fbpx

بيتهوفن- أم كلثوم- صباح فخري…
أي مِن وجوهِ الفنان يبقى بعد رحيله؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في ظل سلطة شمولية قمعية يعيش صاحب الإبداع الفني صراعاً مريراً في سعيه إلى التعبير والتأثير. صراع يدور حول خيارات صعبة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في اللحظات التي تلي رحيل فنان موسيقي (مؤلف أو مؤدٍ) مغادراً مسرح الحياة، تنطلق من بعض الذين ما زالوا على خشبتها، كتابات عنه، تأتي على شكل جردة حساب سريعة حول ما خلّفه من آثار إبداعية أو مواقف في الفن والسياسة. وغالباً ما تطاول هذه الجردة السريعة فنانين كرّسهم جمهورهم “نجوماً”، إلى جانب تميّزهم الذي ربما طبع أسلوباً أو نهجاً فنياً محدداً.

لا تنحصر وجوه الفنانين ذائعي الصيت والشهرة في وجهين فقط؛ وجه فنيّ عام وآخر اجتماعي خاص. بل تتمدد إلى وجوه أخرى في السياسة والشأن الاجتماعي العام، ما يُعطي جردة الحساب تلك بُعداً ديناميكياً حاداً ومشبعاً بمبالغات وصفية وأحكام نقدية تُساقُ على عَجَل.

في حين ينقسم كُتّاب هذه الجردة بين فريقين: الأول ينطلق من الوجه الإبداعي للفنان مبالغاً في وصف محاسنه وتعداد انجازاته، متجاهلاً في الوقت عينه الوجوه الأخرى المحتملة كمواقفه في السياسة وآرائه في الشأن العام التي لا بد أنها أثّرت بشكل حاسم في مسيرته الفنية. في حين يتقصد الفريق الثاني إبراز الوجه السياسي ليُعطيه أهمية أكبر من الأثر الإبداعي، عبر استعراض مثير لمواقف الفنان السياسية في علاقته مع السلطة، في حال ساد هذه العلاقة وُدّ وتماهٍ أم نفور وصراع.

فالعلاقة الموضوعية التي تنشأ بين الفنان “المشهور” وبين السلطة السياسية المُسيطرة على أجهزة الدولة، لطالما أثارت في الماضي والحاضر إشكاليات كثيرة ومتفاوتة في حدّتها. ومن الجائز ألا تسلك هذه العلاقة مسارات دراماتيكية في مجتمعات ديموقراطية يسودها حكم القانون وتداول السلطة، وتنمو الثقافة ويزدهر الفن كسلطة نقدية ومتحررة من رهاب السياسة. في حين تشتد تناقضات هذه العلاقة وتزداد حِدّة تداعياتها كلما كانت السلطة ذات طبيعة شمولية مُؤدلجة لا تحتمل النقد والانتقاد، فتسعى أجهزتها المتنوعة جاهدة الى تطويع الثقافة والفن لإعادة إنتاج ثقافة السلطة نفسها، واستخدام الفنانين مطية لتحسين صورتها وإزالة الشوائب عنها.

ففي ظل سلطة شمولية قمعية يعيش صاحب الإبداع الفني صراعاً مريراً في سعيه إلى التعبير والتأثير. صراع يدور حول خيارات صعبة. أن يكون فقط فناناً تقنياً موهوباً مطواعاً للسلطة ومادحاً إياها ليحصل على جزء قليل من سلطتها وهيبتها والكثير من الشهرة والانتشار لفنِّه، أو أن يكون مُنتقداً لأداء تلك السلطة رافضاً تطويعه وتسخير فنه في تبييض صورتها، فيحصل بذلك على التهميش والانكار لموهبته، أو أن يعتمد كِلا الخيارين معاً مُجازفاً بعدم الحصول على أي شيء سوى الخيبة والإحباط.

المُعْضلة الأساس لهذا الصراع تكمن في إشكاليته الأخلاقية. إذْ تُطرح على بساط البحث أسئلة صعبة تتعلق بمشروعية هذه العلاقة وصحتها. أسئلة في كيفية ان يستوي الفن كقيمة جمالية من دون شروطه الكامنة في جوهره، ألا وهي إنسانيته ونزوعه نحو الحرية والخير العام؟ 

كيف نقيّم عملاً فنياً يُعْلي قيم العدالة والحقيقة والجمال كأبطال إيجابيين فيما يُمجّد صاحب هذا العمل السلطة السياسية التي تقمع شعبها وتسرقه وتنفذ بحقه أبشع الجرائم؟ 

فهل تنفصل القيمة الفنية لعمل إبداعي عن موقف الفنان من السلطة السياسية؟ وهل يكتسب أي عمل فني قيمة ابداعية بمجرد امتلاك صاحبه موقفاً مناهضاً وناقداً لأداء السلطة؟ ام يفقد العمل الفني أي قيمة في الحالتين؟

تاريخ الفن الموسيقي يزخر بالشواهد على هذا الصراع بحالاته القصوى. المؤلف الموسيقي الألماني لودفيغ فان بيتهوفن مثلاً عندما شطب من الصفحة الأولى لسيمفونيته الثالثة الإهداء إلى نابليون بونابرت، كان يسجل بذلك موقفاً سياسياً اعتراضياً وقاسياً على تنصيب نابوليون نفسه امبراطوراً، ضارباً هذا الأخير بعرض الحائط مبادئ الثورة الفرنسية التحررية. لقد أعطى بيتهوفن مثالاً يُحتذى به في علاقة الفنان بالسياسة والشأن العام، وألهم الكثير من عامة الناس والمُثقفين على السواء. ولكن السؤال الافتراضي الذي قد يُطرح في هذه الحالة: ماذا لوْ كان بيتهوفن فناناً وصولياً يتوسل مديح السلطة من أجل المال والشهرة، فهل كانت مؤلفاته الرائعة لتكون أقل قيمة إبداعية؟      

المؤلف الروسي- السوفياتي الفذ ديمتري شوستاكوفيتش شكّل علامة فارقة في الحياة الموسيقية العالمية، بمواجهته وحيداً الديكتاتورية الدموية للنظام الستاليني، واستطاع النجاة منها. وقد بدا لكثيرين في ذاك الزمن أن شوستاكوڤيتش فنان انتهازي، إذ كان دائماً ينجو من لوائح التصفية الجسدية، عبر تلاوة رسائل نقد ذاتي من على منبر المؤتمر السنوي لاتحاد المؤلفين السوفيات معلناً فيها عن فضائل النظام الشيوعي. والحقيقة أن موهبة شوستاكوفيتش الأكيدة كرّسته مؤلفاً موسيقياً حداثياً في العالم الغربي، هي التي حمتْه من بطش ستالين الذي عمد إلى إذلاله وتهميشه عبْر منع عزف مؤلفاته الموسيقية. وقد استمر هذا المنع حتى بعد موت ستالين لسنوات بتحريض من فنّاني النظام النافذين الذين اتهموا شوستاكوڤيتش بالخروج عن نظرية الواقعية الاشتراكية في الفن ووصموا موسيقاه بـ”البرجوازية”. ولكن وبعد موت شوستاكوفيتش ظهرت مذكّراته الى العلن والتي فيها باح بتفاصيل هذا الصراع مع السلطة السوفياتية الشمولية، وكشف لجمهور المستمعين والنقاد عن كل الرموز والتيمات الموسيقية في سيمفونياته التي هجا فيها ستالين ونظامه الشمولي الدموي.

الفيلم الوثائقي- الدرامي “الحروب السيمفونية/ شوستاكوفيتش ضد ستالين” للمخرج لاري وينستين، يجسد لإشكالية هذه العلاقة، إذْ يعرض لتفاصيلها المثيرة، ولكل ما نتج عنها من أسئلة مُرّة ومواقف درامية في حياة الفنان في صراعه مع السلطة السوفياتية. السؤال الافتراضي الذي يخطر في البال هنا هو التالي: ماذا لوْ لم ينجُ شوستاكوفيتش من فرق الموت الستالينية؟  

مثال آخر مع المؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر، ذي النزعة القومية والرومنطيقية، والذي عاش في القرن التاسع عشر وكانت له مواقف سياسية معادية للسامية وساخرة من الشعب اليهودي. استغلّت السلطة الفاشية لهتلر مواقفه، وهو الفنان المحبوب من شعبه، لترتكب بحق يهود أوروبا واحدة من  أبشع المجازر في التاريخ الحديث. الفاشية الأوروبية هُزمت ومات هتلر، لكن ظلّت المؤلفات الاوبرالية لفاغنر تصدح باعتبارها أعمالاً إبداعية مكّرسة، وظل فاغنر فناناً مُبدعاً بصرف النظر عن مواقفه العنصرية والمتطرّفة. أما السؤال الأخلاقي الذي يطرح نفسه في هذه الحالة هو؛ هل يتحمل فاغنر بآرائه المتطرفة حول اليهود وزراً معنوياً لجرائم الحرب التي ارتكبها هذا الأخير؟ وسؤال افتراضي آخر مُلْحق؛ ماذا لوْ قُيِّض لفاغنر ان يتنبأ بحصول المحرقة اليهودية فهل كان ليبوح بآرائه السياسية الى العلن أم كان ليغيّر رأيه كلياً في الموضوع؟

في دول العالم العربي، مشرقاً ومغرباً، حيث النشأة القومية والعسكرية، وكما في بعض البلدان المحيطة بها والتي تحكمها انظمة شمولية من طبيعة دينية كإيران وأفغانستان، تبدو العلاقة بين الفنانين المُبدعين وسلطاتهم غير مستقرة وتعاني من الاستقطابات والصراعات الحادة.

تخاف سلطات هذه البلدان من الفن لمجرد أنه تعبير فردي وحتى لو كان غير متصل بجمهور أو حركة سياسية. تراقب الجميع وتتبع سياسة “الأخ الكبير” ترغيباً وترهيباً، مشجّعة إياهم على ممارسة الفن للفن وترك السياسة ومواقفها لأصحابها.

المؤلف الموسيقي بالمفهوم الأوروبي حديث النشأة في البلدان العربية. المُلحِّن هو نظيره، وقد يأخد أيضاً دور المؤدي/ة. أما النمط التأليفي الأكثر شيوعاً عند العرب فهو نمط الأغنية الذي يتصدره المُغنّي/ة. لذا فالسلطة السياسية وأجهزتها في البلدان العربية قد أولت اهتماما كبيراً في تطويع المُغنين والمُغنّيات ومارست عليهم سياسة الترغيب والترهيب لينصاعوا منخرطين في إنتاج ثقافة وفن يخدم مصالحها وأهدافها.

إقرأوا أيضاً:

هل تعرف أم كلثوم؟

نموذج المُغنية المصرية أم كلثوم صارخ في انقلاب علاقتها بالسلطة. بدءاً بتقرُّبها من الحكم الملكي في مصر، مروراً بحماستها وتأييدها سلطة عبد الناصر الذي أجرى تصفيات جسدية لكل معارضيه في الحكم، ومروراً بعلاقتها الوطيدة والمستقرة بأجهزة الحكم الساداتية.

في أحد مواضع كتابه “الهوى من دون أهله” يكتب حازم صاغية في سيرة حياة ام كلثوم ونصّها، واضعاً السيرة على مشرحة التحليل النفسي/ الاجتماعي، مفككاً سيميائية النص الكلثومي ومستعرضاً العلاقة النفعية المتبادلة بينها وبين السلطة:

“لقد شكّلت الناصرية نكسة للمدينة الكوزموبوليتية التي رهصت بها قاهرة العشرينات والثلاثينات- تلك القاهرة التي ارادت ام كلثوم ان تنتقم منها وتتغلب عليها وعلى قِيَمِها. وبهذا، ومن خلال تكييفه للخريطتين الاجتماعية والثقافية، كان النظام التوتاليتاري يُعيد إنتاج الازدهار الكلثومي في صورة موسّعة” (ص 19).        

ومن دون التطرق لتفاصيل هذه العلاقة، وهي كثيرة ومثيرة،  يُطرح السؤال التالي بإلحاح : هل كانت أم كلثوم المُغنية الأشهر وصاحبة الصوت الأقدر في العالم العربي بحاجة لتتماهى بمواقفها مع السلطات المتعاقبة التي حكمت مصر، لتصير على ما صارت عليه؟ هل كانت تدري انها اُستغِلَّت كفنانة من قِبل السلطة السياسية وانها هي بدورها استَغَلّت علاقتها بالسلطة لتحصل على الشهرة والنفوذ؟

هل مارست هذه اللعبة الوصولية عن قناعة وتصميم؟ وهل عبّرت عن ندم أو نقد ذاتي في مراحل حياتها الأخيرة؟ وماذا يبقى من إبداعها الفني بعد قرون طويلة من رحيلها؟

هي أسئلة محورية مرسلة الى عناوين الفنانين الراحلين من صنف المُغنيّة ام كلثوم، ولن يكون آخرهم المغني السوري/ الحلبي صباح فخري المتضامن دوماً وابداً مع نظام مجرم دمر مدينته حلب وقتل أطفالها. أسئلة لن تلقى إجابات هؤلاء كونهم رحلوا وانتهى الأمر. أسئلة برسم الأجيال المقبلة وتحتاج إلى أجوبة من دون الجزم والقطع فيها. أسئلة للبحث والتمحيص من قِبل كُتّاب السِير الفنية والمقالات “النقدية” السريعة في الفن والفنّانين. وأخيراً هي أسئلة تصلح ليتأمل فيها الفنانون أصحاب الابداع الحقيقي، والمُرشّحون قريباً لرحيل نهائي عن مسرح الحياة.

في جواب عن سؤال- العنوان “أي من وجوه الفنان يبقى بعد رحيله…؟”، أختم مقالي المُتْخم بالاسئلة:  على الأرجح يبقى الجميل منها والأكثر صدقاً. ولكن المؤكد برأيي، أنّ تدفق جمال هذه الوجوه في ذاكرة البشر ووجدانهم على مدى السنوات والقرون وتأثيره في المستقبل مرهون بمدى الانسجام والتوافق بين الوجه الإبداعي للفنان ووجوهه الأخرى، وعلى وجه الخصوص الوجه السياسي والأخلاقي منها. تماماً كما حدث مع لودفيغ فان بيتهوفن.              

إقرأوا أيضاً: