fbpx

تركيا وإيران وبينهما “العمال الكردستاني”:
أسئلة محيّرة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عام 2023 ستطوي تركيا قرناً من السنوات على إعلانها كجمهوريّة، ومساحتها الجغرافيّة تزداد. والفضل في ذلك، سواء بشكل مباشر أو بغيره، لعبدالله أوجلان وحزبه العتيد، الذي تأسس سنة 1978 كي يحرر كردستان من الاحتلال التركي ويقلل من مساحة تركيا، وإذ به يزيد من مساحة الاحتلالات التركيّة في سوريا والعراق، وربّما في إيران، لاحقاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في تركيا يبدو بعض الخيال السياسي والإعلامي أكثر خصوبة من خيال الشعراء والأدباء والفنانين الأتراك، فمثلاً يمكن أن يجد بعض الخيال ارتباطاً بين حزب “العمال الكردستاني” وأندونيسيا، الأرجنتين، الصومال أو الموزمبيق، وأن تلك الدول تقدّم الدعم السياسي واللوجستي والعسكري لزعيم حزب العمال عبدالله أوجلان، ولكن، ذلك الخيال، لا يتّجه شرقاً، ولا يرى أيّ احتمال لعلاقة ما، ربّما تربط الحزب بالنظام الإيراني! 

مناسبة هذا الكلام؛ الإشارة إلى نقاش دار بيني وبين صحافي تركي راهناً، إذ طرحت عليه بعض الأفكار: في تشرين الأول/  أكتوبر 1998، كادت تركيا تشنّ حرباً مدمّرة على نظام حافظ الأسد، بسبب إيواء الأخير أوجلان وعناصر حزب العمال في دمشق، على امتداد عقدين تقريباً (1979-1998). وبعد وساطة الرئيس المصري حسني مبارك، اضطر الأسد الأب إلى طرد أوجلان، والتوقيع على اتفاقية أضنة مع تركيا، بشروطها المذّلة والمهينة لدمشق. تلك الاتفاقيّة التي تنازل فيها النظام السوري عن إقليم الاسكندرونة (هاتاي) نهائيّاً للأتراك. 

تركيا تتهم واشنطن، بروكسيل، برلين، باريس وموسكو، بدعم “العمال الكردستاني”، على رغم أن الأخير مدرج على لائحة المنظمات الإرهابيّة في تلك الدول، ولا تلتفت أبداً باتجاه طهران، ولا توجّه لها عتباً بسيطاً خجولاً على دعمها الكبير والدؤوب لـ”الكردستاني” منذ عقود! 

لماذا؟ ما سرّ الصمت التركي على الدعم الإيراني للحزب الذي يرأسه حالياً جميل بايق بعد سجن أوجلان؟ لماذا اللسان التركي، يلهج بمطالبة أميركا وأوروبا والعالم وكوكب المريخ وزحل وعطارد…، بوقف دعم “الكردستاني” وينعقد لسان أنقرة، عند الحدود الإيرانيّة!؟ هناك سرّ ما، يجعلُ لسان تركيا معقوداً أمام إيران. ما هو؟! 

تدهورت علاقات طهران أكثر بحزب أوجلان، بعد الإعلان عن تأسيس فرع “العمال الكردستاني” داخل إيران، تحت اسم: “حزب الحياة الحرّة الكردستاني (PJAK)” سنة 2004، كحزب معارض للنظام الإيراني

أجابني الصحافي التركي: “حقّاً صحيح. لكن، لا أعرف السبب”. وحوّل إليّ سؤالي، وطالبني بالإجابة عنه. رفضتُ ذلك. واقترحت عليه طرح السؤال على الرأي العام التركي، وانتظار ردود الأفعال، التي ربّما تكون وخيمة. وربّما تكون بمستوى ردّ الدولة العميقة في تركيا على الصحافي الاستقصائي التركي أوور مومجو (Uğur Mumcu) الذي اغتيل في 24 كانون الثاني/ يناير 1993، بقنبلة وضعت تحت سيّارته، وتم ربط الاغتيال حينها بحقيقة أن مومجو كان بصدد نشر كتاب يتناول فيه نشأة حزب “العمال الكردستاني”، وعلاقة خفيّة مفترضة بين الاستخبارات التركيّة وعبدالله أوجلان.

قلتُ للصحافي التركي: هناك تحالف خفي وتاريخي بين الدولة العميقة في تركيا، ودولة “العمال الكردستاني” العميقة. دهش وقال: كيف ذلك؟ أجبته: تركيا التي نجحت في إقناع “الموساد” و”CIA” في ملاحقة أوجلان، من دمشق، إلى أثينا، فموسكو، واختطفته في نيروبي، لماذا هي عاجزة عن اعتقال وخطف جميل بايق، ودوران كالكان؟ هل لأنهما لم يسافرا إلى أوروبا؟ لا. هذان القيادان اللذان يديران الحزب حاليّاً، يتحرّكان في سوريا، العراق وإيران بمنتهى السهولة. هل أجهزة الاستخبارات التركيّة عاجزة عن متابعتهما؟ لماذا تحرّكات بايق وكالكان تشكلّ نقاط عمياء لتركيا؟! هل تعلم؛ أن دوران كالكان وجميل بايق، حتّى هذه اللحظة، ورغم وجودهما في الجبال على امتداد عقود، لم يصب أصبع لهما بخدش؟! ما تفسيرك لذلك؟! 

تلعثم الصحافي التركي، وسكتَ.

مع إيران

تعود علاقات طهران مع “العمال الكردستاني” إلى مطلع الثمانينات. وكان لمحمد قره سونغر (1957-1983)، أحد مؤسسي الحزب، الدور الأبرز في وضع اللبنات الأولى لتلك العلاقات. مع تطوّر علاقة “العمال الكردستاني” مع نظام الأسد، بخاصّة عقب الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وتمركز الحزب في معسكر البقاع اللبناني، كذلك تطوّرت علاقته مع النظام الإيراني الذي كان يخوض حربّاً مع العراق. تطوّرت تلك العلاقة إلى درجة أن وزير الخارجيّة الإيراني السابق؛ علي أكبر ولايتي، حين زار دمشق، منتصف التسعينات، التقى بأوجلان.

في أدبيّات الحزب، حاول أوجلان مراراً تصوير خروجه من سوريا على أنه مَن قرر ذلك، كي يجنّب سوريا ونظامها حرباً مدمّرة، وأنه لم يخرج منها في 10/10/1998 مكرهاً مطروداً. ولا أحد يسأل جميل بايق لماذا لا يخرج من الشمال السوري كي يجنّبه المزيد من الاحتلال التركي! هل لأن سلامة نظام الأسد الأب كانت أهمّ من سلامة الكرد ومدنهم وقراهم في سوريا؟! طبعاً، أنصار أوجلان مؤمنون تماماً أن كلام الزعيم هو زعيم الكلام الذي لا يدانيه الشكّ والظنّ، وأن أوجلان كان في إمكانه البقاء في سوريا، وأن الأسد الأب مع استفحال السرطان في جسده، وعدم انتهائهِ من إكمال تهيئة وريثه، كان سيدافع عن أوجلان، ويضحّي بنظامه من أجل سواد أعين زعيم “الكردستاني”! 

أثناء تواجده في العاصمة الإيطاليّة روما، أرسل أوجلان رسالة مطوّلة إلى الرئيس العراقي السابق وزعيم “الاتحاد الوطني الكردستاني”؛ جلال طالباني، في 15/12/1998، طالبه فيها بالتوسّط لدى إيران، وقال: “إننا نثمّن جميعاً علاقاتكم الشرق أوسطيّة، وبشكل خاص القائمة بينكم وإيران. وإذا فكّرت في العودة إلى الشرق الأوسط فسوف اختار مناطقكم. لذلك آمل منكم القيام بالترتيبات اللازمة منذ الآن في إيران وتحديد برنامج زمني ملائم من أجل ذلك” (عبدالله أوجلان. كتاب مسيرة روما. الطبعة الأولى، نيسان/ أبريل 2002. منشورات صوت كردستان. ص 242-244). 

إذاً، والحال تلك، أوجلان وهو موجود في روما، كانت عيناه على طهران، والبقاء في مناطق نفوذ “الاتحاد الوطني”، وليس في جبال قنديل، معقل قيادة حزبه! طلبَ أوجلان ذلك من طالباني، لأنه اختبر الروس الذين وجّه مجلس “دوما”، دعوة إليه، ثم خذلوه. وكذلك اختبر اليونانيين، الذين ربطتهم علاقات وطيدة معه ومع حزبه، وخذلوه وباعوه للأتراك. وبقيت إيران. إلاّ أن الأخيرة، أثناء اشتداد عداء تركيا ضد نظام حافظ الأسد في خريف 1998، لم تتدخّل، لإنقاذ الأسد الأب، أو لإنقاذ أوجلان، وبقيت متفرّجة، ليتدخّل مبارك، كما ذكرنا آنفاً. 

صحيح أن اتفاقيّة أضنة الأمنيّة بين دمشق وأنقرة أبرمت عام 1998، على زمن الأسد الأب، إلاّ أنها دخلت حيّز التطبيق والتنفيذ على زمن الأسد الابن، ووصول حزب “العدالة والتنمية” للسلطة. وقتذاك، إيران أيضاً ما عادت تنظر بعين الرضا إلى “العمال الكردستاني” لسبب بسيط ووجيه، أن أوجلان وحزبه أوقفا الكفاح المسلّح ضد تركيا عام 2000، وطرحا مشروعاً سلميّاً لحلّ القضيّة الكرديّة. والإيرانيون يهمّهم استمرار النيران مندلعة في تركيا، وتوقّفها يعني عدم جدوى النفخ فيها، عبر دعم طهران لـ”العمال الكردستاني”. تلك النيران التي كانت تستنزف تركيا طيلة الثمانينات والتسعينات لمصلحة طهران ونظام حافظ الأسد. 

تدهورت علاقات طهران أكثر بحزب أوجلان، بعد الإعلان عن تأسيس فرع “العمال الكردستاني” داخل إيران، تحت اسم: “حزب الحياة الحرّة الكردستاني (PJAK)” سنة 2004، كحزب معارض للنظام الإيراني، يطالب بالحقوق الكرديّة في ذلك البلد، طبقاً لطروحات وتصوّرات أوجلان لحلّ القضيّة الكرديّة في الشرق الأوسط. ووصلت تلك العلاقات بين طهران وحزب أوجلان إلى القطيعة، ما أسفر عن حدوث تصادم مسلّح، على فترات متباعدة، بلغت ذروتها مطلع 2011، حيث زادت المدفعيّة الإيرانيّة قصفها مناطق جبال قنديل، داخل الحدود العراقيّة. ولأنني كنتُ وقتذاك، مع “العمال الكردستاني”، وأعمل في قناته الفضائيّة (ROJ TV) التي كانت تبثّ برامجها من قرية “ديندرليو (Denderleeuw)” التي تبعد من بروكسيل مسافة 22 كيلومتراً تقريباً، وصلتنا تعليمات من المسؤول الإعلامي في الحزب؛ مصطفى قره سو، يطالبنا فيها بتحريض الكرد والسوريين على التظاهر ضد نظام الأسد، قال إأن “العمال الكردستاني” قرر دعم انتفاضات وثورات “الربيع العربي”. ونفّذنا التعليمات والأوامر حرفيّاً. شخصيّاً، كنتُ سعيداً بتلك اللحظة التاريخيّة التي هرمنا في انتظارها؛ لحظة توجّه “العمال الكردستاني” إلى مناهضة نظام الأسد، والوقوف إلى جانب مطالب الشعب الكردي والسوري. لكن، لم يدم الأمر قرابة شهرين. تغيّرت لهجة الخطاب الإعلامي للحزب مع ورود تصريحات زعيم الحزب، عبر محاميه، من سجن جزيرة إيمرالي، حيث يقيم منذ 1999.

إقرأوا أيضاً:

التصريحات – الأوامر

في 6/4/2011 صرّح أوجلان عبر محاميه قائلاً: “هناك أخبار بشأن لقاء الأسد مع العشائر الكردية في سوريا، بينما على الأسد أن يلتقي بالتنظيمات الكردية، فهناك “حزب الاتحاد الديموقراطي” (PYD)، وليس بالعشائر الكردية، فإذا أجرت سوريا والأسد إصلاحات ديموقراطية فإننا سندعمها، حيث يمكن الاعتراف بالحقوق الثقافية والإدارة الذاتية أي الإدارة الذاتية الديموقراطية ضمن هذه الإصلاحات، فمثلاًً يمكن تدوير البلديات، ويمكن فتح المجال أمام الأكراد ليديروا شؤونهم بأنفسهم، ويتم الاعتراف بهويتهم، فهم إن فعلوا ذلك سندعمهم، فسوريا دولة مهمة ويجب الانتباه إليها، فآل الأسد يعرفون نمط مقاربتي من القضية، فبهذا الشكل إن تم الاعتراف بحقوق الإدارة الذاتية الثقافية والإدارية فنحن أيضاً سندعمهم كما أن التنظيمات الكردية هناك ستساند سوريا”.

وفي 13/4/2011 صرّح أوجلان: “يقولون بأن القانون الذي يضمن حق المواطنة للكرد الذين لم يكونوا مواطنين في سوريا (لا يستخدم توصيف المجرّدين من الجنسيّة عام 1962) قد تمت الموافقة عليها، كما تم إخلاء سبيل بعض الوطنيين الكرد (أنصار وكوادر حزب الاتحاد الديمقراطي فقط) ومنهم 48 شخصاً اعتقلوا في نوروز العام الماضي. إنني أفهم الوضع، أظن أن سوريا حذرة نوعاً ما. ولأنها تحذر من المعارضة المتصاعدة ولهذا السبب تريد أن تبقي الكرد خارج ذلك، لذا فإن هذه الخطوة شبيهة بخطوات من هذا النوع، وهي تسعى لإقامة توازن في الوضع. هل أجرت لقاءات مع حزب الاتحاد الديموقراطي  PYD؟ هل تقوم PYD بدور الطليعة، هل تؤدي دورها؟ يجب أن يلتقي بشار الأسد مع PYD كممثل رسمي وسياسي وليس مع العشائر. يمكن لسوريا أن تتجاوز هذا الوضع من خلال البدء بمرحلة تحقيق التحول الديمقراطي. أذا فعلت ذلك فإننا أيضاً سوف نقدم الدعم لهذا التحوّل. يجب إجراء لقاء مع مسؤولي سوريا على قاعدة الإدارة الذاتية الديموقراطية التي اقترحناها لتركيا أيضاً. كما يجب الحديث معهم من أجل الحل والتفاهم. أذا قبلت سوريا هذه المطالب فسيتم إعطاء الدعم للأسد، مثل هذا الحل سوف يكون من أجل تحرير الشعب الكردي والشعب العربي أيضاً هناك. وإذا تحركت الدولة على العكس من ذلك وقامت بخطوات مؤقتة واتخذت منهجاً سياسياً مماطلاً فإن الشعب الكردي بقيادة PYD سوف تقوم في ذلك الوقت بالنضال إلى جانب المعارضة العربية على قاعدة الإدارة الذاتية الديموقراطية. يبدو بأن مرحلة الدمقرطة قد بدأت في سورية. يجب على سوريا أن تسير في مرحلة الدمقرطة هذه حتى النهاية”. هنا أوجلان، يقترح (يأمر) ويهدد أيضاً؛ إذا لم يستجب النظام، سنقف مع المعارضة. 

وفي 27/4/2011، أيضاً صرّح أوجلان وقال: “إن وضع الأسد كما قمت بتقييمه، لقد جرته أميركا إلى جانبها في البداية، ولكنه الآن في نقطة حرجة، إما أنه سيستسلم مثل زين العابدين أو سيفتح طريقاً للحل أو ستتم تصفيته، وفي هذه الحالة سيخسر كل شيء وستنهار عائلته أيضاً. على الأكراد في سوريا أن يتحركوا ضمن إطار الوحدة”. هنا، يتضح أن محامي أوجلان كانوا يضعونه في صورة ما يحصل من اتصالات بين حزبه والنظام السوري. وتطوّر الأحداث، أثبت عدم صواب تحليلات أوجلان، لجهة مصير بشّار الأسد. لذلك، طالب حزبه بالتنسيق مع باقي الأحزاب الكرديّة الأخرى. وهذا ما لم يفعله “العمال الكردستاني” حتّى هذه اللحظة. 

وصرّح أوجلان يوم 4/5/2011 بأن “الانتفاضات الاحتجاجية مستمرة في سوريا. كما أن منظمة الإخوان المسلمين أيضاً نادت للإنضمام إلى الاحتجاجات في تصريحها. منذ أكثر من أسبوع يتم مناقشة موضوع سوريا في أوروبا بشكل مستمر ويتضح أنه إذا لم يتم حل المسألة فإنهم يفكرون في القيام بعملية التدخل. هل ينضم الكرد ايضا الى الاحتجاجات، كيف؟ يمكن أن يكون هناك أرضية للمفاوضات، يجب أن تكون هناك علاقات على هذا المنحى، يجب الذهاب إليهم والتحدث معهم. عليهم أن يقولوا للأسد ما يلي: “إذا جاءت منظمة الإخوان المسلمين إلى السلطة فأنها سوف تقوم بالمذابح ضدنا (الكرد)، لهذا السبب فإننا سوف نبني وحدات دفاعنا الذاتي الشعبي. يمكن أن يتفاوضوا ويصلوا الى حل مع الأسد على أساس ديموقراطي. على الكرد أن يبنوا وحداتهم للدفاع الذاتي الشعبي. هناك خبر في الإعلام الألماني يشير إلى أن تركيا ستصرف الجهد من أجل عدم سقوط نظام الأسد، إذا سقط نظام الأسد فإن الكرد سوف يحصلون على الحكم الذاتي، كما أن حزب العمال الكردستاني سوف تقوى أكثر في هذا الجزء، كما أن تركيا تخاف من هذا الوضع، هذا ما ناقشوه. نعم هذا صحيح. كيف هي وضع الكرد من ناحية التنظيم هناك، هل يملكون قوة تنظيمية، هل هم متحدون؟ عليهم أن يتحركوا مع بعضهم وبشكل متحد. كيف هو وضع PYD، ماذا يفعلون؟ يجب أن ينظموا شعبنا هناك وبأقصى سرعة”.

حتّى قبل إطلاق تلك التصريحات الأوجلانيّة، وحين كانت حركة الاحتجاجات في مصر وليبيا ولم تصل إلى سوريا بعد، بدأ “العمال الكردستاني” يُدخل الأسلحة والمقاتلين إلى المناطق الكرديّة السوريّة. ومع تلك الموجات، أدخل الحزب قيادات فرعه السوري “الاتحاد الديمقراطي”؛ صالح مسلم، آلدار خليل، إلهام أحمد…الخ إلى سوريا، وبدأ يعيد انتشاره المسلّح خفيّةً، على أن تلك القوّة المسلّحة هي لحماية المنطقة من أيّ اعتداء ربّما يقوم به نظام الأسد. لكن اتضح لاحقاً، أنها لضبط المنطقة وتحييدها عن الانخراط التامّ في الثورة السوريّة. وحين نجح حزب أوجلان في إلغاء أي مظهر معارض لنظام الأسد؛ تظاهرات، احتجاجات، اعتصامات، قرر النظام تسليم المناطق الكرديّة لإدارة “العمال الكردستاني” في تموز/ يوليو 2012، تحت مسمّى “الإدارة الذاتيّة الديموقراطيّة” و”ثورة روجافا”، وتقطيع المنطقة إلى ثلاثة كانتونات؛ الجزيرة، كوباني، عفرين.

تركيا تتهم واشنطن، بروكسيل، برلين، باريس وموسكو، بدعم “العمال الكردستاني”، على رغم أن الأخير مدرج على لائحة المنظمات الإرهابيّة في تلك الدول، ولا تلتفت أبداً باتجاه طهران، ولا توجّه لها عتباً بسيطاً خجولاً على دعمها الكبير والدؤوب لـ”الكردستاني” منذ عقود! 

فكرة الكانتونات

في آب/ أغسطس 2011، نشر الإعلام التركي خبراً مفاده أن الاستخبارات الإيرانيّة اعتقلت القيادي البارز في “العمال الكردستاني”؛ مراد قره إيلان، الذي كان يقود الحزب وقتذاك، وإن الاعتقال تمّ في 13-14 من نفس الشهر. طبيعي أن ينفي “الكردستاني” الخبر، وطبيعي أن يتكتّم الإعلام الإيراني عليه أيضاً، ما هو ليس بالطبيعي ألاّ تتحرّك السلطات التركيّة فوراً، وتطالب إيران بتسليم قره إيلان! ذلك الخبر كان صحيحاً. وأثناء الاعتقال، تمّ إبرام تفاهم نهائي بين “العمال الكردستاني” والنظام الإيراني بخصوص سوريا، وأن طهران أقنعت نظام الأسد بتسلم إدارة مناطق شمال سوريا إلى الحزب، وجنوب سوريا إلى “حزب الله” اللبناني، والحرس الثوري والفصائل العراقيّة والأفغانيّة ستتولّى إدارة المناطق المتبقيّة. وعليه، استجاب النظام السوري لنداءات وتحذيرات أوجلان المذكور آنفاً، بضغط إيراني. لأن النظام التركي حتى الستة أشهر الأولى من حركة الاحتجاجات السوريّة، كان يراهن على نظام الأسد، لجهة القيام بإصلاحات، ربّما تسمح لجماعة الإخوان المسلمين المشاركة في السلطة، إلاّ أن الأسد رفض وتعنّت، حين تأكّد من دعم إيران المطلق. بخاصّة بعد رؤيته أن الأتراك بدأوا بفتح الأحضان للمعارضة السوريّة، عقب عقد مؤتمر انطاليا نهاية مايو 2011. وبقيّة القصّة معروفة. 

نجاح تجربة الكانتونات الأوجلانيّة لغاية 2017 في الشمال السوري، ودخول العامل الدولي (الأميركي– الأوروبي) المتمثّل بالتحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، دفع الأتراك إلى المزيد من القلق، والتحرّك العاجل واجتياح منطقة عفرين واحتلالها عام 2018، ثم احتلال منطقة رأس العين. من دون السهو عن الاستفزازات الفاقعة التي مارسها “الكردستاني” للأتراك. المهمّ بالنسبة لنظام الأسد أنه حافظ على نفسه، ولا تهمّه الأراضي التي خسرتها سوريا. 

نجاح تجربة الكانتونات في سوريا، دفع النظام الإيراني إلى وضعها على طاولة الاحتمالات في كردستان إيران أيضاً. وفي هذا السياق، وصلت طهران إلى تفاهم غير معلن مع “العمال الكردستاني”، مفاده؛ أنه في حال تعرّضت إيران إلى ضربات عسكريّة من أمريكا أو إسرائيل، وأدّى ذلك إلى قلاقل واضطرابات وحركة احتجاج جماهيريّة، فإن النظام الإيراني سيسلّم إدارة الملف الكردي الإيراني، والمناطق الكرديّة في إيران إلى “العمال الكردستاني”، عبر تقسيم تلك المناطق إلى كانتونات، تحت مسمّى إدارة ذاتيّة ديموقراطيّة كرديّة في إيران. وهذا السيناريو له حظ وافر من التحقق، لسببين:

الأول: في حركة الاحتجاجات التي شهدتها إيران عام 2009، ضد تزوير الانتخابات الرئاسيّة، دعت وزارة الدفاع الأمريكيّة رئيس حزب (PJAK) فرع “العمال الكردستاني” في إيران؛ عبدالرحمن حاجي أحمدي، إلى واشنطن، واقترحت عليه الانضمام إلى حركة الاحتجاج الإيرانيّة، مع تقديم أمريكا لهم الدعم بالمال والسلاح. كاد الرجل أن يوافق، لكن “العمال الكردستاني” وقيادته في جبال قنديل رفضت ذلك. وهذه سجّلها النظام الإيراني لـ”العمال الكردستاني” كنوع من الوفاء.

الثاني: نجاح تجربة كانتونات “روجافا” في ضبط الكرد السوريين وتحييدهم وإبعادهم من حركة الاحتجاجات بالقهر والعنف والتشويش والتشويه. 

السؤال هنا: إذا ما تحقق سيناريو الكانتونات الأوجلانيّة في كردستان إيران، هل سنجد الحشود العسكريّة التركيّة على الحدود الإيرانيّة؟ هل سنجد اجتياحاً عسكريّاً تركيّاً لمدن كرديّة إيرانيّة، كما جرت الحال في “عفرين” و”رأس العين” و”تل أبيض”؟

حاصل القول: عام 2023 ستطوي تركيا قرناً من السنوات على إعلانها كجمهوريّة، ومساحتها الجغرافيّة تزداد. والفضل في ذلك، سواء بشكل مباشر أو بغيره، لعبدالله أوجلان وحزبه العتيد، الذي تأسس سنة 1978 كي يحرر كردستان من الاحتلال التركي ويقلل من مساحة تركيا، وإذ به يزيد من مساحة الاحتلالات التركيّة في سوريا والعراق، وربّما في إيران، لاحقاً. الناظر إلى مشهد الصراع الكردي– التركي، وتلازم المصالح الخفيّة، يظنُّ أن هناك ائتلافاً استراتيجياً قويأ وعميقاً جدّاً بين الدولة العميقة في تركيا، والدولة العميقة في حزب “العمال الكردستاني”. هاتان الدولتان اللتان في ظاهرهما، تتصارعان منذ أربعة عقود، لكن حصاد أنقرة في تركيا وسوريا والعراق والمنطقة، أكبر بكثير مما حصده الكرد تحت لواء شعارات وخرافات وادعاءات “حزب العمال الكردستاني”.

إقرأوا أيضاً: