fbpx

كيف تغوينا رواية “لوليتا”؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا تسألك الرواية عمّا إذا كنت من أنصار حقوق المرأة، أو من الصليبيّين، أو من المنادين برفع القيم الأخلاقية، أو مدافعاً عن الفتيات. توجّه لنا الرواية سؤلاً واحداً فقط: هل أنت قارئ؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

دعونا الآن نعيد قراءة النصوص القديمة، ونفحصها بعين باردة لنكشف كيف كانت الانتهاكات الجنسية المتعلقة بهشتاغ MeToo# في عالم الفن قديماً. حتى الأعمال الفنية المشهورة يجب أن تخضع للتحقيق بشأن هذه الانتهاكات.

كانت مولي رينغوالد تشاهد فيلمهاThe Breakfast Club ، بصحبة ابنتها الصغيرة، وأدركت أن أحد المشاهد يتضمن إشارة إلى تحرّش جسدي خارج الشاشة. وهكذا، بدأت تتصاعد من لبّ الذاكرة مشاهد من فيلم Citizen Kane من الثمانينات، وتلاشى تدريجياً الصدى الحزين لأغنيته “لا تنسني” (Don’t You Forget About Me)  ،وهي تتردّد في الأجواء.

ألا يوجد أي شيء آمن؟

ربما – وفقاً للاحتمالات – رواية “لوليتا” فقط هي التي تستطيع أن تنجو من الثورة الثقافية الجديدة. فلن يقرأ أي شخص هذه الرواية ويصدر تقريراً مفزعاً عن محتواها الحقيقي. ولن تبني أي أكاديمية نسوية سمعتها وهي تحاول الكشف عن طبيعتها الظالمة. فمحتوى الرواية الصريح شائن اليوم كما كان شائناً وقت نشره قبل ستين عاماً.

بعد شعوري بالملل في ظهيرة هادئة خلال عامي الأول من الدراسة الجامعية، بحثت بين بعض الكتب التي احتفظت بها في صندوق للحليب، والتقطت رواية لم أكن قد قرأتها من قبل، لوليتا. كنت قد قضيت الصيف الماضي في إيطاليا، حيث بدا أن كل صندوق موسيقى أو راديو سيارة تنبعث منه نغمات اللحن الراقص Vamos a la Playa ، أو الأغاني الفاتنة من ألبوم Police لفرقة Zenyatta Mondatta، بما فيها أغنية Don’t stand so close To Me ، التي دلّتني كلماتها الفاتنة على رواية لوليتا في المقطع  that book by Nabokov، ومع هذا التأييد ــ مثلما دلنا مغني الروك جيمس موريسون على الشاعر ويليام بليك ــ وعدم وجود شيء آخر للقيام به، فتحت الكتاب، وسرعان ما تلاشت الغرفة حولي وتلاشيت معها، تاركة خلفي نسخة ضبابية مني.

“لوليتا ستظل دائماً ساحرةً ومثيرةً للصدمة في الوقت نفسه، ستظل كحجر أوبال ناري يرقد وسط حوض ماء دائري مموّج الأطراف”.

في الصفحات الافتتاحية شعرت بالمتعة. آه يا نابوكوف! آه يا ستينغ! أنتكلّم باللغة ذاتها؟ أولسنا بالتحضّر ذاته؟ وجدتُ سحر الطفولة الأوروبية في شخص همبرت همبرت، “عالَم مشرق من الكتب المصورة، والرمل النظيف، وأشجار البرتقال، والكلاب الودودة، ومشاهد البحر”. والرسالة الكوميدية الخالية من العواطف من والدته المحبوبة عن الحادث الغريب “نزهة، برق” وشعور الصداقة الذي كان يشاركه مع فتاة صغيرة تدعى آنابيل خلال مرحلة الطفولة الرومانسية: “كانت ليونة صغار الحيوانات وهشاشتها، تسبّب لنا شعوراً قوياً بالألم”.

ولكن، بعد بضع صفحات فقط، أصبح شخصاً بالغاً- ما هذا بحق السماء؟- أصيب بلعنة العيش وسط “مجتمع يسمح لرجل بعمر الخامسة والعشرين بأن يرتبط بفتاة في السادسة عشرة من العمر ولكن ليس بفتاة في الثانية عشرة” كنت قد سمعت أشياء بشأن رواية لوليتا، ولكن 12 عاماً؟ في هذا الجزء، كان همبرت يمجّد “بعض المناطق في شرق الهند، حيث يمكن لرجل في الثمانين أن يتزوّج من فتاة في الثامنة، من دون اعتراض أحد”. وهنا بدأ عادته في البحث عن الفتيات الصغيرات في أي مكان يمكن إيجادهنّ فيه، من دور الأيتام والمدارس الإصلاحية أو الأماكن العامة: “آه، دعوني وشأني وسط حديقتي من الصغيرات، وسط بستان الطحالب، دعوهنّ يلعبن حولي إلى الأبد، وألا يتقدّمن في السن أبداً”.

عند هذه النقطة بالضبط، يتحتّم على القارئ العقلاني- القارئ الأخلاقي، الذي لا يترك خلفه صورة ضبابية، ولكن يُبقي بإحدى قدميه على أرض الواقع – أن يفترق عن همبرت همبرت. وهو قرار سليم. فرواية لوليتا تتمحور حول رجل يختطف ويغتصب طفلة تبلغ من العمر 12 سنة، ويحتجزها حتى تبلغ الرابعة عشرة. لا يمكن أحد لوم من امتنعوا عن قراءة الرواية.

لكن أمثالنا موجودون أيضاً. تتمحور الرواية حول الهوس، ويخلق تفرّدها الغريب الحالة العاطفية ذاتها في الأجيال المتعاقبة من القراء المدافعين عنها. علاوة على ذلك، فإن أكثرية من أحبّوا الرواية هم من النساء الشابّات، أولئك اللواتي قد نتصوّر أنهن سيكنّ من بين أكبر المنتقدين لها. اختارتها لينا دونهام كروايتها المفضّلة. وأفصحت المغنيتان لانا ديل ري وكاتي بيري عن شغفهما بشخصية لوليتا، التي يتصوّرونها كخبيرة جنسية وغاية في البراءة في الوقت ذاته.

تظهر الحسابات الشخصية التي لا حصر لها على مواقع “تمبلر” و”انستغرام” للفتيات المراهقات والشابات انبهارهنّ بهذا المزيج. حيث يصوّرن أنفسهنّ كأجساد تخدم شهوة الرجل الأكبر سناً. ولا تهمّهم حقيقة أنهم متقدمين في السن للغاية لشخص مثل همبرت همبرت، والذي يفقد اهتمامه بأي فتاة تصل إلى الخامسة عشرة من عمرها ويشعر بالنفور منها حالما تبلغ سن الجامعة و”تدفنها الأنوثة حية”.

ما الذي يتوجّب عمله معنا، نحن النساء والفتيات اللواتي يعشقن لوليتا؟ ألا يوجد شيء يردّنا إلى حواسنا ويكسر التعويذة؟ تم إصدار كتاب جديد لهذه الغاية: “لوليتا الحقيقية: خطفُ سالي هورنر والرواية التي فضحت العالم”. في هذا الكتاب، تكشف لنا سارة وينمان عن قصة سالي هورنر، تلميذة كانت قد اختُطفت عام 1948 في كامدن بنيوجيرسي، من قِبل متحرّش أطفال متسلسل.

لما يقارب العامين، سافرا إلى جميع أنحاء البلاد متخفّين كأب وابنته؛ وحتى لبعض الوقت كانت مسجّلة في المدرسة. كانت قصة إخبارية مثيرة حينها. وتعتقد واينمان بأن تفاصيل رحلة الطريق وتفصيل المدرسة كانت كالدعامات التي احتاجها نابوكوف لإنهاء روايته “لوليتا”.

“الإساءات التي تعرّضت لها سالي هورنر، وغيرها من الفتيات، ينبغي ألا تندرج تحت نثر مبهر، مهما كان فاتناً”. لكن هذه الدوافع المبرّرة لن تقودنا إلى أي مكان”

ولم تكن واينمان أوّل من أشار إلى تلك الصلة، (اعترض كل من فلاديمير وفيرا نابوكوف بشدة عندما سئلوا عن الصلة) لكنها هي من حسمت القضية: القصتان متشابهتان بشكل صارخ، وحتى نابوكوف نفسه يشير إلى قضية هورنر في الرواية.

لكن ادّعاء واينمان بأن معرفة نابوكوف بالواقعة “تزيد من الرعب الذي صوّره في الرواية” ليس صحيحاً تماماً. بالطبع ما حدث لسالي هورنر هو أمر مروّع، ولكن عند تعلّق الأمر بـ “الرعب”، فلا شيء يضاهي اللوحات التي يحلم همبرت همبرت برسمها على جدران غرفة الطعام في فندق “إنتشانتد هنترز”، وهو المكان الذي حدث فيه أول لقاء جنسي له مع لوليتا: “كان ليكون هناك حجر أوبال ناري يرقد وسط حوض ماء دائري مموّج الأطراف، اللمسة الأخيرة، آخر غمسة فرشاة، الأحمر المتوهج، الوردي الباهت، تنهيدة، وطفل جافل”.

ربما كان العكس هو الصحيح، لوليتا هي التي تزيد من رعب القراءة عن سالي هورنر. أنسى دائماً كم تكون الرواية مباشرة عندما تتحدث عن الجرائم الجوهرية بها. نظل نخبر أنفسنا في كل مرّة نغلق فيها الصفحات المزينة ببلاغة نابوكوف الرائعة: كل هذا القبح كان مخفياً. ولكن بعد مضي بعض السنوات، نلتقط الكتاب مرّة أخرى لنكتشف كم كنا محتالين.

هنا يعترف همبرت لنفسه، ولنا، عما فعله: “لقد كانت طفلة وحيدة، مشردة تماماً، بصحبة رجل ثقيل الأطراف، ذي رائحة كريهة، وقد مارس معها الجماع المضني ثلاث مرّات هذا الصباح”. وها هي تجلس بجانبه في السيارة، “تشكو من الآلام”، هكذا يخبرنا، تقول إنها “لا تقدر على الجلوس، تقول إني قد مزّقت شيئاً بداخلها”.

يمكنك أن تنتقد رواية لوليتا للأبد. يمكنك أن تصر، كما تفعل واينمان، أن “الإساءات التي تعرّضت لها سالي هورنر، وغيرها من الفتيات، ينبغي ألا تندرج تحت نثر مبهر، مهما كان فاتناً”. لكن هذه الدوافع المبررة لن تقودنا إلى أي مكان. لا تسألك الرواية عما إذا كنت: من أنصار حقوق المرأة، أو من الصليبيّين، أو من المنادين برفع القيم الأخلاقية، أو مدافعاً عن الفتيات. توجّه لنا الرواية سؤلاً واحداً فقط: هل أنت قارئ؟

كانت الصفحات الأولى للرواية- الرمل النظيف، وعلاقته مع آنابيل- كالسحر، كالتعويذة. وكلمات هذا الجزء هي ما يجذبنا إلى الرواية. الرواية، بما في ذلك من مفارقة، لا تعفينا من ذنب المشاركة في الخطيئة. تجعلنا الرواية من المشاركين في قصّتها، على أعمق مستوى، كما يقول لنا همبرت: “تخيّلني… لن أكون موجوداً إذا لم تتخيّلني”. نحن، مثلنا مثل همبرت الصغير، نمتّع أنفسنا بالملذات المقلقة أخلاقياً.

ولا يمكننا أن نقول إنه مجرّد عمل قصصي لا علاقة له بحياة أناس حقيقيين وأفعالهم. فمن بين الستين مليون قارئ للرواية، يوجد بالتأكيد أشخاص قد قرأوا الرواية، ليس وليسوا مستنكرين لوصف العلاقة الجنسية مع طفلة في الثانية عشرة من عمرها، وإنما قرأوها لذلك السبب تحديداً. ربما الشيء الأكثر رعباً في كتاب “لوليتا الحقيقية” هي الملحوظة التي حصل عليها نابوكوف من وكيله في أوروبا بشأن تعليق الناشر على الكتاب: “إنه يرى أن الكتاب لا يثير الإعجاب من الناحية الأدبية فحسب، بل ويعتقد أنه قد يؤدّي إلى تغيير في المواقف الاجتماعية تجاه نوع الحب الموصوف في رواية لوليتا، هذا بالطبع شريطة أن يكون على المستوى الذي يدّعيه من الأصالة والحرقة والحماسة الملتهبة”.

فقط في بعض الحالات النادرة – على سبيل المثال، إصرار هوليوود الشديد على تصوير المتحرّش بالأطفال رومان بولانسكي كضحية- حصل مثل هذا التغيير، وحتى في مثل هذه الحالات، بدأ بعض المنطق، أخيراً، يظهر. هذا جيد لجميع الفتيات حول العالم، وهو شيء جيد للرواية أيضاً، لأن لوليتا تعتمد على مزيج الاشمئزاز والنشوة الذي يتولّد لدى القراء.

والاشمئزاز هو السبب وراء استمرارها- وهي أقدم من روايتي “قصة O و”مدار السرطان” أو أي كتاب آخر كان محرماً وقتها- كرواية تهز قراءها، بغض النظر عن مدى حداثتها. لوليتا ستظل دائماً ساحرةً ومثيرةً للصدمة في الوقت نفسه، ستظل كحجر أوبال ناري يرقد وسط حوض ماء دائري مموج الأطراف.

كايتلين فلاناغان

هذا المقال مترجم عن موقع The Atlantic ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا عن الرابط التالي

إقرأ أيضاً: تقاطع الحملات المحليّة والعالميّة ضد العنف الجنسي

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!