fbpx

أحلم بصوت طائرة تهدر فوق سقف غرفتي كل ليلة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كانت الحرب مع إسرائيل واضحة المعالم… كان الوضع محسوماً ببساطة. هناك الشرير الذي اغتصب فلسطين وشرّد أهلها والبطل الذي يقف له بالمرصاد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان والدي طياراً حربياً من الجيل الأول وقد طبع هذا الامتياز حياتي كلها. 

في الطفولة كان الرجال بنظري قسمين: الرجال العاديون والطيارون.

مطار المزة العسكري كان جنتي على الأرض. 

تركزّ عالمي حول بدلات الطيران الكحلية والجناح الذي يتوسطه علم الجمهورية يسطع على الصدر جهة اليسار فوق القلب كما شرح لي والدي.

كان صوت أي طيران عشوائي في الليل  يجعل سريري على اتّصال بالسماء ويتكفّل بهدهدتي قبل النوم، مستدرجاً صورة الرجل الذي كنت في شوق دائم إليه بسبب غيابه المستمر عن البيت لظروف الحرب.

 كانت الحرب مع إسرائيل واضحة المعالم…

كان الوضع محسوماً ببساطة. هناك الشرير الذي اغتصب فلسطين وشرّد أهلها والبطل الذي يقف له بالمرصاد. 

الشرير هو إسرائيل والبطل هو والدي.

وسوف تتحرر فلسطين قريباً. وهذا كل شيء

“سماؤنا لنا ، حرام على غيرنا”، عبارة سكنت قلبي.

في إحدى الأمسيات الصيفية فاجأنا بزيارة وكنا نهم بالخروج من المنزل. أسرعت أمي وألغت موعدنا. كانت إجازاته لا تتعدى اثنتي عشر ساعة. من المغرب وحتى الشروق. كان علينا أن نستغلّ الوقت جيداً.

التصقت به كعادتي ولاحقته طوال المساء. لم أكلّمه كثيراً. كنت أتابع حركاته وكلماته وأختزنها. وحين جاء وقت النوم اصطحبني إلى الشرفة. وأجلسني على حضنه وأخذنا نتأمل سماء دمشق التي زاد سطوع نجومها انقطاع الكهرباء.  بادرني بالقول:  “أتدرين؟ عندما ينتصف الشهر القمري. ويصبح البدر تامّاً سوف أطير في مهمة ليلية وسأقطف لك نجمتين وأحملهما معي في الإجازة المقبلة”.

غمرتني دهشة لم تتكرّر في حياتي، “وهل أستطيع أن أريهما لصديقاتي في المدرسة؟”. أجاب أبي، “نعم. ستكونان لك. ما رأيك أن ننام الآن؟”.

كانت حماستي لا توصف. أردت أن أطلب نجمة ثالثة أهديها لصديقتي المفضّلة ولكنني غيّرت رأيي بسرعة. سوف تكون النجوم لي وحدي… بإمكانهم أن يروا آباءهم كل يوم. أما أنا فسوف أفتح علبة النجوم وأجعل بريقها يخطف أبصارهم ثم أغلقها وأحتفظ بها.

وهكذا أمضيت جزءاً كبيراً من ذلك الصيف أحلم بالنجمتين.         

انتظرت بصبر. ولم  يحضر والدي النجوم أبداً. وعندما كنت ألتقيه خلال زياراته القصيرة كان يلهيني بأحاديثه  وأنسى أمر النجمتين. سألته مرة فأجابني أنه لم يجد نجوماً تلتمع كما يريد وأنه ما يزال يبحث… وأجبته لا يهمني… أي نجمتين… فقال لي: لا… سأحضر نجمتين تشبهان عينيك عندما تفرحين.

 ثم كبرت. 

وأخذ السحر يتلاشى شيئاً فشيئاً.

 كانت قدرتي على التطور والخروج من شرنقة أحلام الطفولة محدودة بسبب تعلقي  المرضيّ بهذا العالم الذي كان يزداد قداسة كلما تجدّدت الصراعات مع إسرائيل. 

 حاولت أن أجد مخرجاً لأزمتي مع الهزائم العسكرية التي كانت تتلاحق تباعاً.

قرأت الصحف والمجلات. لم أكن أستوعب المصطلحات السياسية ولم أكن أميّز الغثّ من السمين. لكن بوصلتي كانت تشير دائماً إلى السماء. إلى طائراتنا الحربية وأملنا بالنصر. 

ثم سافرت خارج البلاد للمرة الأولى، لأكتشف أن وطني دولة مغمورة وعندما يسألني أحدهم: من أين أنت؟ كنت أضطر والألم يعتصرني أن أشرح موقع وطني على الخريطة بالنسبة إلى عدو وطني  إسرائيل. 

وبدأت أعي مكانتي الحقيقية في هذا العالم.

وانتقلنا من مرحلة استعادة فلسطين إلى مرحلة استعادة الجولان إلى مرحلة الصمود بوجه العدوان.

وكلما عدت إلى سوريا كان والدي يجدّد لي العهود ويشعل حماستي من جديد بقضية صرت مقتنعة بعدم جدواها.

كان يحزن وما زال، أحاديث الهجرة والتخلّي عن الوطن ويمتنع عن الخوض في هذا الموضوع.

ثم رأيت في الحلم أننا جالسان أنا ووالدي في الشرفة الصيفية نراقب قمراً وردياً  عملاقاً يتوسط صفحة السماء. 

وفجأة هوى القمر على أرض مستوية أمامنا. 

ركضت نحو القمر الساقط. وجدت قطعة معدنية مستديرة.

وطال هذا الحلم متحولاً إلى كوابيس يومية.

 رأيت في ما يرى النائم انتصارات كثيرة، عندما يرتفع علمنا فوق قرى ومدن مدمّرة بعد اقتتال على فتات ما تبقى من تراب الوطن.

وما زال والدي يراقب بصمت السماء الليلية. وما زال يحصي الهزائم. وما زال يعتقد أن الانتصار آتٍ لا محالة.

 إذا أردت أن تكون محبوباً احترم حبك، وآمن به (الفرد دو موسيه).

 و ما زلت أحلم بالنجمتين. وأحلم بصوت طائرة تهدر فوق سقف غرفتي كل ليلة لأتمكن من استحضار النوم. 

 وما زلت أؤمن بانتصار كبير وأنتظره.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!