fbpx

بعد ساعات من الاستماع إلى مهرجانات “شطة” و”شواحة” و”كزبرة” و”حنجرة” و”شاكوش”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أي معركة خاسرة يخوضها رفيق الجراح التي لا تندمل؟ هل حقاً يظن أنه سينتصر على العصر؟ على “يوتيوب”؟ فليتركهم لشأنهم، ويتخفف قليلاً “هذا الدراما كوين” منذ نعومة أظفاره. دعهم يغنون يا هاني.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ورطني أمير الحزن العربي هاني شاكر. خرج بلائحة من 19 ممنوعاً عن الغناء. البيان رسمي وممهور بختم نقابة المهن الموسيقية وتوقيع رئيس لجنة العمل الأستاذ منصور هندي. شديد الجدية، ومع ذلك، فهو يتحول مع سطره الأول إلى مزحة محبوكة بذكاء وخفة، حتى يتحول البيان، في آخره مهزلة… كزبرة وحنجرة… فيلو… أحمد موزه… حمو طيخة… شواحه… علاء فيفتي… مجدي شطة… وزة مطرية… شكل… عمرو حاحا… ريشا كوستا وسمارة. تحار ما إذا كانت هذه أسماء المغنين، أو الأغنيات. أو أنواع التوابل التي تضاف إلى صينية اللحم والخضار قبل وضعها في الفرن.

اكتشفت أنني جاهل تماماً بعالم هائل أغضب أسير التنهدات وأخرجه عن طوره. هكذا، ونكاية بمطرب مراهقتي الذي كان من المساهمين في تهشيم فرحي، طبعت اللائحة ورحت أختار الأسماء عشوائياً، وأبحث عنها على “يوتيوب”.

التالي ليس تحليلاً لظاهرة المهرجانات، (يسمون الأغنية مهرجاناً)، كما أنه ليس بوارد إطلاق أحكام على عمرو حاحا أو أحمد موزه أو طيخة. لنقل إن النص هو خلاصة انطباعاتي بعدما استمعت، وشاهدت، بعضاً من الواردة أسماؤهم، وبعضاً آخر ممن دلني “يوتيوب” عليهم، في حفرة الأرنب التي سقطت فيها، ولا أدري كيف سأخرج منها بعد الآن. أبدأ بمجدي شطة. 

فيديو عنوانه: مهرجان أنا سيرتي بتجنن دولة (إلّي خارب التيك توك)… علي ويكا، الذي عمل على الديزاين والمونتاج، صنع مؤثرات بصرية لا تليق بأقل من الموسيقى والغناء المرافقين. (التوزيع عند إسلام كريزي لكن هذا ليس موضوعنا). احتفال الألوان الذي يرتديه شطة من المستحيل أن يخبئ الحزن المقيم في وجهه. كل ما في شطة حزين. صوته المزعج الذي لا يطاق، إفراطه في الصراخ وإصراره على النغم الرتيب نفسه لدقائق. والكلمات: أنا حاطط شادد أجزائي… مش شايف أنا أي عتاولة. لو شاري هديلك عيني… لو بايع هعتبرك صيني.

على الإيقاع الموحد لكل مهرجاناته يتطرق شطة إلى الموضوع الذي سأعرف لاحقاً أنه أكثر مواضيع هذا النوع الفني شعبية، أي “غدر الصحاب”. يطرح شطة السؤال الذي لم يجد أحد بعد إجابة عليه، “ليه يا دنيا؟”، ثم يندم على ماضٍ كان يثق فيه بمن خانوه، يخلص إلى أننا نعيش وسط غابة، ثم فجأة ينتقل إلى مرحلة استعراض مبهم للقوة، تبدو غير مقنعة قياساً على النحول الشديد الذي يعانيه شطة. مع ذلك، فإن شطة سيكسر الصورة النمطية عمن هم في حجمه، ويؤكد أن ضربة واحدة منه “تنيم أي جتة”، ويضيف، من بين ما يضيف: “الضربة القاضية ياض مني تسقط ستة” (أشخاص على الأرجح).

لا يمكننا التقاط مشاعر شطة وهو يغني. فتعابير وجهه هي نفسها، وصوته هو نفسه، لا فرق بين ما إذا كان يتفاخر بقدراته البدنية، أو يعترف، مباشرة بعدها، بآلامه بينما العقارب تلدغه والدنيا “الملانة وحوش” تكسره. لا يمكن اللحاق أصلاً بخيط أفكار شطة والكاتب محمد الفناان (يرد اسمه بحرفي ألف). هناك لا شك، مشكلة اجتماعية ما يحاول مجدي شطة معالجتها، لكن المؤثرات الآتية من زمن أعراس الثمانينات تشل قدرة المشاهد على الرؤية والتحليل، ناهيك بأن الكاتب يقفز بين قصة الحب وضرب السكاكين وفلسفة الوجود من دون أي اهتمام بتسلسل الأفكار، وشطة يؤدي كل المكتوب له بأمانة تلميذ في المرحلة الابتدائية، يتلو قصيدة حفظها ولا يعرف معنى كلمة واحدة فيها.  

أنتقل إلى شواحة، ومهرجان “مع إني أحول ما بشوفشي” (كلمات حودة العربي، غرافيك ديزاين معتز الزوز، توزيع فارس زيزو). شواحة يكبر، بفارق لا بأس به، زملاءه حودة والزوز وزيزو. ويبدو عالقاً في مراهقة متأخرة، تضيف إلى شخصيته الكثير من المرح وهو يرتدي سروال جينز ممزقاً وقميصاً مزدهراً بألوان الربيع، ويفاخر بقدراته القتالية، ملوحاً بذراعيه أمام الكاميرا التي بدورها تلوح بنفسها أمام ذراعيه فنصير أمام ما يشبه الرقص حول النار بين متحاربين، ونحن عالقون بينهما. تدور بنا غرفة شواحة، ومعها شواحة، وتختلط ألوان القميص ببعضها، وتصير أمام أحد تلك الألعاب البصرية التي تطلب منك أن تركز في النقطة في منتصف الصورة لثلاثين ثانية ثم ترفع عينيك إلى السقف لترى عادل أدهم، أو رأس حصان. التحدي مع شواحة هو في أن تصمد حتى نهاية الفيديو من دون أن تصاب بغثيان وحين تقف فجأة لا تميل غرفتك بك فتكتشف أنك تهوي وأن رأسك ارتطم لتوه بطرف الطاولة الحاد، وأنك عاجز عن طلب النجدة، لأن ذهنك فقد قدرته على تشكيل الكلمات، وهو عالق عند ترداد عبارة شواحة مع موسيقاها: فاصل… طينة… أنا شارب أقوى عجينة… فاصل… طينة…

لساعات تنقلت بينهم، أصدقائي الجدد هؤلاء. وأعترف أنني فشلت. فشلت في تمييز الألحان والكلمات والأصوات. فشلت في متابعة مهرجان واحد حتى نهايته. فشلت في فهم سبب شعبية كل هذا التغني بغدر الأصاب وخيانتهم وفشلت في تخيل حجم الخيانة التي تقع بين مراهقين وينتج عنها كل هذه الأحكام النهائية حول العلاقات بين البشر، والعلاقة مع الدنيا. وفشلت أيضاً في الامتناع عن البحث في الأسماء التي بدا معها الممنوعون في اللائحة رصينين محافظين. زيزو آر سي سي. مايو الطايش. تيخا. تيتا ريشة (مهرجان أنا الجحيم المنتظر… اسأل عليّ.

رحلتي الطويلة قادتني إلى مهرجان بنت الجيران لصاحبه حسن شاكوش. لا أظنني سمعته كله دفعة واحدة من قبل، مع أن عبارة “سكر محلي محطوط على كريمة” تبدو شعاراً لمرحلة برمتها أكثر منها جملة كتبها الشاعر مصطفى حدوتة، من دون أن يتخيل، في أقصى أحلامه جموحاً، أن كلماته  الخمس هذه ستخلد إلى الأبد في اللغة والوجدان العربيين… 562 مليون مشاهدة. استمع إلى المهرجان لمرة أخيرة. يكون الخدر قد أصابني تماماً وما عدت قادراً على تمييز ما يقوله شاكوش أو صديقه. أفكر في هاني شاكر…

أي معركة خاسرة يخوضها رفيق الجراح التي لا تندمل؟ هل حقاً يظن أنه سينتصر على العصر؟ على “يوتيوب”؟ فليتركهم لشأنهم، ويتخفف قليلاً “هذا الدراما كوين” منذ نعومة أظفاره. 

دعهم يغنون يا هاني.

لا أفكر طويلاً بشريك الدموع. تدفعه خارج رأسي الضوضاء التي تضج فيه. أسمعهم الآن، وأراهم، إنهم أصدقائي الجدد. تتداخل صورة شواحة، مصوباً المسدس على الكاميرا، بزعيق مجدي شطة، بعويل آلة “الأورغ”… أغمض عيني، أفتحهما، أنفض رأسي. أحاول. عبثاً. لا أستطيع إيقاف هذا الصوت الذي يتردد في رأسي: وتجيني… تلاقيني لسه بخيري… مش حتبقي لغيري.

أنا عالق الآن… إلى الأبد.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!