fbpx

200 عام على رحيله… الدرس “البونابرتي”
الذي لا يستوعبه الطُغاة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يُنقذ نابليون فرنسا، بل لم يستطع إنقاذ نفسه من نهاية مؤلمة انتهى إليها مهزوماً ومنفياً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا يصح أن يمر عام الاحتفال بالمئوية الثانية لرحيل الزعيم الفرنسي نابليون بونابرت بلا استعادة الدرس الأكثر أهمية في عهده، فالتاريخ، عموماً، يزخر بدروس يكفي استيعاب قليل منها لتجنب مصائر مؤلمة. والدرس البونابرتي الماثل في تجربة نابليون بونابرت، وكذلك ابن أخيه شارل لويس بونابرت، أحد أهم هذه الدروس، وأكثرها بلاغة، فضلاً عن أنه أقدمها في العصر الحديث.

السيمفونية الثالثة

كانت بداية نابليون الأول مُبشرة، بل بدت مُلهمة بمعايير عصره، إلى حد أنه فتن مثقفين كباراً في العالم، منهم الموسيقي العظيم بيتهوفن الذي وضع السيمفونية الثالثة تمجيداً له.

وتكفي قصة هذه السيمفونية للتعبير عن جوهر الدرس الذي يحتاج إلى استيعابه كل من يظن أنه قادر على أن يُحقَّق أمجاداً عبر احتكار السلطة والحقيقة. وضع بيتهوفن هذه السيمفونية من أجل نابليون معتقداً أن سياساته ومشاريعه ستُغّير التاريخ وتُحقَّق لفرنسا مجداً عظيماً، مثلما اعتقد الفيلسوف فردريش هيغل عندما قال عنه إن روح أوروبا يمتطي جواداً. ولكن لم تمض بضع سنوات حتى أدرك بيتهوفن أنه كان واهماً. وربما فهم أن البحث عن بطل مُنقذ ليس سوى وهم. لذا قام بتغيير اسم السيمفونية إلى البطولة “إيرويكا” لكي تحمل معنى عاماً مُجرداً، غير مرتبط بشخص.

وربما كانت هذه بداية وعي تنامى عبر العقود بأن البطولة حالة ترتبط بمنظومة عامة يصنعها مواطنون أحرار عبر مشاركتهم في مجتمع تتوافر فيه المقومات اللازمة لإطلاق طاقاتهم الخلاقة، وليست صفةً تُخلع على حاكم هنا أو هناك نتيجة وعي زائف بأن القدر جاء به لإنقاذ هذا البلد أو ذاك.

أوهام الحاكم المُنقذ

لم يُنقذ نابليون فرنسا، بل لم يستطع إنقاذ نفسه من نهاية مؤلمة انتهى إليها مهزوماً ومنفياً. اعتلى نابليون السلطة منفرداً تماماً، وإمبراطوراً عام 1804، ومتمتعاً بشعبية جارفة ربما يجوز القول إنها الأولى من نوعها في التاريخ، من حيث أنها كانت حقيقيةً ومُعبرةً عن اختيار شعبي، ولم تكن مفروضةً بالقوة. فلم تُتح فرصة لأي شعب قبل ذلك لاختيار من يحكمه، أو للتعبير عن موقفه بحرية. كانت تلك المرة الأولى التي التف فيها قطاع واسع من شعب بإرادته حول حاكم قدم نفسه بوصفه من يستطيع إنقاذ فرنسا من اضطرابات غمرتها في السنوات التالية لثورة شعبها المُلهمة عام 1789.

لم يُقدر نابليون طبيعة المهمة التي تنتظره حق التقدير، وانهمك في معارك أغرته انتصاراته الأولى فيها. ولكن هذه الانتصارات التي بدأت في معركة ترافلغار انتهت بهزيمة ساحقة أسدلت الستار على حكمه الزاخر بدروس يفوز من يعرفها ويستوعبها، ويخسر من يجهلها أو يستهين بها.

وحتى عندما لقي هزيمته الساحقة الأولى، ودخلت قوات التحالف باريس عام 1814، لم يُدرك هول ما فعله حين احتكر السلطة، وعاش في عالم من صنعه، وفقد الصلة بالواقع. وعندما هرب من منفاه الأول في جزيرة “ألبا”، وعاد إلى فرنسا في العام التالي، لم يفهم أنه في حاجة إلى تحرير الشعب من القيود التي كبله بها، وإعادة بناء الوضع الداخلي، وتبني منهج مختلف قبل خوض المعركة التي أرادها فاصلةً حاسمةً، بل ذهب من فوره إليها في واترلو، حيث لقي هزيمته النهائية التي نُفي بعدها إلى جزيرة سانت هيلانة، ومات هناك ذليلاً.

لا صوت يعلو

لم تكن الحروب المتواصلة التي خاضها، ويُطلق عليها الآن “الحروب النابليونية” هي الخطأ الرئيسي الذي وقع فيه وكان سبباً في محنته. فلم يكن ممكناً تجنب خوضها لأن عداء بعض الملكيات الأوروبية للثورة الفرنسية كان عنيفاً.

ولكن خطيئة نابليون، التي أدت في النهاية إلى هزيمة ساحقة، كانت في طريقة إدارته الحرب التي حقق فيها انتصارات في البداية، قبل أن تجرفه نداهة الطُغيان، فيتجبر ويُغلق المجال العام، ويعصف بالأصوات المختلفة.

فقد اعتقد أن إلغاء التعدد والتنوع وحجب الأصوات المختلفة يُقويانه، ولم يدرك أنهما يُضعفانه. وظن أن تقييد الصحافة وتحويل الإعلام إلى دعاية رخيصة يُحققان رصيداً له في الحروب الصعبة التي خاضها، ولم يدرك أن حرية الصحافة هي التي تُعينه، وأن تكميمها يحرمه أهم ما يحتاجه، وهو أن يرى الواقع كما هو بلا تزيين أو تزييف. ولعله ابتهج عندما انخفض عدد الصحف، ولم يُقدّر الخطر المترتب على ذلك. وفي سنوات نابليون الأخيرة، كان الفرنسيون يقرأون في الصحف أخباراً عن انتصارات ساحقة في ميادين القتال، فيما يسمعون من العائدين من هذه الميادين غير ذلك.

كان نابليون في حاجة إلى من يُطلعه على الحقائق في وقت مبكر. ولو أن هذا حدث، لاستطاع تغيير خططه وتصحيح أخطاء هنا وهناك، لأنه كان قائداً فذاً. 

إقرأوا أيضاً:

تحول “المطبلاتية”

لم يُدرك نابليون أيضاً، وقد فعل الاستبداد فعله فيه، أن شعبيته التي كانت في القمة أخذت تنحسر. كما لم ير في عليائه كيف تحول عنه بعض من رفعوه إلى القمة، ودقوا له الطبول، وانهالوا على معارضيه قدحاً وذماً وتشهيراً، وأخذوا يُعدون أنفسهم لمن سيأتي بعده.

ومن أشهر هؤلاء الأديب الفرنسي المعروف فرانسوا دى شاتوبريان، الذي دار حول نفسه دورة كاملة أكملها عشية سقوط نابليون النهائي. فقد وضع عام 1814 كتاباً في هجاء نابليون، وليس في نقد أدائه في الحكم وحسب، إلى التبشير بعودة أسرة آل بوربون التي أسقطتها ثورة 1789 تحت عنوان  “بونابرت، عن آل بوربون وضرورة انضمامنا إلى أمرائنا الشرعيين من أجل سعادة فرنسا وأوروبا”. ويختزل هذا العنوان موقف شاتوبريان، الذي انقلب على نابليون وأيد عودة أسرة آل بوربون، ورأى فيها السلطة الشرعية بعدما كان قد أشبعها هجوماً.

وقد نُشر الكتاب فيما بات واضحاً أن سلطة نابليون تتهاوى، وأن أسرة آل بوربون تستعد للعودة مجدداً. ولم يخجل المؤلف من أن يضع في هذا الكتاب روايات عن نابليون، كان هو نفسه قد فندها من قبل حين كان مؤيداً له. 

ومن سخرية التاريخ أن شاتوبريان مات عام 1848 الذي شهد موجة ثورية كبرى،  أطاحت بأسرة آل بوربون مرة أخرى وأخيرةً في فرنسا، بعدما تأكد أنها لا تملك إلا تأجيج الصراع ونشر البؤس والتعاسة في أرجاء البلاد.

وبونابرت الثالث أيضاً

ولا يختلف درس نابليون الثالث، الذي انتُخب رئيساً عقب ثورة 1848 التي أعادت النظام الجمهوري، وأسَّست الجمهورية الثانية في فرنسا.

أعاد الفرنسيون إنتاج وهم الحاكم المُنقذ مرة أخرى، لأن الوعي العام لم يكن قد تطور على نحو يتيح إدراك هول ما ترتب على هذا الوهم، واستيعاب درس نابليون الأول، وهو ما استوعبه الجيل التالي وما بعده، صولاً إلى ما بلغوه الآن على صعيد الحريات العامة والخاصة.

مضى نابليون الثالث على خطى عمه. فقد انقلب على الجمهورية الديموقراطية، وأعلن نفسه إمبراطوراً، وعصف بمن رفضوا دكتاتوريته، بعدما كانوا بين مؤيديه، وظن أن تحقيق بعض الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية يُتيح له أن يفعل ما يشاء في البلاد والعباد، وأن تحويل باريس إلى أفضل عواصم أوروبا يُغني عن أصوات الحرية في شوارعها وميادينها.

ولذا لقي مصيراً مشابهاً لعمه. تشابهت البدايات. فكان طبيعياً أن تتشابه النهايات. فقد هُزم في حربه على بروسيا في تموز/ يوليو 1870، وأُسر في معركة سيدان، وسُجن في ألمانيا قبل نفيه إلى إنكلترا حيث مات منسياً مثل عمه.

درس من التاريخ تشتد الحاجة إلى استيعابه… ولكن هل يستطيع الطُغاة أن يستوعبوه؟

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.