fbpx

“لا تلعبوا مع النصارى”:
التطرف كشبح تتمدد ظلاله فوق مصر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

التطرف لم يهبط علينا من السماء كمؤامرة مدبرة من بلدان خارجية للتفرقة بيننا، كما يتم الترويج في الإعلام والندوات الثقافية، لكنه نتاج تصورات مسمومة تسللت بشكل تراكمي عبر الكيانات الدينية والاجتماعية والسياسية في مصر حتى بات التطرف طبيعة يصعب حصارها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كنت في سن صغيرة لا يسمح فيها عقلي باستيعاب كلمة ثقيلة مثل “التطرف” حين أخبرني أحد أصدقائي (10 سنوات) في الصف الابتدائي الثالث أنه لم يعد يحب اللعب معي في وقت الفُسحة المدرسية لأنني مسيحية من أهل النار.

أوضح صديقي أن المعلمة  “منوّر” أخبرتهم في حصة الدين الإسلامي أن المسيحيين أنجاس ومن أهل النار، “ما تلعبوش معاهم في الفسحة إلعبوا مع مسلمين”، هكذا أضاعت “ميس منوّر” بتعاليمها المسمومة فرص الاستمتاع بفسحتي مع أصدقائي المسلمين.

أفكر في ما وصل إليه الطلاب الذين تعلموا على يديها، لا بد أن بينهم اليوم أطباء وموظفي بنوك، وأصحاب أعمال، يجلس بعضهم وراء “الكيبورد” لكتابة تعليقات عدائية تشبه ما نقشته المعلمة منور في أذهانهم.

نموذج منور لم يكن الوحيد أو الاستثنائي، ففي الصف الابتدائي الرابع  كنت أحب وسامة “مستر عماد” وخفة ظله أثناء شرح المعلومات، لكنه فجأة وبدون مقدمات قرر قبل شهر رمضان أن يتحدث معنا عن الصوم، سأل: “يا ريت حد من المسيحيين يقولنا بتصوموا عن اللحمة ومنتجات الحيوان ليه؟”.

“يجب أن نستعيذ بالله في حال فعل أي تصرف يرضى عنه اليهود والنصارى”

أخبرته مريم صديقتي بأنه نوع من التقشف والزهد عن المأكولات الشهية للشعور بالفقراء، سخر من إجابتها: “في رمضان بنشعر بالفقراء لكن بنفطر على أكل حلو يخلينا نشبع ونتكرع مش شوية فول بالزيت وبصل وقرف”؛ مع تعالي ضحكات التلاميذ شعرت باختناق وتوتر، وبأن الحوار ليس فكاهياً وليس مجرد نكتة، إنه مؤامرة لا واعية  تشاركها المعلّم مع زملائي المسلمين ليشعروا معاً بالانتصار والغلبة لدينهم، ممارسين بضحكاتهم نوعاً من الاستعلاء الديني على قدر صغر سنهم، بتأييد من السلطة الكارهة للآخر المتمثلة في مستر عماد. 

في مدرسة أخرى كان صاحبها ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، أخبرني صديقي بأنه حفظ نشيد “لبيك إسلام البطولة كلنا نفدي الحمى… لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلما”، الذي فوجئت بعد سنوات بأنه نشيد الجماعات الإسلامية، أثناء ما عرف بفعاليات القوى الإسلامية لنصرة سوريا في فترة حكم الرئيس محمد مرسي لمصر 2012.

مواقف أخرى لا تفارق ذاكرة صديقي، كانت أكثر تطرفاً من مجرد أغنية إسلامية تردد في مدرسته، يذكر لي مثلاً أن معلمته كانت تعاقبه بطريقة تشبه الجلد على الظهر بالحزام: “وخزة عقابها لا تفارقني كلما تذكرت الموقف”، يحكي لي أنه كان المسيحي الوحيد في الفصل، ظلت تمارس ضده كل أنواع العنف النفسي والجسدي والتضييق، وقتها لم يدرك لماذا هو تحديداً على رغم التزامه بكل ما تقوله يتم التنكيل به بهذا الشكل، لكن حين كبر تذكر أحاديثها مع المدرسين عن الطلاب المسيحيين، “مش بطيق أشوفهم”، رددت مراراً.

السوشيل ميديا متنفس لكراهية المسيحيين المصريين

سلوك المتابعين العدائي ضد كل مختلف دينياً أصبح سائداً مع الأخبار الصغيرة المتعلقة ببدء الصوم الميلادي أو اتخاذ الكنائس إجراءات احترازية ضد فايروس “كورونا”. البداية مع نشر موقع  إخباري، هذا  “الحدث” على صفحاته الرسمية، لتنهال آلاف التعليقات الساخرة المثيرة للكراهية ضد المواطنين المسيحيين.

هذا التطرف لم يهبط علينا من السماء كمؤامرة مدبرة من بلدان خارجية للتفرقة بيننا، كما يتم الترويج في الإعلام والندوات الثقافية، لكنه نتاج تصورات  مسمومة تسللت بشكل تراكمي عبر الكيانات الدينية والاجتماعية والسياسية في مصر حتى بات التطرف طبيعة يصعب حصارها.

كراهية بالإعلام الرسمي

ظلت القنوات التلفزيونية في مصر على مدار سنوات فترة الثمانينات والتسعينات تعبث بالعقول، وتبث الكراهية بين الناس، تارة من خلال تلميع شيوخ بعينهم وإعطائهم مساحات يومية أو اسبوعية للحديث عن الدين الإسلامي في نسخته المتشددة، وأخرى بتجاهل وجود مواطنين من ديانات أخرى. 

كان النموذج الأبرز في تلك الفترة الشيخ متولي الشعراوي الذي أغضبت آراؤه المسيحيين،  “يجب أن نستعيذ بالله في حال فعل أي تصرف يرضى عنه اليهود والنصارى”، من هنا تراكمت لدى شرائح واسعة من المسلمين مشاعر الزهو بدينهم مقابل كراهية الآخر. وهكذا أثر الشعراوي وغيره في ملايين العقول والأفكار، تماماً كما فعل مستر عماد في مدرستي بعد نكتته عن الصوم المسيحي.

إقرأوا أيضاً:

 ما بعد يناير  2011

شاركت في الثورة بحماسة وفرح واعتزاز كبير حتى انقلب الأمر إلى حزن مديد على ما وصلت إليه الأوضاع في مصر، كنت قد انتهيت لتوي من كتابة ترنيمة عن العام الجديد، قام بتلحينها فريق “المُخلص” للترانيم الكنسية، الذي دعوت أفراده إلى تقديم فقرة في كنيسة مار مينا العجائبي أثناء الاحتفال مع المصلين برأس السنة الميلادية.

تفاعل الحضور مع الترنيمة بطريقة جعلتني أشعر بالرضا وكأنه تعويض عما مضى، وقبل انتهاء الكورال من فقرته، بدأ الحضور في الخروج بشكل متوتر، لم نعرف تحديداً ماذا حدث.

 خرجنا إلى ساحة الكنيسة لنجد من يبكي، ومن يسرع في الرحيل، وعلمنا أن تفجيراً إرهابياً كبيراً، استهدف كنيسة القديسين مار مرقس الرسول والبابا بطرس، في منطقة سيدي بشر شرق الإسكندرية مخلفاً وراءه أشلاء عشرات القتلى ودماء المصابين.

 تشتتت ترنيمتي بين دموع لا تليق باحتفالية عام جديد، لكنني ظللت متمسكة بما تحويه من آمال “هاحلم بشبع الوليمة وانسى الفُتات”، حتى ذهبت عقب الحادث بيومين إلى محل لبيع الملابس، كان يذيع تلفازه مشهد اعتراض المصلين في جنازة ضحايا الحادث، على كلمة الأنبا يؤانس أسقف أسيوط، حين قال “نشكر سيادة الرئيس محمد حسني مبارك ووزير الداخلية”، إذ أشار الناس له بعلامة لا، وأوقفوه عن استكمال حديثه في مشهد ثوري لم يحدث سابقاً داخل الكنيسة.

 هذا المشهد لم يعجب البائعة العشرينية في المحل، أبدت امتعاضها من احتجاج ذوي الراحلين “يعني هو الرئيس ذنبه إيه؟ المسيحيين دايماً مزودينها”، حين التفتت إلى نظرتي الفاحصة لها حاولت أن تلطف كلماتها بأن مبارك أصبح عبئاً على الجميع، ولكن لا يستحق هذه الثورة ضده. 

وقتها أيقنت أن التمسك بالوليمة بات ضرباً من الخيال أمام تطرف استعلائي موجه حتى لمن لا تزال دماؤه طازجة.

يونيو/ حزيران 2012

تخطت احتفالات فوز الرئيس محمد مرسي بحكم مصر، الميادين الرئيسية بقلب القاهرة، لتجوب أزقة المناطق السكنية في مختلف المحافظات؛ سيارات نقل تحمل على ظهورها رجالاً ونساء وأطفالاً، يرفعون صورة الرئيس الجديد، يصيحون “مصر إسلامية” ويهللون بطرق هيستيرية.

اختبأت في منزلي لأيام لا أذكر عددها، لازمتني غصة ظننت أنني لن أنجو منها،اتصالات الأصدقاء والمقربين من خارج مصر زادتنا توتراً، الكل يسأل عن أحوالنا في ظل الحكم الديني لمصر، وهل سنبقى أم سنحاول الرحيل بالتقديم على فرص للهجرة أو اللجوء الديني، كانت ردود أمي في الهاتف هي نفسها لا تتغير “مصر هي بلدنا”.

على مدار حياتي لم أكن على علم بوجود مكاتب خدمية تابعة للكنائس تساعد الأفراد في تيسير أوراق الراغبين بالهجرة، كانت هذه المكاتب خاوية أو تعمل في أوقات محددة ولا زحمة فيها، لكنني حينها شاهدت أعداداً هائلة من الأسر المسيحية مصطفة أمام أحد المكاتب الكنسية، وحين سألت  بعض الموجودين عن سبب الهجرة كانت الإجابة واحدة “البلد ما بقتش بلدنا”، الأمر نفسه تكرر أمام مكاتب كثيرة في كنائس كبرى، طوابير لا نهاية لها من المسيحيين لا سيما النساء والفتيات الراغبات في ترك مصر من دون عودة.

 استغلال فكرة الجموع لنجاح الإخوان وتسليط القنوات الإعلامية على مفهوم الغلبة الدينية للحكم، واستحضار شيوخ متحدثين في البرامج بدلاً من المدنيين، كلها مظاهر وجدت صداها في الشارع.

“هنقعدك في البيت يا مره ونحجبك” بنبرة واضحة قالها لي رجل أربعيني وهو يقترب تماماً من أذني لضمان عدم سقوط كلمة  واحدة من كلماته في الهواء، كان ذلك أول يوم مشيت فيه في شارعي، لشراء حاجات المنزل بعد فوز مرسي ، هذا الرجل لا أعرفه شخصياً لكن ملامحه متكررة في وجوه شباب ونساء وحتى أطفال يسقطون تعاليمهم علينا ويعتبروننا كفاراً،  والمرأة المسيحية برأيهم مجرد شيء، أو غنيمة في أفضل حال.

 استغلال فكرة الجموع لنجاح الإخوان وتسليط القنوات الإعلامية على مفهوم الغلبة الدينية للحكم، واستحضار شيوخ متحدثين في البرامج بدلاً من المدنيين، كلها مظاهر وجدت صداها في الشارع.

لم يعد يفلح مع أصحاب الوجوه المتجهمة واللحى المشعثة التزام البيت والخروج إلى الشارع في أضيق الحدود، حتى مع الاستغناء عن الكثير من لمسات الجمال أو أي شيء يمكن أن يلفت الأنظار، لا ماكياج، لا ملابس مبهرجة وبالطبع الكعب العالي ممنوع وكذلك الشعر المنسدل، قيود وضعناها ضمنياً على أنفسنا بدون اتفاق أو توجيه من أحد، لكنها كانت بمثابة رقابة ذاتية تجنبنا نظرات متجهمة وغاضبة. 

 كنت أحب تطويق عنقي بسلسلة تحمل صليباً صغيراً، ووضعه داخل ملابسي بحيث لا يظهر للمارة، فهو آخر ما تبقى لي من مظاهر دينية تشعرني بالدفء الروحي، بعدما دربت نفسي على التخلي عن الشعائر الظاهرة، ومع ذلك، ظلت السلسلة معلقة بأحد أرفف خزانتي. خفت من ارتدائها حتى وإن لم تكن ظاهرة، اعتدت على ذلك منذ حادث القديسين، وبداية الثورة المصرية، حين شعرت بأن شبح الكراهية بات في كل مكان. كنت أتخيل أنه يمكن توقيفي أو  قد أتعرض لأمر طارئ ينتهي بكارثة بسبب الصليب المعلق في رقبتي. 

 صديقاتي أيضاً سمعنَ كلمات شبيهة بما سمعته، بعضهن حصلن على إجازات بدون مرتب في محاولة لتجنب المضايقات، وهناك صديقة أخبرتني عن شخص ظل يلاحقها مسافة شارعين حتى اقترب منها وقال لها، “بكره مش هنشوف أشكالكم في الشارع يا كفرة”.

 في الأعوام القليلة السابقة للثورة المصرية انتشرت مراكز حقوقية مهتمة بنشر مبدأ  قبول الآخر، كنت أدين بالفضل لأحدها “اتحاد الشباب الليبرالي”، أمضيت فيه الكثير من الوقت، وتعلمت كيف يمكنني التعايش مع أكثر الشخصيات المختلفة معي، شعرت بأنه مساحة آمنة تقينا من المحيط الرافض لأي فكر مختلف. 

كانت معنا فتاة منقبة ،كانت تعمد رفض إلقاء السلام عليَ، حاولت معها كثيراً بلا جدوى، كل مرة كانت تباغتني بالسلام على المحيطين ثم تمر من جانبي كأنني شبح غير مرئي.

أخبرتها بأن عليها احترام قواعد المكان الذي تنتمي إليه، “كيف تتدربين وتستفيدين من مكان يعلمنا احترام الآخر، وانتِ رافضة للفكرة نفسها؟ لماذا تناقضين نفسك؟”، أخبرني أحد المدربين بأنها “نتيجة الحرية التي ندربكم عليها، هي في النهاية تمارس قواعد وعلينا احترامها”، رفضت حديثه وقلت له “لا احترام ولا قبول  لمن لا يمارس الاحترام ويتعامل بتعالٍ مع المختلفين”.  

 شواهد كثيرة كانت تؤكد لي أن سنوات من التطرف سنعيشها في كل حال، لكن ما أنكرته عن احتمال أن يصبح السائد هو التطرف والاعتدال أصبح واقعاً الآن، فقد بات التطرف شبحاً تصعب ملاحقته أو مطاردة ظلاله الممتدة إلى كل شبر في مصر.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.