fbpx

الثورة المضادة تطوف على السودان

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تهديد الاستقرار الهش أصلا، هو نتيجة جزئية من نتائج عديدة للانقلاب، الذي سيسفر، حال نجاحه، عن وأد تجربة ديمقراطية أخرى في العالم العربي، كانت ثمرة لموجة ثانية من الربيع العربي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

السيناريو نفسه، يراد له، أن يتكرر، وكأن الثورة المضادة، معدومة الخيال. العسكر انقضوا على تجربة الانتقال الديمقراطي في السودان، اعتقلوا رئيس الحكومة عبد الله حمدوك وعدد كبير من الوزراء، والمسؤولين المدنيين، ليظهر بعد ساعات قائد الجيش عبد الفتاح البرهان معلناً حالة الطوارئ وحل مجلس السيادة والحكومة وإنهاء تكليف الولاة، وتجميد عمل لجنة إزالة التمكين، وتعليق عدد من مواد من الوثيقة الدستورية التي تعتبر مرجعا لعملية الانتقال.

الانقلاب جاء، بعد تمهيد تلا، ما قيل إنها محاولة “انقلابية” من داخل الجيش ضد الجيش. افتُعلت أزمة مع المكون المدني، وعاشت البلاد فترة احتقان سياسي وتبادل اتهامات، وتم تحميل الأحزاب السياسية مسؤولية “محاولة الانقلاب” واتهامها بخلق مناخ كاره للعسكريين يسهل “الانقلاب” عليهم. أزمة الشرق لم تغب عن استراتيجية الجيش، فقد جرى استغلالها، عبر دفع قيادات من قبائل البجا المعترضين على عدم تمثيلهم في اتفاق جوبا للسلام، للتصعيد، وإغلاق الموانئ التي توصل السلع لمدن البلاد، وخلق أزمات معيشية، تربك الحكومة المدنية، وتضعها أمام غضب الشارع. “الإرهاب” كذلك استحضر إلى برنامج عمل الجيش، إذ أعلن فجأة عن اشتباك في الخرطوم مع مجموعة “إرهابية”، بالتزامن مع إعلان مواز حول معارك على الحدود مع إثيوبيا، عادت أديس أبابا ونفت وقوعها.

أبلسة المدنيين واستغلال أزمة الشرق لتعميق الأزمات المعيشية، وتقديم الجيش نفسه كضحية لحملة “افتراءات” فيما هو “يدافع” عن البلاد من خطر “الإرهاب” و”العدو الخارجي”، استراتيجية كان ينقصها، حاضنة سياسية مؤيدة. هكذا استدرج قسم من قوى “الحرية والتغيير”، لتبعية العسكر، واعتصم أنصار هذه القوى (الميثاق الوطني) أمام القصر الرئاسي، للمطالبة بحل حكومة عبد الله حمدوك. حركة تحرير السودان بزعامة حاكم دارفور مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم وزير المالية، رفدت الاعتصام، بمجموعات، تحدثت وسائل إعلام عن قدومها من كردفان ومدن أخرى.

صحيح أن مراحل تمهيد الجيش للانقلاب، اعترضتها تظاهرات واسعة نظمتها قوى مدنية، وشارك بها مئات الآلاف، لكن التباين بدا واضحا، في أولويات، هذه القوى، فـ”لجان المقاومة” التي ساهمت بفعالية في الثورة ضد نظام عمر البشير، أرادت عبر أنصارها إنهاء الشراكة كليا بين العسكر والمدنيين، فيما رفع مؤيدو “الحرية والتغيير” جناح المجلس المركزي، شعارات عامة مثل “الدفاع عن الثورة”. بمعنى أن الشارع لم يستنفر ويتوحد، ضد انقلاب محتمل. لقد أظهرت، تظاهرات الخميس، انقساما بين القوى المعادية للعسكر، ثمة من يريد فض الشراكة مع الجيش وأخرين يسعون لتعديل هذه الشراكة وتصحيح مسارها. هذا الانقسام في الشارع كان انعكاسا، لانقسام داخل القوى المدنية، وتبادل اتهامات بالتمسك بالمناصب والمحاصصة مع الجيش على حساب عملية الانتقال نفسها. التفتت الذي افتعله الجيش في هذه القوى لصناعة حاضنة له، سبقه تفتت آخر أكثر جذرية، داخل الائتلاف الحاكم، إذ خرج من “الحرية والتغيير”، الحزب “الشيوعي”، وكذلك “الأمة”، قبل أن يعود الأخير، ويبقى الأول معارضا لسياسات الحكومة والجيش.

والعسكر الذين صنعوا انقلابهم تدريجيا، ينتظرون بطبيعة الحال، دعما إقليميا وعربياً، من قوى تقود مشروع مضاد لـ”الربيع العربي”، وتثبيت الأنظمة القائمة خوفا من الإسلاميين. كما اختار (الجيش) توقيت انقلابه بعد ساعات من زيارة المبعوث الأمريكي جيفري فيلتمان إلى السودان، للإيحاء بحصوله على دعم دولي.

ورغم أن المواقف الغربية جاءت بمعظمها رافضة لما حصل، ومعبرة عن استنكار وقلق، فإن ما يخشاه الغرب من تهديد للاستقرار في البلاد، وبالتالي تحولها ساحة للإرهاب ومنبع للاجئين، قد يحوّله الجيش لفرصة، عبر تقديم نفسه للغرب كضمانة، لعدم تحقق هذه المخاوف، على ما فعل عبد الفتاح السيسي في مصر، وصار يكرر في كل لقاءاته الغربية، خطب عن دور بلاده في منع تدفق المهاجرين واحتواء هذه المسألة.

إقرأوا أيضاً:

غير أن الأوضاع في السودان تختلف عن مصر لناحية أن الثانية فيها دولة مركزية قوية، بينما الأولى، طالما عانت مع تمردات وحروب تختلط أسبابها بين السياسي والقبلي والعرقي، وإذ تمكن العسكر من التحالف مع بعض الحركات المسلحة، فإن حركات أخرى، قد تغرد خارج سرب استراتيجية الجيش في الاستيلاء على السلطة. عدا عن أن انهيار عملية الانتقال بفعل الانقلاب قد يؤدي لانهيار اتفاق السلام بين الحركات المسلحة والحكومة، ويعيد فتح الباب على الحروب في دارفور وسواها.

ما يعني أن العودة للوراء ونجاح الانقلاب في السودان، سيسفر عن عودة للصراعات القديمة، والتي كان بعضها يعود من فترة إلى أخرى، حتى خلال فترة الانتقال، مع فارق أن في تلك الفترة كانت هناك مساع لاتفاقيات وتفاهمات وإدماج قادة الحركات المسلحة في السلطة على قاعدة المشاركة، أي مساع لإنهاء الحروب نهائيا. مع استيلاء العسكر على السلطة، سنعود للعبة القديمة التي كان يلعبها عمر البشير، مع التمردات بما يخدم سلطته، عبر قمعها أحياناً وتغذيتها واستيعابها أحياناً أخرى، أي إدارة الصراعات بنازع سلطوي وظيفي.

تهديد الاستقرار الهش أصلا، هو نتيجة جزئية من نتائج عديدة للانقلاب، الذي سيسفر، حال نجاحه، عن وأد تجربة ديمقراطية أخرى في العالم العربي، كانت ثمرة لموجة ثانية من الربيع العربي. الأخير سيغلق الباب عليه نهائياً بعد ما حصل في تونس ولبنان والعراق، فما تعجز المليشيات عن تحقيقه، في بعض البلدان، يتولى الجيش تحقيقه في بلادنا أخرى، مع العلم أن، في السودان، الجيش ليس بعيداً تماما عن فكرة المليشيا، وإلا ماذا نسمي “الدعم السريع” أتباع نائب البرهان، محمد حمدان دقلو “حميدتي”.  

إقرأوا أيضاً: