fbpx

“القاضي الغريم”:
اليمن والعدالة المُسيسة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“المحاكمات التي تجريها الجزائية المتخصصة الخاضعة لسيطرة سلطة صنعاء، بحق المختطفين، تعد غير قانونية، ذلك أنها تخلو من أي شكل يمكن حمله على منطق الصلة بالقانون، إنما تقوم بتلك الإجراءات الصورية كجزء من التعذيب النفسي والجسدي للمختطف”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ليس جديداً الحديثُ عن تأثير السلطة السياسية في اليمن، خلال عقود، في عمل المؤسسة القضائية، إلا أن ذلك التأثير ظلّ أخف ظهوراً، بالمقارنة مع مخرجات المرحلة الراهنة من الصراع الدامي الممتد منذ ست سنوات في اليمن، وما رافقه من انقسام للقوى والنفوذ بين الأطراف المتصارعة، ممتداً إلى الوزارات والبرلمان والمؤسسات الوطنية التي أصبح وجودها مزدوجاً ومتضاداً؛ منها ما يرزح تحت سيادة الحكومة المعترف بها دولياً، وغيرها تحت سيادة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، بما في ذلك المؤسسة القضائية، التي تعد ثالث سلطة سيادية في نظام الدولة الحديثة. 

أدى هذا الازدواج المتأثر بالمناخ السياسي، إلى المساس بجوهر الاحتكام إلى العدالة التي تمثلها السلطة القضائية، باعتبارها الضامن القانوني للحقوق العامة والخاصة والمخوَل الوحيد لإعْمالِ مبدأ العقاب وفق القانون الذي يمنحها تلك السلطة، المكتسبة من احتكار الحق في تطبيقه دفعاً للغبن وإحلالاً للقسط؛ أو أنها تتحول إلى شكلٍ متحور من أدوات القمع التي تجعل من جريمة التنكيل فعلاً قانونياً، وهو المزلق الذي هَوَت إليه مؤسسة العدل في اليمن؛ بشقيها التابع لسلطة أنصار الله (الحوثيين) أو للحكومة المعترف بها دولياً. وثقت دراسة صدرت راهناً، عن منظمة “مواطنة للحقوق والحريات”، محاكمات مجافية للقوانين الوطنية، و”تفتقر إلى الحد الأدنى من مبادئ المحاكمة العادلة بحق متهمين مثلوا أمام المحاكم الجزائية المتخصصة”. 

يأتي ذلك، بالتزامن مع موجة ردود الفعل التي ضجَّ بها الرأي العام المحلي والهيئات والمنظمات الحقوقية، وفي طليعتها منظمة “مواطنة للحقوق والحريات”، عقب الاعدامات الأخيرة التي نفذهاالحوثيون بحق تسعة أشخاص، بينهم قاصر، صباح السبت 18 أيلول/ سبتمبر 2021، بناءً على حكم صدر عن المحكمة الجزائية المتخصصة الخاضعة لسيطرة الجماعة، في أب/ أغسطس 2020، بتهمة التورط في اغتيال صالح الصماد القيادي والرئيس السابق لما يعرف بـ”المجلس السياسي الأعلى التابع للجماعة، الذي قُتل مع بعض مرافقيه، إثر غارةٍ نفذها الطيران الحربي التابع للتحالف الذي تقوده السعودية، في نيسان/ أبريل 2018 في محافظة الحديدة (غرب اليمن). 

الأحكام السياسية الصادرة من الجزائية المتخصصة في صنعاء لم تخلُ من أبعاد مضمرة، ومنها الضغط السياسي على الخصوم في الجهة المقابلة

العدالة بوجهٍ متجهم

ردود الفعل الواسعة التي أعقبت تنفيذ حكم الإعدام بحق المتهمين في “قضية التخابر في مقتل القيادي في جماعة أنصار الله ورئيس مجلسهم السياسي السابق صالح الصماد”، كان أشبه باستفتاء جماهيري أظهر حالة الغليان والسخط، إزاء تسمم الجهاز القضائي بالاعتبارات السياسية، نظراً إلى كون إجراءات التقاضي التي اتَّبَعتها المحكمة الجزائية المتخصصة مع المتهمين في هذه القضية- التي انتهت بتنفيذ حكم الإعدام رمياً بالرصاص- خَلتْ من الحد الأدنى من المعايير القانونية، ومثَّلت انتهاكاً صارخاً لحق المتهمين في محاكمةٍ عادلة، بما في ذلك إهدار حق الدفاع، والتعرُّض لانتهاكات وتعذيب بهدف انتزاع اعترافات قسرية، بحسب ما أوردته الدراسة وأكده دفاع المتهمين. 

المقلق أن هذا النوع من المحاكمات الصورية غير المستوفية للشروط القانونية من جانب المحكمة الجزائية، ليس سوى اتصال روتيني لسلسلة من الأحكام المشابهة، تمت في ظروف مشابهة لقضية المتهمين في قضية اغتيال الصماد، كما تَبَيَّن من خلال الدراسة التي اعتمدت في استنتاجاتها على فحص عينة من ملفات القضايا المنظورة أمام المحاكم الجزائية المتخصصة خلال المدة الزمنية من عام 2014 حتى 2020 في المحكمة الجزائية المتخصصة، تحت سلطات الحوثيين، في أمانة العاصمة صنعاء، وأخرى أمام المحكمة الجزائية المتخصصة تحت سلطة الحكومة المعترف بها دولياً في حضرموت. 

وعَرَّجت الدراسة على ذكر أحكام سابقة صدرت عن الجزائية المتخصصة في صنعاء، لم تخلُ من مآخذ قانونية غير مبررة، كان آخرها الحكم بالإعدام بحق 11 شخصاً، بينهم امرأتان، في القضية التي دَرَجَ الاعلام التابع للحوثيين على تسميتها “خلية عمار عفاش”.

كما لفتت إلى قضية الصحافيين الأربعة الصادر بحقهم حكماً بالإعدام من المحكمة نفسها، عام 2019، إذ قضت بإعدام أربعة من أصل تسعة صحافيين كانوا محتجزين لدى الجماعة منذ 2015، وعلى رغم أن الحكم تضمن اطلاق سراح الباقين، فقد أبقت الجماعة عليهم في المعتقل، زهاء عامٍ ونصف العام من تاريخ صدور الحكم بالإفراج عنهم، إلى أن أطلق سراحهم في صفقة تبادل رعتها الأمم المتحدة حينها. 

الصحافي هشام طرموم، كان أحد الستة المفرج عنهم، يوضح أن “المحاكمات التي تجريها الجزائية المتخصصة الخاضعة لسيطرة سلطة صنعاء، بحق المختطفين، تعد غير قانونية، ذلك أنها تخلو من أي شكل يمكن حمله على منطق الصلة بالقانون، إنما تقوم بتلك الإجراءات الصورية كجزء من التعذيب النفسي والجسدي للمختطف، الذي يخضَع له وصولاً إلى المحكمة، ثم يتكرر في فترة المحاكمة، وبعد إصدار الأحكام أيضاً”. 

بحسب طرموم، فإن الأحكام السياسية الصادرة من الجزائية المتخصصة في صنعاء لم تخلُ من أبعاد مضمرة، ومنها الضغط السياسي على الخصوم في الجهة المقابلة، مبيناً أن “ذلك المغزى ورد على لسان مدير سجن الأمن السياسي التابع للحوثيين، الذي قال لنا معلقاً على صدور الحكم في إعدام أربعة منا، والافراج عن الباقين: لا هؤلاء سيعدمون ولا أولئك سيفرج عنهم، أي أن الهدف من ذلك كان سياسياً صرفاً هدفه الضغط على الفصيل الآخر، ولا علاقة له بالقضايا المنسوبة إلينا، وذلك ما تبين لاحقاً بعد رفض الافراج عنّا إلا بعد إبرام صفقة تبادلٍ للأسرى”، يوضح طرموم.

إقرأوا أيضاً:

تسييس بعباءة جنائية 

تؤكد الدراسة التي أعدتها “مواطنة” في أكثر من موضع، حقيقة أن الأطراف المتحاربة استخدمت القضاء المتمثل بالمحاكم الجزائية كـ”أداة للتنكيل بالخصوم ومعاقبة المناوئين السياسيين”، ذلك أن الأحكام ذات البعد السياسي الصادرة عنها، اعتمدت على “محاضر جمع الاستدلالات، وأن جميع الأحكام صدرت اعتماداً على تلك المحاضر التي تنحصر غالباً في اعترافات المُتهمين أمام الجهات الأمنية وأمام النيابة الجزائية الخاضعة لسلطات أطراف النزاع، من دون استقصاء جاد في مدى حقيقتها أو في حقيقة ثبوت الوقائع التي أنكرها المتهمون أمام مجلس القضاء في المحكمة، وقد أفاد بعضهم بأن تلك الاعترافات انتزعت بالإكراه وتحت التعذيب الجسدي والنفسي خلال فترة الاحتجاز الطويلة، وهو ما يشكك في قيمتها القانونية كأدلة للإثبات وفقاً للقانون”.

في السياق، يرى طرموم أن الإعدامات التي نُفذت راهناً في صنعاء، بحق تسعة أشخاص من محافظة الحديدة، قد لا تختلف في طبيعتها وظروفها عن الظروف التي تعرض لها مع زملائه قبيل الحكم عليهم قبل ثلاث سنوات، لافتاً إلى أن ما حدث للمتهمين التسعة، سبَّبَ هلعاً لعائلات المختطفين الأربعة، الذين ما زالوا يترقَّبون مصيراً ربما يكون مشابهاً.

 ويشير طرموم إلى أن “ما يثير المخاوف أكثر، هو أن تكون مثل تلك الأحكام بداية لمسلسل من الجريمة المقوننة، المدفوعة برغائب سياسية تختفي تحت عباءة جنائية، إلا أننا لا نزال نأمل أن تستجيب الأمم المتحدة والمنظمات الفاعلة في مجال حقوق الإنسان، للقيام بدور أكثر حزماً في الضغط على سلطة الأمر الواقع لإطلاق سراح الصحافيين الأبرياء المحكوم عليهم بالإعدام”. 

انتهاكات لا يُقرُّها القانون

في المجمل، نجحت الدراسة، من خلال التدقيق المعمّق للقضايا التي اتكأ عليها فريق الباحثين لدى “مواطنة”، في تقديم توثيق قانوني على درجة من الأهمية، كشف عن مدى التحايل القانوني الذي يُمارس من قبل المحاكم والنيابات الجزائية المتخصصة، الخاضعة لأطراف الصراع، إمعاناً في انتهاك الحقوق المكفولة قانوناً للضحايا في الدفاع المشروع خلال المحاكمات التي يغلب عليها الطابع الصوري غير العادل، إلى جانب ما يرافقها أو يعقبها من فظائع مثل انتزاع اعترافات من الضحايا تحت التعذيب، وممارسة الضغوط والإيذاء النفسي والجسدي بحق المتهمين لحملهم على قبول الإقرار بما يُملى عليهم، في مقابل تجاهل دفوع المتهمين في الأحكام التي يشعرون حيالها بالغبن، ناهيك بالاحتجاز التعسفي، والترهيب، والحرمان من الرعاية الصحية والزيارة وغيرها. 

والأخطر من كل ذلك أن تتحول المؤسسة القضائية إلى أداة مسيسة بيد أطراف الصراع، على النحو الذي يزهق روح العدالة ويفقد الضحية ثقتها بسطوة القانون في انتزاع حقها من الجلاد، طالما صار بإمكان الأخير أن يتحول إلى قاضٍ غريم، بيده نقض الأمر وبرمه، وليس للضحية/ المتهم سوى الاقتناع بإدانةٍ لم تقترفها، والتسليم بعدالةٍ قد تقودها إلى مقصلة الجلاد في كرنفال الدم.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.