fbpx

هل أفسد جكرخوين الشعر الكردي؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما الذي يجعل من شعر بسيط، له مدلولات قليلة وضعيفة أن يتصدر المشهد الثقافي دون ان يتجرّأ أحد على نقد أو نقض هذه التجربة. اذا كانت شهرة جكرخوين ومكانته منطقية في عصره، فلماذا لا يزال يحظى بالشهرة ذاتها حتى اليوم؟ 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يطلب مجموعة رجال مجتمعين في غرفة مختار قرية في الشمال السوري من شيخموس حسن(جكرخوين) توزيع الفاكهة عليهم بشكل عادل كونه الأكثر حكمة بين الحضور. يخيّرهم حسين بين توزيعها إما بحسب منطق الآلهة أو بحسب منطقه هو.  يختار الجميع بثقة عدالة السماء، فيوزع حسين عشوائيا قطع الفاكهة ليأخذ بعض الحاضرين ما يفيض على حاجتهم، بينما لا تحصل الغالبية على أي شيء. يستغرب الحضور من حكيم الجلسة فعلته الغريبة، ليشرح لهم: هذه هي عدالة السماء التي طلبتموها، لا مساواة فيها، أما لو وزعتها أنا لحصل الجميع على الفاكهة. تلك واحدة من المحكيات العديدة المزعومة والمتداولة عن جكرخوين (١٩٠٣- ١٩٨٤) الشخصية الشعبية والشاعر الكردي الذي صادفت ذكرى وفاته الثانية والعشرين في شهر تشرين الأول/اكتوبر الماضي.

قد يبدو العنوان صادماً ومستفزاً لمحبي جكرخوين وأشعاره. لكن الحقيقة، الذاتية وغير الموضوعية بالطبع، أن لجكرخوين يدٌ في فساد الشعر الكردي الحديث، وإن كان تحميله وحده سبب فسادها يشكّل إجحافا بحقه. وقد أصبح الحديث عن جكرحخوين مسألة حساسة لأن غالبية الكرد -سواء الشعبوية أو النخبوية- ترى مكانة خاصة لجكرخوين بسبب “ما قدّمه للقضية الكردية”.  

يُصنّف جكرخوين ضمن مدرسة الشعر الكردي المعاصر الذي بدأ مع بداية الحرب العالمية الأولى، ويذهب البعض لتسميتها بالمدرسة التنويرية، فهي المدرسة التي اخذت على عاتقها التنظير القومي Nationalism. وكلّ ما سبق هذه الحقبة يبقى ضمن تصنيف القصيدة الكلاسيكية التي تعود جذورها للقرن العاشر الميلادي مع الأخذ في عين الاعتبار التحولات التي خضعت لها القصيدة الكردية طوال تلك العقود. فنوعان من الشعر الكردي استحوذا على القصيدة الكردية الكلاسيكية، القصيدة الملحمية Dengbêj وهي النوع الأشهر ربما، والقصائد صوفية الطابع التي مزجت لغات العربية والفارسية وشيء من التركية مع اللغة الكردية، ولعل أشهر شعراء هذا النوع ملايه جزيري وأحمدي خاني والكثير غيرهم. أما بالنسبة للشعر المعاصر، يبقى جكرخوين، مع أسماء أخرى، الاسم الأوسع انتشاراً والأكثر تأثيرا خلال قرن من الزمن قولب خلالها الشعر ضمن قصيدة مقفاة محدودة التأويل، مواضيعها ومفرداتها محدودة وقليلة، بالإضافة إلى ضعف صُورها الجمالية والفنية. 

كتب جكرخوين قصيدة “من أنا – Kime Ez” والتي غناها المغني شفان برور بتصرف فصارت “من نحن”، لتكون علامة للأحزاب التقليدية لافتتاح مناسباتها بها بعد النشيد الوطني، أو لاستهلال تظاهرة ما، لتمسي نشيداً أكثر منها قصيدة أو أغنية، تلعب دور التجييش من أجل حمل لواء القومية والتغني بها. لغويا، لا تختلف معظم قصائد جكرخوين عن قصائد نظيره سليمان العيسى بسطحيتها وعن لغة الجواهري بعنفها، حيث للكلمة معناها الوحيد الذي نسمعه، والجملة لا عمل لها سوى إكمال ما بعدها. 

من أنا؟

كرديٌ كوردستاني

كلي ثورات وبراكين

أنا كلي ديناميت

أنا نار وجمر

أنا أحمر كالإيتون

وصلت النار إلى المقذوف*

عندما سأنفجر

العالم سيهتز

الجمر والنار

سيقتلان العدو
من أنا؟

أنا الكردي رأسي حديدي (عنيد)

حتى اليوم العدو يخاف مني

رائحة الرصاص

دخلت أنفي

أريد وسيلة 

أنفجر منها

مرة أخرى مثل الرجال 

ادخل الجبل

لا أريد أن أموت

أريد أن أحصل عليها

كردستان نفسها

أرض الميديين

من أنا؟

تلك قصيدةٌ مثالٌ على قصائد عديدة على هذه الشاكلة من توقيع جكرخوين. القافية في أشعاره تتكرر مرات عدة، ويستمر التعبير عن الفكرة ذاتها طوال القصيدة التي ستطول من دون تقديم فكرة أخرى. 

ما الذي يجعل من شعر بسيط، له مدلولات قليلة وضعيفة أن يتصدر المشهد الثقافي دون ان يتجرّأ أحد على نقد أو نقض هذه التجربة. اذا كانت شهرة جكرخوين ومكانته منطقية في عصره، فلماذا لا يزال يحظى بالشهرة ذاتها حتى اليوم؟ 

كن جندياً كردياً واذهب إلى الجبال
اقطع الطريق أمام عدوك
نتقدم للأمام(نتطور) بالقنبلة والبندقية 

كان جكرخوين رجل دين أو فقيهاً (مُلا)، مارس السياسة وأُعتبر صاحب فكر “متجدد” وربما يمكن اعتباره ناشطاً اجتماعياً. من هناك دخل الحقل السياسي وأصبح في مقدمة تشكّل أولى الأحزاب الكردية السورية بالإضافة إلى ما هو معروف عنه، كشخص متكلم، سليط اللسان، يتمتع بحس دعابة وتهكّم عالي. القصص والحكايات التي تتحدث عنه تشرح لنا جانب الدعابة والتمرد في شخصية جكرخوين. وقف ضد الاقطاع وسلطة الآغاوات، قام بشحن الفلاحين وطالب بالعدالة، كما اعتبر نفسه منتميا للتيار الديموقراطي. 

لم يكن مُلا تقليدياً ملتزماً بالتعاليم الدينية. تقول إحدى المحكيات إنه، بعد صدامه مع أهل قرية، صار إماما فيها، وقبل تركه للقرية نهائيا اعترف بأنه كان يؤمهم للصلاة من دون وضوء لعام كامل. كما عُرف جكرخوين بسرعة بديهته. فحين سأله رجل يشاركه المجلس “ما الفرق بينك (أي جكرخوين) وبين الحمار؟”  أجاب جكرخوين: “هذه المخدة” الفاصلة بينه وبين الرجل.  

 ركزّ جكرخوين في نشاطه ونتاجه على القضية الكردية. طالب بدولة مستقلة للكرد، انضم للحزب الشيوعي السوري للمطالبة بالحقوق القومية للكرد السوريين، فاصطدم مع الشيوعيين بعد مطالبتهم له بالتخلي عن الفكر القومي. أسس نوادٍ ومجلات وساهم في نشر الثقافة والشعر، مركّزاً على جانب واحد هو التغني بكردستان واللغة الكردية. 

إقرأوا أيضاً:

جكرخوين شخصية مؤثرة دون شك، لها تأثيراتها على جوانب مختلفة، كتب الشعر ومارس السياسة وأسدى النصائح الدينية وأصلح بين المختلفين. في الجوانب كلها كان جكرخوين يدور في فلك القومية الكردية وقد دعا للتمسك فيها كثيراً. لعل أشهر ما قاله “إن لم تصبحوا جسداً واحداً، ستموتون واحدا واحد” (قاصدا الوحدة السياسة) وهو شعار يستخدم كثيراً في المناسبات الكردية. في الشعر أيضا كتب للقومية ومجّد لها، ودافع عنها. ووجد العديد من الفنانين الكُرد قصائده مناسبة للغناء، فهي غنائية في بنيتها. يعتقد البعض أن نتاج جكرخوين الثقافي وتوجهه السياسي منطقيان نظراً إلى خلفيته العلمية ضمن سياق نشوء الدول القومية وانهيار الإمبراطوريات الذي عاصره جكرخوين، أي في الزمن الذي عانى فيه الكرد من بطش الدولة العثمانية قُبيل انهيارها، وكان جكرخوين من ضحاياها. 

تحولت مكانة جكرخوين الشعبية من شاعر إلى قائد ورمز لا يُسمح المساس بها. 

افتقاد المكتبة الكردية لمراجعات نقدية للشعر الكردي ولشعر جكرخوين بوصفه من أبرز الأسماء الكردية في القرن الأخير، تحول دون القدرة على تقديم نقد شامل ومنصف لتجربة جكرخوين الشعرية. يطرح في هذا السياق الناقد خالد حسين رأياً ودعوة إلى دراسة شعرية جكرخوين: “لا الدراسات التقليدية ولا التاريخية قدّمت لنا هذه الشعرية بوصفها الشكل الذي من خلاله ينبثق القول الشعري؛ فالشعرية يمكنها أن تجيب عن كيفية القول الشعري وانبثاقه وليس موضوعة هذا القول فحسب! ما هي هذه الشعرية التي تركها الشاعر الكبير وما حدودها وإمكاناتها وآفاقها؟ هل تمكّن جكرخوين من بناء القصيدة الخالدة أم أن القصيدة لديه لم تتجاوز الغنائية وظلت سجين الرؤية الشعبية المحضة؛ أي القصيدة التي لا تصدم في مواجهة التأويل أو لا تقاومه!..هذه التساؤلات تفترض قراءات بنيوية وسيميائية قبل الانتقال إلى السؤال التقويضي. وهي تساؤلات تتحرّك نحو مرمى الضليعين في اللغة الكردية وآدابها ونقدها واستراتيجيات القراءة النقدية…” 

ليس شاعرنا الوحيد الذي رسخ شعره للتجييش من أجل اللغة الكردية والقضية السياسية، فبات نمطاً طاغياً على الشعر الكردي في العقود الماضية على حساب شعر وجداني ذو طابع فلسفي أو سيكولوجي. حذا عديد من الشعراء حذو جكرخوين، ليصبح هذا النمط توجهاً شعريا بذاته. وبسبب الشهرة الكبيرة التي اكتسبها هؤلاء الشعراء وكمية القصائد التي تحولت الى أغانِ، أصبحوا أقطاب الشعر الكردي والمدرسة شبه الوحيدة بدلا من أن تكون مدرستهم واحدة من المدارس. حين بحث جيل جكرخوين عن هوية لغوية سلسة وعصرية للشعر الكردي، وقفوا حائلاً أمام تطورها، بعد ان ربطوها بالخطاب القومي والسياسي. وبات الشعر سلاحا للشاعر ليثبت ولاءه القومي بدل إيصال فلسفة شعرية.

بالنظر إلى أسباب قدسية جكرخوين نجد أن الأدب ليس في مقدمة هذه الأسباب. فالأساس لهذه القدسية هي جوانب سياسية واجتماعية وليست أدبية بالضرورة. بالتالي، دراسة جكرخوين كشخصية كردية تاريخية، مؤثرة ومميزة، تستدعي ان تسبقها مراجعات أدبية لنتاجه، كخطوة أولى نحو الابتعاد عن قدسيته. جكرخوين كان شاعراً بسيطاً، تعلّم على يد فقهاء وأئمة، وتحول هو نفسه لإمام. وفي وقت احتاج فيه الفلاحون والفقراء إلى شخصية تتكلم بلسانهم وتعرف أحوالهم وتديرها، وتنقل لهم أفكار العالم بطريقة مبسطة كان هو موجوداً ليأخذ هذا الدور. 

الحركة القومية، الخطاب القومي والفكر القومي المسيطر على الساسة والادباء الكرد دفعتهم لوضع جكرخوين في مرتبة خاصة، وصنعوا لشعره هالة كبيرة، كما صنعوا منها مظلة ليكتبوا شعرا على خطاه. تناسوا جكرخوين كشخصية شعبية وساخرة، وقولبوا الشعر الكردي، و أفسدوه ليصبح على مقاس شعر جكرخوين: خطابيا، مباشراً، فيه النُصح و الموعظة على حساب الصورة الشعرية.  

ونتاجه الشعري يحتاج إلى قراءة ومراجعة تضعه في مكانته الحقيقية من جهة، ومن جهة أخرى تساعد على فهم الجانب الآخر من جكرخوين كشخصية كردية شعبية مؤثرة.

المقذوف*: القسم الذي يحوي البارود في الرصاصة

إقرأوا أيضاً:

No posts

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.