fbpx

يوم الجمعة الدامي للّيرة التركية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ثمة قناعة بارتباط أزمة الليرة التركية بأسباب سياسية تتعلق أساساً بتفاقم تفرّد الرئيس بكل السلطة، وتدهور حالة الحريات العامة، وتآكل استقلالية القضاء، وتبعية المصرف المركزي للسلطة السياسية، وانتهاء الدور الرقابي للإعلام، وفشل السياسة الخارجية للحكومة في إدارة العلاقات مع الدول الأخرى.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان الأتراك على موعد مع مؤتمر صحافي لوزير المال والخزينة العامة برات ألبيرق، في الثانية بعد ظهر يوم الجمعة العاشر من شهر آب/اغسطس الجاري. لكن الوزير “الداماد” ألبيرق، أخّر موعده ساعةً وربع الساعة، إلى حين انتهاء حميه ورئيسه رجب طيّب أردوغان من خطاب كان يلقيه في إحدى المدن الصغيرة التي قام بزيارتها ليشكر الناخبين على انتخابه. ذلك أن جميع قنوات التلفزيون الحكومية والخاصة، تقريباً، تنقل خطابات الرئيس الذي يكاد لا يغيب يوماً واحداً عن الشاشات.

كان موضوع المؤتمر الصحافي لوزير المال هو “رزمة إجراءات اقتصادية جديدة” للمئة يوم القادمة، من المفترض أن تشكل “نموذجاً جديداً” تواجه به تركيا الصعوبات الاقتصادية التي يعانيها الاقتصاد منذ بعض الوقت. خلا كلام الوزير من أي أرقام أو مؤشرات اقتصادية لا يقوم أي برنامج اقتصادي على غيابها، كما قال تيموثي آش الخبير الاستراتيجي في مؤسسة “بلوبيه آسيت مانيجمنت” في لندن. وشكّك آش في معرفة ألبيرق بماهية الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد التركي، ليختم بالقول إن تركيا بحاجة الآن إلى برنامج لمئة الساعة القادمة، لا مئة يوم.

وفي الوقت الذي كان ألبيرق يقدم فيه برنامجه الاقتصادي، غرّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب قائلاً، إنه وقع على قرار برفع الرسوم الجمركية على واردات الألمنيوم والفولاذ التركيين بنسبة 100%. فقفز سعر صرف الدولار، مقابل الليرة التركية، قفزة فلكية، بنحو عشر نقاط. كما لعب خبر نشرته فاينانشل تايمز، في اليوم نفسه، عن تأثر بنوك أوروبية تملك حصصاً في بعض البنوك التركية بتذبذبات سعر الصرف في تركيا، و باقتراب بعض البنوك التركية من لحظة العجز عن الوفاء بالتزاماتها بالعملات الصعبة، دوراً مؤثراً في تدهور قيمة الليرة التركية أمام العملات الأخرى.

ختم الرئيس الأميركي تغريدته المشار إليها بالقول إن علاقات بلاده مع تركيا هي في حالة سيئة الآن. ويعتبر بعض المراقبين أن الأزمة الدبلوماسية الحالية بين واشنطن وأنقرة، بسبب استمرار احتجاز القس برونسون، في الإقامة الجبرية، هي أحد العوامل المؤثرة على تدهور قيمة الليرة. يشار، بهذا الخصوص، إلى أن الوفد التركي الذي زار واشنطن لتسوية الخلاف بشأن برونسون، فشل في إقناع الأميركيين بمقترحاته. وكانت الخارجية الأميركية واضحة بهذا الشأن حينما قالت: “لو تمّ التوافق فيما بيننا لكان القس برونسون في الولايات المتحدة الآن!”

وعموماً ثمة قناعة بارتباط أزمة الليرة التركية بأسباب سياسية تتعلق أساساً بتفاقم تفرّد الرئيس بكل السلطة، وتدهور حالة الحريات العامة، وتآكل استقلالية القضاء، وتبعية المصرف المركزي للسلطة السياسية، وانتهاء الدور الرقابي للإعلام، وفشل السياسة الخارجية للحكومة في إدارة العلاقات مع الدول الأخرى.

أشار أحد المراقبين إلى خلو الصفحات الأولى للصحف التركية، الصادرة يوم الخميس، من أي خبر عن تدهور قيمة الليرة، في الوقت الذي كانت وسائل الإعلام العالمية أكثر انشغالاً بالموضوع. وهذا ما يشير إلى حالة الإنكار والانفصال عن الواقع التي تعيش فيها السلطة المهيمنة على الإعلام. وبدلاً من تحذير الحكومة من عواقب تدهور قيمة الليرة، تروج وسائل الإعلام لما يسوقه المسؤولون من ذرائع تبريرية تتمحور حول فكرة مؤامرة خارجية ضد تركيا، أو للمقترحات الميتافيزيقية للرئيس أردوغان الذي قال: “إذا كان لديهم الدولار، فنحن لدينا الشعب والله”!

فإذا كان ثمة “مؤامرة” فعلاً على تركيا، فهي معلنة ومكشوفة بما يبعدها عن وصف المؤامرة: وهي أساساً حالة التوتر في العلاقات مع واشنطن، بأسبابها المعروفة. فإضافة إلى قضية القس برونسون، هناك موضوع العقوبات الاقتصادية على إيران التي أعلنت أنقرة أنها لن تلتزم بها، الأمر الذي أغضب الإدارة الأميركية التي توعدت المخالفين بعواقب قاسية. كذلك هو موضوع صفقة صواريخ S400 الروسية التي تنوي تركيا شراءها.

ومن الجانب التركي، هناك موضوع تحالف الأميركيين مع وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا، ورفض واشنطن تسليم الداعية التركي فتح الله غولن الموجود في الولايات المتحدة.

المشكلة أننا أمام خلافات عميقة بين دولتين إحداهما هي القوة العظمى الوحيدة عالمياً، ويرأسها شخص كدونالد ترامب. من الواضح، في هذه الحالة، أن الطرف الأضعف محكوم عليه باتباع سياسة واقعية وتقبل المرّ، عاجلاً كان ذلك أم آجلاً. لذلك تُتَّهَمُ الحكومة التركية بسوء إدارة خلافاتها مع واشنطن، وإساءة تقدير العواقب المحتملة لاستمرار تلك الخلافات.

مجموع هذه العوامل، أوصلت تركيا، وليس الليرة التركية وحدها، إلى حالة من “انعدام اليقين” بشأن المستقبل، وبخاصة في غياب أي بدائل سياسية قادرة على إنتاج الحلول للمشكلات السياسية والاقتصادية الكثيرة التي تعانيها تركيا اليوم، بعدما تمّ التمديد لحكم الرئيس وحزبه في الانتخابات الأخيرة، في الوقت الذي غرقت فيه أحزاب المعارضة في خلافات داخلية بمناسبة فشلها في الانتخابات المذكورة.

ثمة توقعات رائجة عن احتمال أن تطلب الحكومة التركية قروضاً من البنك الدولي، بعد سنوات من تخلصها من أعباء القروض القديمة، كمخرج محتمل من العجز في الميزان التجاري وهروب الاستثمارات الخارجية، وهما بعض عوامل فقدان الثقة بالعملة الوطنية.

في جميع الأحوال، أمام تركيا تحديات كبيرة، في الاقتصاد كما في السياسة. وفي بيئة إقليمية مشتعلة، وبيئة دولية مضطربة. سنرى في الأيام والأسابيع القادمة كيف ستواجهها الحكومة.