fbpx

“المومس الفاضلة”:
إلهام شاهين في مواجهة الرجعية المصرية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“كنت قدوة للكثير من الفنانين في أثناء أزمتي مع التيارات الإسلامية وقناة الحافظ: مكانش علي راسي بطحة ومكنتش خايفة منهم”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أعلنت الممثلة المصرية إلهام شاهين عزمها العودة إلى  خشبة المسرح من خلال مسرحية “المومس الفاضلة”، للأديب العالمي جان بول سارتر، ومن تلك اللحظة انقلبت الدنيا ولم تقعد، إذ بدأ الجميع في رجم “المومس” وكأنها ماثلة أمام أعينهم في شخص إلهام شاهين.

لا نعرف تحديداً من يبدأ بتمرير كرة الكراهية لمن، جميع الأطراف تورطت، الإعلام المصري والجمهور  وأيضاً قيادات سياسية، لكن يمكن تتبع الأزمة من نقاط محددة.

 وسائل إعلام تابعة للدولة انتقت صوراً بملابس “جريئة” لإلهام شاهين (هي تبدو عادية لمن ينظر إلى الأزياء على أنها موضة وجمال)، بغرض جمع أكبر قدر ممكن من الشتائم والتعليقات المسيئة ضدها.

هذا النمط بات متبعاً في معظم المواقع المصرية التي تبدو وكأنها اتفقت على تحقير الممثلات والعاملات في الشأن العام خصوصاً الفن، من خلال تنميطهن بخصوص ما يلبسن وكيف يعشن، والتركيز على أخبار  وصور تُصاغ بطريقة مسيئة لتلحق بقطار “الترافيك والترند”، وتحفيز الجمهور الذي بات محملاً بعدائية واحتقار واضحين للتمثيل الذي بات يوضع في خانة الذنوب التي تستوجب التوبة.

مساحة واسعة من الجمهور المصري المتابع لمنصات التواصل الاجتماعي وصفحات الأخبار، لا يحتاج أكثر من قراءة اسم إلهام شاهين بجانب خبر كهذا ليشن حملات مكثفة عليها، غير أن وقوف نائب برلماني على خط العداء لممثلة هو ما أوصل الأزمة إلى قمتها، فهو لا يمثل نفسه فقط بقدر تمثيله الشعب الذي ينوب عنه تحت قبة البرلمان، وهنا اختار البرلماني أيمن محسب، الوقوف في صف الرجعية، وقيم الموروث وبتعبير أدق ما جاء على لسانه “الإجراء الذي قمت به هو رد فعل الشارع… اسم المسرحية صادم واستفزني جداً”. 

خلطة إلهام المضمونة للنجاح والكراهية

عام 2012 قاد الشيخ عبد الله بدر الداعية السلفي، حملة ضد الفنانين المصريين، لكنه خص بالذكر إلهام شاهين، وقال: “عايز اسألك سؤال واحد، كام واحد قبّلك في الأفلام اللي بتقولي عليها… وكام رجل اعتلاكي في الأفلام… طالعة تتكلمي عن الإسلام وتقيمي ده متطرف وده مش متطرف”.

كان الشيخ واضحاً في إعلان سبب هجومه عليها، فهو  يرى نفسه ممثلاً عن الدين، ومتحدثاً باسم السماء، وتخيل أنه في موقف قوة بسبب احتمائه بحكم الإخوان المسلمين لمصر في هذا العام، حتى أنه دعا إلى مليونية ضدها، وحمل أتباعه صور إلهام المقتطعة من أفلام مثل “سوق المتعة”، و”دانتيلا” لتأكيد ضرورة التصدي لممثلة أخذتها الجرأة لتقول: “أخشى على الفن من بعض الإسلاميين المتشددين”. 

هذه النظرة الاستعلائية التي تتكون بالتراكم عند كثر من رجال الدين تجعلهم يضعون أنفسهم بين صفوف حماة الأخلاق وأعداء الفئة المنحلة في الأرض أمثال إلهام شاهين.

لكن إلهام شاهين لم تتوارَ كغيرها من الفنانين الذين كانوا يبدون تخوفهم مثلها لكن في الخفاء وفي جلسات الفضفضة مع الصحافيين المقربين أو زملائهم في الوسط الفني، وفي العلن يقدمون فروض الولاء والطاعة لأمثال عبد الله بدر تجنباً لتعرضه لهم، هذا الشكل من التلون لا يروق لصاحبة الخلطة السحرية الواضحة في النجاح وعداء الرجعية. 

شنت شاهين، حرباً ضد بدر ولم تنتظر دعماً باهتاً من فنانين يقفون هم أيضاً في صف الرجعية الدينية، ويعتبرون التمثيل ولاسيما مشاهد القبلات والأحضان فاحشة وسيئات جارية كما قال الممثل أحمد زاهر في أحد لقاءاته، ضارباً بعرض الحائط المحاكاة كأحد أركان الفن الأساسية، والتي قدمها نجوم الفن في مصر على مدار عقود الخمسينات والستينات والسبعينات خلال أفلام كانت القُبلات فيها أمراً طبيعياً بين البشر، لا ينظر لها أحد كجرم،كما اعتبرها جيل “السينما النظيفة” الذي أوصل صناعة الأفلام في مصر  إلى حالة الوهن وانعدام التأثير كما هي عليها الآن. 

المواجهة ربحتها إلهام شاهين بالحكم على الشيخ السلفي بالسجن لمدة عام، مع غرامة مالية. وكواليس القضية التي أوضحتها لاحقاً تظهر كم كانت شاهين امرأة تواجه تياراً جارفاً بمفردها، قالت: “كنت قدوة للكثير من الفنانين في أثناء أزمتي مع التيارات الإسلامية وقناة الحافظ: مكانش علي راسي بطحة ومكنتش خايفة منهم”.

سجلت وقتها كل الشتائم الموجهة ضد عادل إمام، فاروق الفيشاوي، هالة صدقي، والأديب نجيب محفوظ، وقالت لهم “أنا هاجيب حق كل فنان”، وأرسلتها ضمن الأدلة في قضيتها ضد الشيخ وقناة الحافظ، التي حكم عليها بالإغلاق لتكون صاحبة أول حكم بغلق قناة تلفزيونية بحكم محكمة، رافضة المفاوضات المادية للتنازل عن القضية، ومعها الكثير من التهديدات بالقتل والتنكيل، حتى أنها اختصمت مؤسسة الأزهر بسبب تزوير الداعية مهنته وادعائه أنه دكتور في جامعة الأزهر. 

على رغم وقوفها الشرس ضد تقييد حرية الفن إلا أن شاهين لم تحمل ميزان الحرية نفسه في شؤون سياسية، فانحازت إلى أنظمة ديكتاتورية مثل النظام السوري وهو ما جعل خطابها عن الحريات ملتبساً ومزاجياً.

وعلى رغم تأييد إلهام شاهين إقصاء الاسلاميين، إلا أنها من القلة التي انتقدت المنظومة السياسية الحالية في ترسيخها اتهامات مثل ازدراء الأديان للمفكرين والباحثين، آخرهم الباحث المصري أحمد عبده ماهر، الذي صدر حكم بحبسه خمس سنوات بسبب نقده الخطاب الديني في كتابه “إضلال الأمة بفقه الأئمة”.

إقرأوا أيضاً:

الفن والأمومة والعصمة الزوجية في حياة إلهام شاهين

المشهد السياسي والاجتماعي في مصر فرض وجود الإسلاميين في الحياة العامة، منذ فترة حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وقتها حتى الآن تسربت الأفكار الرجعية للمجتمع المصري حتى باتت جزءاً لا يتجزأ من أشكال الحياة اليومية بتفاصيلها من مأكل وملبس وتعاملات، كلها أصبحت تخضع لميزان الدين بنسخته الشعبوية الأكثر تشدداً. 

ومع فترة نشاط الحركات الإسلامية، تأثرت الفنون في مصر بالمبادئ ذاتها،  ثم أعقبتها موجة حجاب النجمات واعتزالهن الفن، وكانت شادية وشمس البارودي أشهر نماذج قدن جيلاً كاملاً من النجمات اللواتي احتقرن التمثيل، واعتبرت السينما مجرد خطوة لجمع المال تسبق رحلة التوبة.

التمجيد المستمر أيضاً لدور الأمومة ووقوع عبء التربية على النساء وحدهن دون الرجال، على حساب أدوارها الأخرى في العمل، من سمات الخطابات الدينية والإعلامية منذ السبعينات إلى وقتنا هذا، حتى إن النساء أصبحن مبرمجات تلقائياً للحديث عن مشاعر الندم إذا ما اخترن النجاح والانشغال في الفن، وكل واحدة خرجت عن هذا الإطار أصبحت في مرمى الهجوم وغير مرحب بحديثها. 

هنا كانت إلهام نموذجاً لافتاً في رفضها الرضوخ لهذا النمط من التفكير، وأعلنت عن تجنبها الإنجاب بإرادتها الحرة، من دون إبداء مشاعر ذنب تجاه ذلك: “لا أرغب أن أكون أماً لعدم رغبتي في تحمل مسؤولية الأمومة”.

وتعد علاقتها المضطربة بأبيها دليلاً آخر على سباحتها ضد التيار، في البداية رفضت احتقاره الفن، واستكملت طريقها كما رسمته، حتى أنه أثناء محاولته الضغط والضغط عليها قام بجمع كل المشاهد الجريئة لها في شريط فيديو، وفاجأها بها، تحكي عن ذلك: “زرته في بيته، فوجئت أنه اتفرج على كل أعمالي، وأحضر شريط فيديو فيه مشهد رقص، ومشهد لابسة فيه قميص نوم مفتوح… وقال لي إنه كان صح، أنا مكسوف لك، لكن أنا مات حرجتش لأني فنانة وفاهمة اللي بعمله، وحسيته في اللحظة دي عدوي”.

وعلى رغم إعلانها محبتها له، لكنها لم تبدِ أسفاً إزاء رد فعلها، ولم تندم على اختيارها الفن كما غيرها. هذه الحوارات التي تطل بها إلهام شاهين من وقت إلى آخر تجعلها تواجه هجوماً عنيفاً، يتجدد في كل مرة. 

الأخطاء والعناد والجنون، كلها جزء من شخصية إلهام شاهين الرافضة تمثيل دور الفضيلة المقولبة مجتمعياً، لم تدّعِ يوماً المثالية أو الأخلاق، بل اعترفت بكل نقائصها في العلن، حتى إنها قالت “الرجال بيخافوا مني”، وكشفت عن اشتراطها أن تكون العصمة في يدها من زوجها عزت قدورة، خوفاً من نهاية العلاقة بشكل لا تقبله. 

هذه التركيبة بالطبع لا تلقى قبولاً مع انتشار السلعة الأكثر رواجاً وهي ادعاء الفضيلة في العلن كما فعل عبد الله بدر وأتباعه، كما أن صراحتها تكشف عورات الكثير من النواب الذين لا يهتمون بدورهم الأساسي في مراقبة الحكومة ومناقشة التشريعات، بقدر انتفاضهم ضد كلمة “مومس” المترجمة عن مسرحية عالمية. 

الجدل على المسرحية بين الأمس واليوم

لم ينكر الكاتب والباحث المصري شعبان يوسف، ملازمة الجدل للمسرحية أثناء عرضها في نهاية العقد الخامس من القرن الماضي، لكن الفارق طبيعة الجدل نفسه، كان في السابق فنياً أكثر، وأتاح عرض الآراء من دون التكتل لمصلحة الاتجاه الأخلاقي الذي يرفض اللفظ المستخدم لبطلة المسرحية، وكان موجوداً أيضا وقتها ولكنه غير مؤثر كما الوقت الحالي. 

يشرح في مقالته كيف استقبل النقاد المصريون مسرحية سارتر “المومس الفاضلة” 1958 من خلال الترجمة الرشيقة للكاتب مازن الحسيني، بما يتماشى مع النهضة المسرحية الكبيرة في ذاك الوقت، والنهوض الفني الذي تبلور على يد تيار الواقعية الاشتراكية، من كُتاب، ونقاد، ومفكرين، وفنانين.

ويلفت إلى دور ذلك التيار التنويري المنتشر بين القيادات، مثل وزير الثقافة السيد ثروت عكاشة، ومدير عام الفنون المسرحية والموسيقى الدكتور علي الراعي، ومدير المسرح القومي أحمد حمروش وهو أحد المثقفين في العمل الصحافي والفني، وكان أيضاً من قيادات الضباط الأحرار، ما يعني أن الدولة نفسها كانت مقتنعة بأهمية دور الفنون بشكل واضح بلا مواربة. حتى إن لجنة القراءة التي تجيز النصوص لتمثيلها على خشبة المسرح ضمن أسماء ذات ثقل ثقافي لا يستهان به، ومن هنا جاء اختيار نص “المومس الفاضلة” ليتناسب تماماً مع تلك الحقبة التنويرية. 

وفي الإطار الصحي لمناقشة الكلمة المثيرة للجدل كتب وقتها أنيس منصور ليرد على المنتقدين، أن كلمة “مومس” لم تعد مزعجة، وكانت تمكن ترجمتها إلى عاهرة أو غانية، لكنه انتصر في النهاية إلى “المومس” كونها صادمة ومعبرة عن فكرة المسرحية نفسها.

ما حدث مع إلهام شاهين قد يكون مفارقة غريبة إذا ما تأملناه بقليل من الرمزية وربطناه بالرسالة التي أراد سارتر تمريرها في نصه الإبداعي ضمن رسائل أخرى.

القصة تمحورت حول رفض “ليزي”، التي يقال إنها “بائعة هوى”، الإدلاء بشهادة زور، لتقف في وجه قضاة وأصحاب نفوذ سياسي واجتماعي، وترفض الخضوع لترغيبهم تارة أو ترهيبهم مرات أخرى، متمسكة بصدقها في وجه من يستمدون قيمتهم من وظائفهم، في حين تستمد هي من صدقها وتمسكها بالحق فضيلتها الحقيقية، على رغم عملها المحتقر في أعين الجميع. 

إقرأوا أيضاً: