة من خلف الشاشة، فيراقبون العالم من بيوتهم ويكتب كل واحد ما يشاء من دون التفكير بأبعاد فكرته ومن دون مراعاة لمشاعر الآخرين.

حول الانتحار  في الشارع المصري والخطابات المختلفة

في المجتمع المصري، يعد الانتحار فعلاً لصيقاً بالوصم الاجتماعي لعائلة المنتحر، لذلك تحاول بعض أسر المنتحرين إنكار إقدام ذويهم على هذا الفعل ونفيه عنه وعنهم، حتى لا تلاحقهم التهمة اللصيقة بهذا الوصم. وتجدهم كثيراً ما يتحفظون على الأسباب الحقيقية لوفاة ذويهم ، وقد يصل هذا الأمر إلى دفع بعض أسر المنتحرين لمحاولة التلاعب في تقارير الوفاة الرسمية،  لإثبات قيام أسباب أخرى غير الانتحار، أنهت حياة  ذويهم. 

هذا التحفظ المحاط بالوصم يخدم ظاهرة الانتحار، كما يخدم الجهلَ عموماً، لأنه يجعل من الصعب الوصول إلى الحقائق والإحصاءات الرسمية، ويعرقل مسار الدراسات والتقارير لرصد هذه الظاهرة ومعالجتها. كما أن هذا التزوير يمكنه مضاعفة حالات الانتحار.

لا تختلف طريقة عمل الإعلام المصري في تناوله لهذه الظاهرة كثيراً عن ذهنية هذه الشريحة من المجتمع.  فالإعلام المصري على ما يبدو وجد ليخاطب هذه الشريحة وتخاطبه، وكل من الطرفين يتغذى على رأي الآخر. كلاهما يتبع المبدأ ذاته، ألا وهو “نفي التهمة” ولكن في حالة الإعلام فإن نفي التهمة يكون عن الدولة المصرية ككل. 

يروج الخطاب الإعلامي وقائع الانتحار كأحداث عادية، باعتبارها أمراً طبيعياً يتكرر حول العالم، وعلى أساس أن مصر لا تفوق الدول المرفهة اقتصادياً وسياسياً في معدلات حالات الانتحار، بل إن “الانتحار” في مصر لم يرق إلى مستوى الظاهرة، وبالتالي، لا يجب الالتفات إليه أكثر من اللازم. 

هذا الافتقار إلى الحد الأدنى من نصاب الصلاحية المفترضة للخطاب التوعوي، وهذا الحرص الفج والمسيس على تلميع صورة الدولة حتى وإن على حساب الجثث القائمة والجثث المحتملة، يعرضان المجتمع إلى خطر فادح، يتمثل في تزايد حالات الانتحار، لعدم إمكانية الوقوف على الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة، وبالتالي عدم معالجتها بصورة سليمة على مستويات وخطابات مختلفة. و يعزز ثقافة الفساد والقهر المؤسسي،الكفيلين بدفع الأشخاص في أي مجتمع إلى الانتحار.

خطاب الدولة الرسمي لا يختلف كثيراً عن هذا الخطاب الإعلامي، في التعتيم على هذه الظاهرة، ومواجهته السلبية والمسيسة لها، بل إنه يصل أحياناً إلى درجة أبعد في صدمته وفجاجته من خطاب الإعلام والمؤسسات الدينية الأخرى.

عام 2018، خرج المتحدث الرسمي باسم مترو الأنفاق، أحمد عبدالهادي في تصريح يقول- رداً على تزايد وقائع الانتحار أسفل عجلات المترو- “إن الشركة غير مسؤولة عن جميع حالات الانتحار أسفل عجلات القطارات”. كما صرح مصدر آخر مسؤول في الشركة، على قناة “صدى البلد”، بأن “حوادث الانتحار أسفل عجلات المترو تكلف الشركة خسائر فادحة، والهيئة المصرية لإدارة مترو الأنفاق تناشد “الناس” بالانتحار بعيداً من القطارات بسبب تكاليف الصيانة العالية وغير ذلك من الأمور”.

إقرأوا أيضاً:

في ظل غياب الإحصاءات الرسمية لمعدلات الانتحار في مصر، أصدرت “منظمة الصحة العالمية” عام 2019، تقريراً عن ظاهرة الانتحار حول العالم، وقدرت في إحصائها حدوث حالة انتحار كل أربعين ثانية، بما يعادل 800 ألف شخص سنوياً، وكانت الإحصاءات تشير إلى أن مصر تتصدر قائمة الدول العربية في معدلات حالات الانتحار. 

فيما صرح المركز الإعلامي التابع لمجلس الوزراء المصري في العام ذاته قائلاً في بيان له رداً على بيان “منظمة الصحة العالمية”، “إن تصدر مصر المرتبة الأولى عربياً يعد درباً من الشائعات المغرضة، وأن القاهرة تأتي في المرتبة الـ150 من أصل 183 دولة في معدلات الانتحار حول العالم”.

كما أصدر مجلس الوزراء بياناً قال فيه إنه اعتمد على آخر الإحصاءات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، الصادر عن العام ذاته، والموثق لـ69 حالة انتحار فقط.

في أيلول/ سبتمبر الماضي، أصدر المجلس الأعلى للإعلام كوداً جديداً لتغطية حوادث الانتحار ومحاولاته، يتضمن معايير تجب مراعاتها أثناء النشر، منها وجوب تغطية هذه الحوادث في إطار تقديس الحق في الحياة، ولا يجب النظر إليها على أنها أمر طبيعي، كما يجب الابتعاد من استخدام عبارات الإعجاب أو التبرير أو الترويج لمثل هذه الحوادث لتجنب تأثر الجماهير بها، ويجب الحذر عند صياغة العناوين المتعلقة بها وعدم استخدام اللغة المثيرة أو الرنانة، وتجنب أي شائعات حولها. كما على وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية بث مقاطع الفيديو أو روابط التواصل الاجتماعي بصفتها مادة شديدة الحساسية مع رسالة تحذيرية مصاحبة. ويتعين عدم اتخاذها وسيلة لزيادة المشاهدات أو التفاعل أو المبيعات. وأخيراً يجب تجنب الضرر النفسي الواقع على ذوي المنتحرين أو الذين حاولوا إنهاء حياتهم، من جراء التغطية الصحافية أو الإعلامية أو النشر.

الالتزام بتنفيذ هذه الشروط أثناء النشر يعد خطوة إيجابية في مواجهة ظاهرة الانتحار، لكن المشكلة “نظامية” أكثر، وما يستدعي الشك حيال تنفيذ العقوبات المقررة على جميع حالات المخالفة، هو على الأرجح، عدم إمكانية فرضها على بعض إعلاميي النظام ممن يتمتعون بحصانة وسلطة أكبر من المفترض، إضافة إلى ذلك، فإن المشكلة أكثر تغلغلاً في النظام السياسي والاجتماعي والبنيوي في مصر. وتحتاج إلى برامج حقيقية وجادة، وإحصاءات رسمية دقيقة لمعالجة خطر حقيقي يحيط بالمجتمع ويزداد تباعاً.

زنازين ونوافذ، العالم في فرضيات مستحيلة

تخيل معي زنزانة بلا نوافذ، وتخيل أنك ولدت فيها ولم تبرحها يوماً لتعرف ماذا ينتظرك خلف جدرانها. هذا ما قالته صديقة فرنسية وهي تسرد لي أسباب محاولتها الانتحار، وهي في العشرين، بسبب شعورها القاسي بالوحدة، الناتج عن الفشل العاطفي وتمزق أواصر الأسرة ومجتمع الأصدقاء من حولها.

قالت لي تخيل  العالم بدون نوافذ الحب، والأسرة، والأصدقاء والمجتمع، سيكون أكثر هدوءاً وتناغماً. وتخيله أيضاً بدون نوافذ التفكير. كانت ولا شك محقة في منطقها، فلا أحد يستطيع وضع حد لجموح الافتراضات، ولكن ما قصدتُه كان هو بالضبط عكس ما قالته. لأن تخيل العالم بدون وجود هذه الروابط (الحب والأسرة والأصدقاء)، سيجعله زنازين انفرادية قاسية ومركّبة، وسيجعل الإنسان يحفر نافذة بيده في الجدار ويلقي بنفسه منها، بحثاً عن الراحة. 

قرار الانتحار الذي يبدو فعلاً فردياً بحتاً في الأخير، لا يبدو كذلك تماماً إذا تطلعنا مع إيميل دوركايم في نماذج هذه الظاهرة في كتابه المهم” الانتحار”. وهو الكتاب، الذي إذا أردنا محاولة تلخيصه نقول، إنه نظرة اجتماعية وفلسفية دقيقة ومتفحصة لرؤية الانتحار “كظاهرة حداثية” .

في سردية شيقة، يدفع بنا دوركايم إلى استنتاج نماذج الانتحار التي يكون فيها السبب المولد للانتحار حالة اجتماعية/ قومية عامة، لأن ثمة علاقة سببية تنمو هنا، وباطّراد، بين التراخي في روابط الفرد التي تشده إلى الحياة، وبين الروابط الجمعية في المجتمع ككل. بمعنى أنه إذا ما تراخى هذا الرابط الذي يشد الإنسان إلى الحياة، فلأن الرابط الذي يشد المجتمع هو نفسه قد تراخى. 

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.