fbpx

انفجار مرفأ بيروت:
تعميق معاناة النساء وسحق آخر فرص العاملات الأجنبيات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كثر من العاملات الأجنبيات غادرن لبنان بسبب الانهيار الاقتصادي، ومن بقيَ منهن يتعايش مع خوفٍ دائم من انفجارٍ آخر لا يُستبعد في بلدٍ تُحاول سلطته طمس حقيقة التفجير بكل ما أوتيت من سُبل.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“عبء كبير تتحملي مسؤولية 5 ولاد صغار وإنتِ ما بتشتغلي… من الأساس هو اللي كان يشتغل وهو كان المعيل وكان كل شي… أنا ما اشتغلت بيوم….”، تقول ولاء زوجة آخر ضحايا انفجار مرفأ بيروت عباس مظلوم، الذي رحل بعدما بقي لأكثر من عام بعد الانفجار عاجزاً عن السير أو الحركة إثر إصابة عموده الفقري. 

“الولاد تاركهن لله”… هذه العبارة ردّدها عباس كثيراً في أيامه الأخيرة، وكأنه كان يعلم أن رحيله سيكون بداية لمأساةٍ جديدة لخمسة أطفال وأمّ بلا معيل، في مجتمعٍ ذكوري ينهش النساء الوحيدات، خصوصاً في قرية نائية، كبلدة بريتال في بعلبك، حيث تقيم ولاء.   

تروي ولاء (29 عاماً) لـ”درج” معاناة عباس خلال 15 شهراً قضاها في سريره لا يُحرّك فيها سوى عينين يرى عبرهما خوف ولاء اليومي من خسارته، وخمسة أطفالٍ كان يعلم أن مصائرهم متروكة للقدر. 

“عباس كان كل شي، بس ما توقّعت بيوم إنه يفلّ…”، تروي ولاء التي تركت تعليمها وهي في السنة الأخيرة في معهد التكنولوجيا، حيث كان يجب أن تتخرّج وتحصل على إجازة مهنية. “وقت الامتحان الرسمي كان عرسي، قالي عباس ما بدي ياكي تكملي علم ولا أساساً بدي ياكي تشتغلي”، وتركت علمي و تزوجت يومها”. حينما اختارت ولاء الزواج من عباس، كانت تبلغ 19 عاماً، فيما كان يكبرها هو بـ15 عاماً. 

تنظر ولاء اليوم إلى أطفالها وتردّد أنها “لم تندم يوماً”، لكنها تتمنى الآن أن تحصل على وظيفة لتعيل أطفالها، خصوصاً أن السلطة اللبنانية لم تقدم للعائلة أي مساعدة منذ إصابة عباس، حتى أنها لم تُساعد بأي من تكاليف العمليات الجراحية أو العلاج الفيزيائي الذي تلقاه الأخير طول فترة إصابته، إذ اعتمدت الأسرة على تبرعات مغتربين ودعم صاحب المطعم الذي كان عباس طاهياً فيه. فيما تُقيم ولاء وأطفالها اليوم في منزل أهلها لأنها عاجزة عن دفع تكاليف منزلها، لا سيما التدفئة.

“الضغط النفسي كبير… منو عباس مش موجود وأنا متعودة عليه، ومنو الولاد بيضلو يسألو عنه. بيقولولي البابا وين راح بقلهن بالسما موجود وشايفكن، بيقلولي خدينا عند البابا… باخدهن ع القبر…”، المعاناة التي تعيشها ولاء ليست مادية واجتماعية فقط، إنما نفسية أيضاً. تخبر مظلوم كيف تحضن ابنتها الكبرى قبر والدها وهي تردّد أن كل ما تريده هو أن تشعر بوجوده، تروي ذلك بينما تتصفّح صور الأب يتوسّط أطفاله الخمسة على هاتفها، منذ ما قبل الانفجار ووصولاً إلى أيامه الأخيرة.

تتشاطر ولاء مأساتها مع نساء كثر عمّق انفجار مرفأ بيروت معاناتهن. فوفقاً لـ”هيئة الأمم المتحدة للمرأة”، 51 في المئة من المتضررين هم أسر تعيلها نساء، فيما أصبحت 30 ألف امرأة عاطلة من العمل بعد الانفجار وفق “لجنة الإنقاذ الدولية”. بمعنى آخر، جزء يسير من الأسر التي تعيلها نساء أصبحت بلا معيل اقتصادي. هذا عدا النساء اللواتي لم يُمارسن أي نشاط اقتصادي سابقاً بسبب ثقافة المجتمع السائدة في بعض المناطق، وولاء منهن. إذ “أُجبرت نساء على لعب أدوار إضافية للأدوار اللي كانت تلعبها سابقاً بعدما فقدن شريكهن أو معيل الأسرة، كالانخراط في سوق العمل”، تقول المتخصصة الاجتماعية في جمعية “كفى” سيلين الكيك لـ”درج”. هذا عدا العنف الذي ازدادت وتيرته بعد الانفجار وفق الجمعية، إذ تلقى مركز الدعم أكثر من 100 اتصال متعلّق بالتبليغ عن عنف أسري بعد الانفجار مباشرةً.

“بيقولولي البابا وين راح بقلهن بالسما موجود وشايفكن، بيقلولي خدينا عند البابا… باخدهن ع القبر…”.

من جهة أخرى، سلّطت الأزمة اللبنانية الضوء على عدم المساواة بين الجنسين. إذ صُنّف لبنان في المرتبة 145 من أصل 153 دولة، وفقاً لـ”المنتدى الاقتصادي العالمي حول الفجوة بين الجنسين”. وذلك بسبب انخفاض معدلات المشاركة الاقتصادية والسياسية للمرأة، والأعراف الذكورية الاجتماعية والثقافية. 

زهوة الدادا نجت من انفجار 4 آب أيضاً، لكن وقع الحياة صار ثقيلاً عليها بعدما فقدت زوجها وأُجبرت على تربية أطفالها بمفردها. رحلت بعد الانفجار بأيام نتيجة “جلطة دماغية” وفق ما ورد في وثيقة الوفاة. فيما لا تزال عائلتها تسعى لإدراج اسمها ضمن ضحايا انفجار المرفأ حفظاً لذكراها. 

يوم الرابع من آب/ أغسطس كانت زهوة في بيتها تُطعم ابنها جان، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة. رماها دوي الانفجار في أرجاء المنزل فارتطمت بجدرانه وأصيبت في قدميها جراء الزجاج المتطاير وفقدت وعيها لبرهة. بعد صحوتها، استمرّ ألم رأسها لأيام، فيما رجّح الطبيب المعالج فرضية تعرّضها لضربة قوية سببت لها جلطة أتلفت نصف الدماغ… رحلت زهوة بعد معاناة طويلة، ولا يزال ابنها جان يسأل عن أمّه بلغة الإشارة، هو الذي لم يعلم برحيلها بعد.

للعاملات الأجنبيات حصة من الألم…

“كنت عم فيقها وعم قلها تيغيست قومي بدنا نروح على بلدنا، بدنا نشوف بنتك… نحنا تركنا ولادنا وبيتنا وجينا نشتغل بس ما كنا نفكّر إنه نموت هون…”، تقول العاملة الأثيوبية سلام، صديقة تيغيست (28 سنة)، العاملة التي قضت بالانفجار عندما كانت في مكان عملها القريب من مرفأ بيروت.  

تيغيست تزوّجت وعمرها 15 عاماً، تركت بلدها وطفلتها البالغة من العمر ثلاث سنوات وأتت إلى لبنان كي تتمكن من تعليم طفلتها الوحيدة، لكنها لم تتوقّع أن نتنهي حياتها قبل إنهاء تكاليف دراسة ابنتها. 

“كنت أحاول مراراً أن أقنعها بالعودة إلى الوطن، قلتُ لها كثيراً انني أصبحت شابة وبإمكاننا العمل سوياً والعيش معاً، لكنها أصرّت على البقاء لبضع سنوات في لبنان كي أتمكّن في إكمال دراستي في أفضل الجامعات هنا… لم أتوقع أن يحدث كل هذا”، هذا ما كتبته كديست في مذكراتها التي أطلعت “درج” عليها. 

على رغم المسافات، إلا أن تيغيست وابنتها كانا على علاقة وطيدة وعلى اتصالٍ دائم. تروي كديست أنها تواصلت مع أمها قبل الانفجار بساعتين لتخبرها عن درسها وتُرسل لها صوراً جديدة، إلا انها فقدت الاتصال معها بعدما وقع الانفجار، لتعلم لاحقاً أن أمها رحلت متأثرةً بجراحها.  

الانفجار خلّف عشرات الضحايا والجرحى من عاملات أجنبيات تركن بلادهن القاسية عنوةً ليصطدمن بنظام كفالة وعنصرية مقيتة وظروف معيشية قاهرة، حتى وصل بهن الحال إلى الموت المجاني في لبنان.

تروي سلام أنها تعرّفت الى صديقتها تيغيست من ظفيرة شعرها عندما ذهبت لتراها في المشفى، بعدما تغيّرت ملامح وجهها بالكامل نتيجة الكدمات. وتُضيف، “كل صوت بسمعه بحسه انفجار جديد… أهلي كلهم بيخافوا عليي كل يوم بقولولي تعي”. كثر من العاملات الأجنبيات غادرن لبنان بسبب الانهيار الاقتصادي، ومن بقيَ منهن يتعايش مع خوفٍ دائم من انفجارٍ آخر لا يُستبعد في بلدٍ تُحاول سلطته طمس حقيقة التفجير بكل ما أوتيت من سُبل. 

تمّ إنجاز هذا التحقيق بالشراكة مع “مبادرة العدالة الاجتماعية والاقتصادية – معاً” 

إقرأوا أيضاً: