fbpx

سوريا: الفوط الصحية والكرامة المبذولة
على قارعة الطريق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يعد رجاء السوريين أن يتوقف العالم عن دعم نظام الأسد، بل صار أعظم ما يرجونه هو الحفاظ على ما بقي من كراماتهم وكرامة أبنائهم؛ كرامة أن يستطيعوا تأمين أبسط سبل النظافة الشخصية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الثانية عشرة ظهراً بتوقيت سوريا، أن يُطرَقَ باب المنزل ليس بالأمر الغريب؛ فالضيوف هنا يملكون وقتاً مفتوحاً للزيارة، ولا سيّما السيدات اللواتي أُحلن على المعاش أو النساء الملتزمات في بيوتهن، كما أن الأبنية التي لا تمتلك أبواباً مُغلقة، تسمح للجميع بالزيارات المفاجئة دون استئذان. 

 إجراءات الأمان مستحيلة أو صعبة في سوريا، فلا كهرباء في هذه البلاد إلا لساعتين أو ثلاث خلال 24 ساعة، فما عادت الكهرباء عصب الحياة كما يقال. كلُّ شيءٍ يمكن أن يحدث فجأة في هذه المدينة التي لا تختلف الأبنية فيها عن بيوت القرى المفتوحة، ولا هوية لسوريا لتعطيها شيئاً من الخصوصيَّة. 

لم تكن مَن طرقت الباب إحدى صديقات أمي أو جاراتها، بل كانت ضيفة غريبة الهيئة والمطلَب، قالت لأمي: “أنا لست متسوَّلة، بل فقط أريد بعض القماش أو الخِرَق التي لا تلزمك، أحتاج إليها من أجل استخدامها فوطةً لابنتي المشلولة”. كان علي أن أراقب ذلك المشهد بتأملٍ وحزن بينما أراقب وجه أمّي وهي تقف أمام الباب. انحنى ظهر أمي وارتبكت، ومن حظِّ هذه المرأة أننا نملك فوطاً للمرضى، لأن أخي عاجزٌ ويحتاج إلى الفوط يومياً، بمعدّل 12 فوطةً خلال ثلاثة أيام، إن لم يصب أخي عارض ما، يحتِّمُ استخدام فوط إضافية. لقد ألمَّ بي القلق والفزع مثل كلِّ أبناء هذا البلد، بعدما فقدت العملة السورية قيمتها أمام الدولار؛ فقد كان الدولار الواحد يساوي خمسين ليرة سورية عام 2011، أمَّا اليوم فيساوي ثلاثة آلاف و500 ليرة سورية. حينما وصلت تلك السيدة إلى بيتنا كانت قيمة الدولار الواحد ترتفع من ألف ليرة سورية إلى ثلاثة آلاف و500 ليرة سورية؛ وكان هذا الارتفاع المفاجئ صادماً للجميع. 

لقد بدأ الجوع يفتك بنا، وقد ساعدت جائحة “كورونا” على هذا. كان خروج السيدة من بيتنا محملة بكيسٍ من فوط العجزة يحتوي على 12 فوطة، مشهداً درامياً مفزعاً وجليلاً في آنٍ واحد؛ إنه مشهد مؤلف من بطلتين: أمي والسيدة التي لا نعرفها أبداً التي بدأت بالبكاء الصامت على الباب، لأنَّ الكيس في يدها كان أشبه بالحلم الطارئ الذي سيمنحها وابنتها النظافة لأسبوع واحد على الأقل. وهذا  لن يمنعها من لمِّ الخرق القماشيَّة من أيِّ بيت يصادفها في طريق عودتها. وما استطعت سماعه من حديثها مع أمي هو أنَّ ابنتها تبلغ 27 سنة، وتعاني من شلل كامل يمنعها من مغادرة سريرها. هذه قصص من واقعٍ دراميٍّ مأساوي يفرض نفسه على حياة السوريين؛ فيدفعهم إلى التعاضد ومحاولة إبقاء الأجساد نظيفة قدر المستطاع، وربَّما إبقاء النفوس نظيفة أيضاً. 

في سوريا يعاد تفكيك المجتمع وتركيبه من جديد وفقاً للعوز والفقر والمأساة المشتركة التي ينسجها الكفاح اليومي لتأمين أدنى متطلبات الحياة. 

يملك السوريون لغةً جسدية مميَّزة، تفقدهم الخصوصية الفردية حين يتزاحمون وتتراكم أجسادهم عند الفرن، وكأنهم جسد واحد متكتِّل، وفي الوقت نفسه يظهر ذعرٌ غريب نحو كرامة جسد المريض، أو كرامة جسد الطفل، ليتزاحموا من جديد بأجسادٍ متلاصقة ومتدافعة بحثاً عن أكياس الخرق والفوط وعلب الحليب. يبدو مشهد أكياس الفوط الصحيَّة التي يستلمها أهل العاجز والمريض مأساوياً مُعبِّراً عن شيءٍ من الذل والكثير من المعاناة والكفاح من أجل “الفوط الصحيَّة”!

تختفي الفوط الصحيَّة من الأسواق لفترة طويلة في انتظار وصول شحنة المساعدات الدوليَّة أو البضائع المستوردة من الخارج. ما زلتُ أذكر اتصالات أمي التي تحمل الكثير من القلق المستور وراء الصلابة المصطنعة؛ إنَّه القلق من “القذارة”، من عبء التنظيف وغسيل الخرق البالية، والقلق من انقطاع الماء لأيَّام دون القدرة على تنظيف المريض أو العاجز أو حتى الطفل الصغير. يمنع النظام السوريّ استيراد الفوط لكونها من الكماليات التي تأتي في مرتبة متأخرة، بنظره، من احتياجات الشعب السوريّ، أما الفوط التي تنتجها المعامل الشعبيَّة فهي رديئة أقرب إلى كيس نايلون غير متقن الصنع لا يحمي خصوصية المريض ولا يقي من التسرب.

في السنوات الأولى من الثورة السوريَّة، تحملت آلاف العائلات السورية ارتفاع ثمن الفوط الذي ارتبط بارتفاع سعر صرف الدولار، إلا أنَّ الخسارات الهائلة أدَّت إلى تفاقم حاجة الأهالي إلى شراء الفوط الصحيَّة لآلاف الأطفال والفتيان والفتيات والمرضى، في صراع ضمني داخلهم بين الحاجة إلى شراء الفوط والحاجة إلى شراء الطعام؛ إنَّه خيار ومفاضلة بين النظافة والغذاء! 

راتب الموظف السوري لا يكفي لتأمين مؤونة غذائية لشهر واحد، فكيف له أن يكفي لشراء فوط يحتاجها المريض أو الطفل بصورةٍ دائمة؟ تحول خوف الأهالي من انقطاع الفوط إلى ذعرٍ حقيقي يربكهم كلَّما تأملوا في حال مريضهم أو طفلهم الصغير؛ وعلى ذلك نشأت مؤسسات مدنيَّة وإنسانيَّة تعمل في الخفاء على دعم أهالي ذوي الاحتياجات الخاصة. فالعائلات حائرة بين اختيار الطعام أو الفوط. هذا الصراع بات مخيفاً وساخراً، ألا يقال إنَّ شرَّ البليةِ ما يُضحِك؟

في الوقت نفسه يتجمع آلاف من الشباب السوري أمام أبواب الجمعيات الخيرية من أجل  فوط العجزة، وفوط الأطفال حديثي الولادة. يبلغ سعر الفوطة الواحدة قرابة الألف ليرة سورية، الأمر الذي يزيد من صعوبة تأمين فوط للحاجات اليوميَّة. بلغت نسبة الفقر في سوريا بحسب الإحصاءات الأخيرة قرابة 80 في المئة، على رغم المشاركة الكبيرة والفعَّالة للجمعيات المدعومة من المنظمات الإنسانية وهيئات الإغاثة المحليَّة والدوليَّة.

وقد قامت برامج دعم دولية مختلفة بدعم سلع غذائية أو احتياجات عائليَّة صحية مثل: الفوط لارتفاع سعرها ومستحضرات النظافة اليوميَّة، وقد بدأ كل هذا منذ بداية ظهور موجات النازحين في الداخل السوري؛ فقدمت لهم مساعدات (health and wash) من جهات مختلفة، على رأسها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والمنظمة الدولية للهجرة، والهيئة الطبية الدولية، وحاولت هذه المنظمات تغطية حاجات السوريين في الداخل والخارج.

إقرأوا أيضاً:

بدءاً من عام 2014، انهارت العملة السورية ما أثَّر بدوره بصورة حادَّة في الفئات الأدنى مادياً واجتماعياً؛ فالدولة السورية فقدت مقومات الحياة اليوميَّة واحتياجات العيش الأساسيَّة، في سبيل الإبقاء على الشكل الأمني والعنيف للدولة؛ أي صورتها العسكرية والسياسية. ولم تدعم الدولة السورية الفئات الأكثر ضعفاً أو الأكثر حاجة والأدنى دخلاً، بل فتحت لهم من خلال المؤسسات الاجتماعية الحكومية والجمعيات الخيرية منفذاً ضئيلاً يتحولون به إلى شحاذين ومتسولين مثيرين للشفقة، وربما الاشمئزاز، أمام المنظمات والدول التي تنظر إلى السوريّ كمسكين يستجدي الرحمة ولقمة العيش.

هذا القهر يمتد كحالة رعب يومية عند الأهالي؛ إنَّها ثورة من الأمهات الفقيرات اللواتي يبحثن بصمت وقهر عمَّا يصلح ليحرس صحة أبنائهم ونظافتهم. تعِدُ المنظمات بالكثير تارةً، وتارةً أخرى يغيب كل هذا الدعم ويُترك السوريون للكفاح غير المجدي.

 التقيتُ بعشرات العائلات التي لا تستطيع دون تلك المنظمات تأمين فوطٍ تجعلهم وأبناءهم ينامون دون قلق الاستيقاظ لتنظيف المكان. إنّه لأمر مثير للسخرية أن يكون مرتّب الموظف الحكومي ودخل صاحب العمل الخاص أيضاً، غير كافٍ لتأمين الفوط الصحية كل ثلاثة أيام.

 أن تكون في سوريا، يعني أن تكون وحيداً ومحتاجاً لأقلِّ ما يحفظ كرامة الوجود الإنساني والحضور الاجتماعي. لا دولة في سوريا، فهي غير قادرة على إظهار أدنى ما يلزم لإثبات وجودها. لم يعد رجاء السوريين أن يتوقف العالم عن دعم نظام الأسد، بل صار أعظم ما يرجونه هو الحفاظ على ما بقي من كراماتهم وكرامة أبنائهم؛ كرامة أن يستطيعوا تأمين أبسط سبل النظافة الشخصية.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.