fbpx

محمد اللبناني وحلا ”الإسرائيلية“:
قصة حب أمام قاضٍ عسكري

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كفيلم رقيق يصلح لمساء سبت رخو هي قصة الحب بين محمد وحلا. لبناني مريض يقع في حب ممرضة فلسطينية تعتني به، في مستشفى في ألمانيا، حيث كلاهما غريب لكنهما يلتقيان على لغة واحدة. يتزوجان ويعيشان بسعادة، ليس إلى الأبد، بل إلى أن تذهب الطريق بمحمد إلى حيث يقع بين يدي قاضٍ عسكري.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هذا مشهد سينمائي معتمد: شخص يرى صورة، أو يقرأ خبراً.. لا يصدق عينيه، يفركهما بقبضتيه، ثم يعيد التحديق، فيكتشف ألا شيء تغير، وأن ما يراه ليس من صنع مخيلته التي تمازحه.

يقول الخبر اللبناني الذي مرّ عابراً ولم يتوقف عنده معظم الذين نقلوه، بل اكتفوا بنص الوكالة الوطنية للإعلام: ”أصدرت المحكمة العسكرية الدائمة برئاسة العميد الركن منير شحادة حكماً قضى بحبس اللبناني محمد يوسف بنوت مدة سنة، وتغريمه مبلغاً وقدره 500 ألف ليرة لبنانية (أقل من عشرين دولاراً لحسن حظ محمد وسوء حظ لبنان)، وذلك سنداً الى المادة الأولى من قانون مقاطعة إسرائيل معطوفة على المادة السابعة منه.
 وتابعت الوكالة الرسمية: ”وجاء هذا الحكم على خلفية زواج بنوت من الفلسطينية حلا رزق التي تحمل الجنسية الإسرائيلية وتعمل كممرضة في أحد مستشفيات ألمانيا، حيث كان بنوت يتلقى العلاج“.

مذهل! 

شحادة حكم على لبناني بالسجن عاماً لأنه تزوج ”إمرأة إسرائيلية“ بحسب العناوين شبه الموحدة لمعظم المواقع اللبنانية وغيرها، التي نقلت الخبر بصيغته الحرفية عن الوكالة. هذه، قسماً بالله، جريمة بنوت الوحيدة: تزوج من فلسطينية تحمل الجنسية الإسرائيلية. 

محمد ليس جاسوساً جندته حلا، ضابط الموساد المتنكر على هيئة ممرضة في ألمانيا. ليس كذلك، وهي ليست ضابط موساد. الزميل رضوان مرتضى كتب عن الحكم في عدد الإثنين من ”الأخبار“، واصفاً حكم رئيس المحكمة العسكرية بالاستعراضي لبطولاته الشخصية ضد إسرائيل، حيث قرر أن يحكم على بنوت بالحبس مع أنه لم يثبت عليه، ولا على زوجته حلا المقيمة، الحمد لله في ألمانيا، أنهما جاسوسان.

فبحسب الجملة الأخيرة من مقال مرتضى والمأخوذة من محضر التحقيق على الأرجح، أنه ”لدى تحليل هاتفه للكشف على محادثاتهما (محمد وحلا) تبين أن كل المحادثات عاطفية، وأكد محمد أنها لم تسأله يوماً عن أي شيء خارج علاقتهما الزوجية“.

سنغض النظر عن ”تحليل هاتفه“ التي تعني الانتهاك الفاضح، المبرح، لخصوصيات المتهم الذي لا نعرف أصلاً ما الذي مر به من لحظة اعتقاله وحتى محاكمته، بما أننا نحكي عن لبنان، وليس عن السويد مثلا، أو الدانمرك. من الواضح أن المحكمة العسكرية لم تستطع إدانته بالتجسس لصالح إسرائيل. لا هو اعترف، ولا هاتفه وشى به، وليس هنالك من شهود ضده. لماذا يحكم بسنة سجن ويلوث سجله العدلي إلى الأبد ويشهر به فوق ذلك؟ 

الجواب عند  القاضي العسكري العادل الذي حكم عليه بما حكم، الضابط في الجيش اللبناني، رئيس المحكمة العسكرية الدائمة (وما دائم على ما يبدو إلا وجه الله ووجهها) العميد الركن منير شحادة. 

ماذا؟ هل يحتاج العميد الركن إلى درس زَ رَ عَ؟ حسناً، ردد المكتوب على اللوح، حضرة العميد الركن. فلسطينيو الداخل ليسوا إسرائيليين وكفى. ثمة إضافة جوهرية على جنسيتهم. أنهم فلسطينيون أولاً. فلسطينيون خاضوا ويخوضون، منذ العام 1948، نضالين متوازيين: الأول ضد الدولة العبرية، كأي أقلية بين أكثرية حاكمة، يخوضون نضالاً ضد تذويبهم في العام السياسي والاجتماعي والثقافي المهيمن، وضد سلبهم لغتهم وتاريخهم وحاضرهم وهويتهم وخصوصياتهم وعمقهم الفلسطيني إن في فلسطين نفسها أو في الشتات. أما نضالهم الثاني فخاضوه ضد الجهل العربي العام بهم، والصورة النمطية التي انطبعت عنهم، وقد تخطوها، حتى لم يعد عضو الكنيست العربي مرفوضاً، بل على العكس، مرحباً به في لبنان والدول العربية كافة، هو ومن يمثلهم من الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، ومنهم ما لا يعد ولا يحصى ممن زاروا ويزورون لبنان تحديداً، من دون أن يعتقلوا ويحاكموا أمام محكمة عسكرية.

كفيلم رقيق يصلح لمساء سبت رخو هي قصة الحب بين محمد وحلا. لبناني مريض يقع في حب ممرضة فلسطينية تعتني به، في مستشفى في ألمانيا، حيث كلاهما غريب لكنهما يلتقيان على لغة واحدة. يتزوجان ويعيشان بسعادة، ليس إلى الأبد، بل إلى أن تذهب الطريق بمحمد إلى حيث يقع بين يدي قاضٍ عسكري، يطلق حكماً وفقا لاحتمالاته العديدة، التي ليس بينها العدل بطبيعة الحال.

فإما أن الضابط يستعرض، متخذاً موقفاً ”بطولياً“ خاوياً من أي بطولة، في مواجهة إسرائيل، كما استنتج مرتضى في الأخبار، وهذا سيئ. وأما أن الضابط التزم بحرفية النص، ونفذ المكتوب في القانون، من دون أي اجتهاد، أو تفكير، أو نفخ روح الإنسانية في النص، وهذا أسوأ. وإما أن منير شحادة أعلاه لا يدري من هم فلسطينيو الداخل. لم يسمع بهم من قبل. لم يصادفهم في وثائقي، في مقال، في خبر على قناته المفضلة. لا شيء. وأن يكون شحادة جاهلاً إلى هذه الدرجة فهذا ليس مسيئاً له فحسب. مثل هذا الجهل المدقع مصيبة حين يقع فيه قاضٍ. 

هذا مشهد سينمائي معتمد: شخص يرى صورة، أو يقرأ خبراً.. لا يصدق عينيه، يفركهما بقبضتيه، ثم يعيد التحديق، فيكتشف ألا شيء تغير، وأن ما يراه ليس من صنع مخيلته التي تمازحه.

القضاء ليس لعبة، وشحادة ليس لاعب كرة قدم يتوفق حيناً ولا يتوفق حيناً آخر. شحادة قاضٍ. وإصدار حكم على شخص بالسجن عاماً كاملاً، ليس تسديدة طائشة على المرمى قد تصيب وقد تخيب. من المفترض أن هذا الحكم قد أشبع درساً، وأن محكمة عقدت تحت قوس العدالة. مصطلحات تحمل هيبتها في طياتها. لكن القرار نسف الهيبة ونسف المحكمة ونسف القوس. القرار، مما يبدو عليه، اعتباطي أضر، أول ما أضر، بالقضاء اللبناني نفسه، بصورته التي تهتز برمتها بينما حكم يصدر عنه بمثل هذه الخفة والرعونة، كما أنه ظلم بريئاً حتى من دون تذاكٍ، من دون تحايل في إخفاء الظلم. ظلمه بوقاحة.

 حكم المحكمة لا راعى روح القانون، ولا راعى المبادئ الإنسانية التي وضعت لأجلها القوانين، والتي وظيفتها أن تحقق العدل وتمنع الخطأ ما استطاعت، والزوجان ليسا مخطئين، ولا حتى راعى الاستعراض إذا كان هذا هدفه. ليس أن إسرائيل ضجت بالبكاء حين أصدر القاضي حكمه، بل على العكس، ستتلقفه خبراً سعيداً، لأن قاضياً كبيراً في لبنان ارتأى أن زواج لبناني من إسرائيلية جريمة، حتى لو كانت من أصول عربية. أي معادة للسامية أبلغ من هذه، حتى ولو لم تكن حلا يهودية أصلاً؟ 

لماذا حكم شحادة على بنوت بما حكم؟ هذا ليس مهماً، لأنه، ومن جديد: هذا لبنان، وليس السويد. وما يدور في ذهن الضابط ليس له أدنى أهمية. لبنان قطار يهوي بلا سائق، وبلا سكة حديد. ولن يتوقف أحد عند هذا الانهيار العام. لكن، هناك مظلوم في السجن، لا دليل عليه يجرمه إلا قصة حبه. من ينقذ محمد من هذا الكابوس؟ كيف يتحرر من حكم  بلده الظالم ليهرب إلى ألمانيا من دون حتى أن يلتفت إلى الوراء؟

إقرأوا أيضاً: