fbpx

سرقة عقارات المسيحيين في العراق:
استيلاء منظم بالتزوير وقوة السلاح

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

فيما كثر الحديث عن استباحة تنظيم “داعش” أراضي وعقارات تابعة للأقليات الدينية في الموصل وبعض المحافظات العراقية، إلا أن الانتهاكات التي بدأت منذ 2003 لا تزال مستمرة حتى اليوم ولا تقتصر على طرف دون الآخر كما يكشف هذا التحقيق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف من شبكة “أريج” وينشر بالتزامن مع صحيفة Kristeligt Dagblad ضمن شراكة مع مشروع “ميديا بريدج”

عقارات الحرف(ن)

أكثر من عام ونصف العام أمضتها بيرونيا إبراهيم أوديشو (67 سنة) تتنقل بين المحاكم والدوائر العقارية لاسترجاع منزل العائلة الكائن في بغداد، بعدما فوجئت ببيعه ثلاث مرات منذ عام 2012 بعد تزوير توقيعها وتواقيع إخوتها العشرة.

هاجرت بيرونيا، وهي عراقية مسيحية في سبعينات القرن الماضي، ثم التحق بها أفراد عائلتها في التسعينات، وتركوا مستأجراً في منزلهم الواقع في منطقة الأثوريين في مدينة الدورة بالعاصمة. عام 2019، عادت بيرونيا لزيارة قبر والديها، لتكتشف إن منزلهم بيع في 2012 بتزوير توقيعها وأخوتها العشرة، علماً أن أحدهم توفي قبل بيع المنزل لكنها وجدت توقيعه بين اسمائهم. 

لجأت بيرونيا لتوكيل محامٍ، كما راجعت بشكلٍ متكررٍ دوائر العقار والمحاكم، أملاً باستعادة منزل العائلة الذي يمثل آخر جذورهم المتبقية في العراق. 

تقول بيرونيا إن عشرات المسيحيين في منطقتها خسروا منازلهم بطرائق مشابهة، وتروي  كيف أُجبِرَ عمها على إخلاء منزله بعد مداهمته فجراً عام  2007 من دون أن يسمح له بأخذ أي غرض من البيت. آنذاك كان تنظيم “القاعدة” يسيطر على تلك المنطقة من بغداد، اقتحم مسلحون من أبناء المنطقة المنزل وخيروا العم بين الهجرة أو دفع الجزية أو إعلان إسلامه وهو ما اضطره للهرب إلى شمال العراق حيث توفي بحسرته.

لم ينسَ العراقيون بعد وسم حرف النون الذي رُسِمَ على جدران منازل المسيحيين في مناطق كثيرة لا سيما بغداد، في إشارة إلى وصفهم بالنصارى، ما يتيح قتلهم والاستحواذ على عقاراتهم من ملكيات فردية أو أوقاف دينية. 

وللمفارقة تزامنت أحدث عملية الاستيلاء على أحد العقارات مع الزيارة التاريخية لبابا روما في آذار/ مارس الماضي، إذ سجلت الكاميرات مقطع فيديو لآليات وجرافات تعمل من دون توقف في أرض تابعة لرهبانية بنات مريم، على الرغم من المخاطبات المرفوعة بعدم قانونية المساس بها.

استيلاء بسطوة المتنفذين والجماعات المسلحة 

في قلب بغداد وفي مدينة زيونة يقع منزل صلاح غزالة (59 سنة) وزوجته ديانا توماس (60 سنة)، اللذين بذلا كل ما يملكان لشراء قطعة الأرض وبنائها. وعام 2000 نتيجة الأوضاع المادية توقف صلاح عن إكمال المنزل في مراحله الأخيرة ووضع لحمايته حارساً مع عائلته مقابل راتب شهري.

هاجر صلاح وزوجته إلى سوريا ومنها إلى أميركا في 2007. بقي على تواصل مع الحارس للاطمئنان على المنزل حتى عام 2018 ليفاجأ بعد أسبوع من آخر مكالمة، بإبلاغ الحارس له أن البيت قد بيع بمكاتبة عقارية بوكالة من ديانا زوجته في محافظة أربيل، على رغم أنهما لم يزورا العراق منذ مغادرتها.

اتصل صلاح بكل معارفه محاولاً الوصول إلى دائرة العقار، وبعد البحث وجد أن متنفذاً في إحدى الميليشيات المسلحة استولى على الدار، راجع صلاح دائرة العقار لتحويل ملكيتها، لكنه خشي من ذكر الجهة المسلحة بعينها، إلا أن المنطقة التي يقع فيها العقار تخضع لسلطة الميليشيات الشيعية المعروفة بـ”المقاومة”، حصل معد التحقيق على الوثيقة التي تثبت التزوير، إضافة إلى كتاب حكومي حول اسم الشخص. 

وكانت الدائرة العقارية أوقفت المعاملة وحجزتها بعد الشكّ بالمرأة التي وقعت ورقة تحويل الملكية تحمل جواز سفر بريطاني وتدعى ديانا. 

أوكل صلاح محامياً لمتابعة القضية عام 2018 بعدما بلغه أن المستولي باشر بهدم المنزل وتحويله لمحلات تجارية، بعد شهر، اتصل المحامي بصلاح وأبلغه بتعرضه للضرب والتهديد وسرقة حقيبته، معتذراً عن إكمال القضية. لجأ الرجل بعدها إلى نواب مسيحيين ومتخصصين في دائرة الأوقاف المسيحية كما تواصل مع الأمانة العامة لمجلس الوزراء لكن دون جدوى. 

تملك صلاح اليأس وتدهورت حالته الصحية، وفضل الكف عن محاولات استرداد عقاره الذي يتجاوز ثمنه 700 ألف دولار. وحتى إعداد التحقيق تحول منزل صلاح إلى مبنى تجاري يضم شققاً سكنية ومحلات في قلب “زيونة” أغلى مناطق العاصمة بغداد. 

استيلاء حكومي 

في كركوك شمالاً، لا يختلف الحال كثيراً، وعلى رغم تبدّل الميليشيات المسيطرة بين مجموعات سنية مسلحة حتى 2017، ثم ميليشيات شيعية بعد ذلك إلا أن تقاسم النفوذ بقي على حاله. فقد تواصل معد التحقيق مع أسعد عزريا داوود الذي استولت على منزله جماعات مسلحة باعته بالتزوير. 

لكن خوف عزريا المقيم في أميركا اليوم، منعه من الذهاب إلى كركوك غير المستقرة أمنياً، ما دفعه إلى توكيل محام لاستعادة المنزل. بعد شهر واحد أبلغ المحامي عزريا أنه تعرض للتهديد واعتذر عن المضي في إكمال دعوى المطالبة باستعادة المنزل.

تتنوع عمليات وطرق الاستيلاء على عقارات المسيحيين في العراق كما بيّن النائب في البرلمان العراقي عن المكون المسيحي، يونادم كنا، بالقول إنها “كثيرة ومتنوعة، فمنها عبر الاحتيال والتزوير والاستيلاء بالقوة”، وإحدى الطرق الغريبة التي عرفها مؤخراً تمّت عبر رفع بائع حلويات متجول في إحدى المناطق، دعوى ضد مواطن مسيحي مهاجر يمتلك بيتاً في منطقته، ادعى فيها مع شهودٍ أنه أقرض صاحب الدار مبلغاً مالياً  قدره 600 مليون دينار عراقي (نحو 500 ألف دولار)، مطالباً بتحويل ملكية الدار له تعويضاً عن المبلغ، وكاد الأمر يتم لولا تحركه مع جهات مسيحية.

ولفت إلى أن “هناك عمليات احتيال رافقت عمليات التحويل عبر الاتصال فعلاً بصاحب الدار وإيهامه بنية شراء الدار والسفر إليه أو التواصل مع وكيله وتوقيع عقد مبدئي دون دفع الأموال ثم تزوير العقد وتحويل ملكية الدار”.

 عقوبات التزوير في القانون العراقي 

يقول الخبير القانوني علي التميمي، إن القانون العراقي صريح في قضايا التزوير إذا ما ثبت وفق المستندات والشهود والوثائق حيث تصل العقوبة بحسب المادة 289/ 298 من قانون العقوبات العراقي للسجن 15 عاماً مع القبض على كل المتهمين بالقضية سواء كان فاعلاً أصلياً أو شريكاً، ثم تحال القضية إلى محكمة الجنايات، ويرفع المتضرر دعوى مدنية أخرى لمحكمة البداءة للمطالبة بأصل العقار والحصول على التعويض من المدعى عليهم.

قدمت الحالات السابقة أمثلة قليلة وبسيطة لانتهاكات قامت بها جماعات مسلحة، عن طريق التزوير، أمّا الجهات الحكومية فقد أشعرت المسيحي كأنه مواطن مغلوب على أمره ولا يحميه القانون. وحاولنا الحصول على إحصاء رسمي لعدد العقارات التي تم الاستيلاء عليها بعد 2003 لكننا لم نوفق نتيجة الخوف والملاحقة. لكن النائب في البرلمان يونادم كنا أحالنا إلى إحصاء صادر عن قيادة عمليات بغداد أشار إلى 36 ألف منزل مسلوب من المسيحيين والمسلمين (سنة وشيعة)، لافتاً إلى أن عدد منازل المسيحيين تحديداً، التي تم الاستيلاء عليها، لا يمكن إحصاؤها، على رغم استمرار الظاهرة حتى اليوم وعلى مرأى ومسمع من الجميع.

وبحسب رئيس أساقفة أبرشية أربيل للكلدان المطران بشار وردة فإن العدد يزيد عن 25 الفاً في عموم مناطق العراق مع العجز على اعتماد إحصائية، إذ أنها  مسؤولية الدولة، التي “تلجأ دائماً إلى تشكيل لجان لتسويف الأمر”. ويلفت المطران إلى مغادرة نحو مليون مسيحي العراق، من دون رجعة خلال السنوات الماضية حيث لم يبق اليوم أكثر من 400 ألف مسيحي من أصل مليون ونصف المليون كانوا يعيشون في العراق قبل 2003.

في المقابل وبحسب أرقام غير رسمية يملكها النائب السابق جوزيف صليوا تمَّ الاستيلاء على أكثر من 60 ألف عقار في جميع المحافظات عدا إقليم كردستان، كثير منها في محافظات الوسط والجنوب التي لم يدخلها “داعش”.

استمرار الظاهرة واللجان الموقتة 

على رغم اعتراف الحكومة لسنوات سابقة بوجود ظاهرة التلاعب بأملاك المسيحيين، إلا أن تحركاتها كانت محدودة جداً كما تفاقمت الظاهرة مع دخول “داعش” وكثر بيع عقارات المسيحيين. تحرك بعدها القضاء ووزارة العدل، واصدروا قراراً يشترط وجود ممثل من ديوان الوقف أو النواب المسيحيين في البرلمان عند بيع هذه العقارات، لكن الظاهرة لم تتوقف.

النائب السابق صليوا، يشير إلى أن الحكومة وضعت محددات على بيع عقارات المسيحيين، واشترطت موافقة الجهات الدينية، للحد من محاولات الضغط على الأفراد وإكراههم على بيع ممتلكاتهم، لكن ما يحصل هو ذات الجهات الدينية، توافق على بيع العقارات وحتى الكنائس، ما يجعل الجهات الحكومية عاجزة عن فعل شيء.

ويؤكد النائب الحالي يونادم كنا أن الظاهرة مستمرة حتى اليوم، على رغم محاولات الحد منها، إثر التحركات التي قادتها الجهات المسيحية وأدت إلى إصدار القرارات وتشكيل اللجان الحكومية وحتى من قبل الجهات السياسية، واستشهد باللجنة التي شكلها التيار الصدري العام الماضي، وهو تيار سياسي شيعي يقوده مقتدى الصدر، ويمتلك تمثيلاً نيابياً كبيراً، قال إن لجنته أعادت أكثر من 60 عقاراً إلى أصحابها. 

كلام كنا توافق مع إعلان مجلس القضاء الأعلى على موقعه الرسمي في بداية عام 2021، أي قبل زيارة البابا بشهر واحد، إصدار أحكام بالسجن لسبع وست سنوات على اثنين من أفراد عصابة قامت بالاحتيال على عشرات المسيحيين من المهاجرين عبر السفر إليهم وادعائهم نيّة شراء منازلهم، وتوقيع وكالات لهم.

كنائس للبيع أو الاستثمار 

ليست عقارات الأفراد هي ما تم الاستيلاء عليه فحسب. فحتى كنائسهم وأديرتهم ورهبانياتهم، بيع بعضها وعرض البعض الآخر للاستيلاء على مرأى من المؤسسات الحكومية المسؤولة عن رعاية مصالحهم.

ففيما تجهت أنظار العالم  صوب وصول بابا الفاتيكان للعراق بداية هذا العام في زيارة وصفت بالتاريخية، لإحلال السلام واحترام الأديان ودعوة أبناء العراق من المسيحيين للعودة الى أرض الوطن، كانت الآليات والجرافات مستمرة بالعمل على تجريف أرض العقار المرقم 35/22 راغبة خاتون والعائد لرهبانية بنات مريم الكلدانيات في منطقة الأعظمية وسط العاصمة بغداد بعد بيعها كقطع أراض سكنية. وكان العقار يضم قبل هدمه، داراً للأيتام وكنيسة صغيرة للقاطنين في الدار. 

استيلاء باسم القانون 

الصراع على ملكية أرض عقار الرهبانية استمر نحو 5 سنوات. وفقاً للوثائق الرسمية والمخاطبات التي حصلنا عليها من عام 2016، إذ تعود ملكية أرض العقار لرهبانية بنات مريم الكلدانية التابعة للرهبنة اليسوعية من الطائفة اللاتينية.

تظهر وثيقة تحصلنا عليها مطلع عام 2016 إرسال رئيس الطائفة اللاتينية في العراق، المطران جان سليمان، كتاباً الى ديوان الأوقاف المسيحية والأيزيدية والصابئة المندائية في العراق يطالب بالتحرك السريع لإيقاف بيع عقار الأعظمية وعدم التصرف به، مرفقاً بنسخة من سند الملكية يظهر ملكيته لجمعية الصداقة العراقية- الأميركية العلمية في بغداد التابعة للطائفة.

وفي تموز/ يوليو من العام نفسه، أرسل ديوان الأوقاف كتاباً لدائرة التسجيل العقاري في مدينة الأعظمية التابعة لوزارة العدل مطالباً إياها بعدم قانونية التصرف بأرض العقار وكتاباً آخر لهيئة الضرائب يطالب بمنع ترويج معاملة بيع العقار أو التصرف به موقعة بإمضاء رئيس الديوان حينها.

بعد خمسة أشهر عاد الديوان ذاتها ليرسل كتاباً الى الدائرة ذاتها، معلناً سماحه بإجراء عملية الترويج لكن الدائرة القانونية في دائرة التسجيل العقاري وأمانة بغداد رفضت ترويج معاملة البيع نظراً إلى عائدية الرهبانية ومكانتها.

وبعد خمس سنوات من المخاطبات الرسمية، سمحت دائرة العقارات في وزارة العدل ببيع العقار وتهديم أرضه وتحويله إلى أراض سكنية بيعت لمواطنين، ليتم الشروع بالبناء.

حكاية الرهبانية… التأسيس والاستيلاء مراراً 

عملية البيع والشراء المتعلقة بأملاك المسيحيين، وبخاصة الأوقاف الدينية منها، معقدة جداً وتحتاج إلى لجان ودراسات جدوى معقدة قبل البيع والترميم شريطة الاستبدال بمكان آخر، كما يبين المطران بشار متي والذي كان رئيس كنيسة الحكمة الإلهية المجاورة للرهبانية لعام كامل في 1995 وتابع حيثيات القضية.

ويقول المطران بشار وردة  إن “أرض الرهبانية التي بنيت إلى جانب كنيسة الوحدة  وكلية بغداد على يد جمعية الآباء اليسوعيين، تعرضت للاستيلاء والمصادرة والتأميم من قبل الحكومة لمرات عدة منذ تأسيسها بعد عام 1932، من قبل جمعية الآباء اليسوعيين التي بنتها، الى جان وبعدها مرت بتحولات ملكية عدة، كان آخرها الصراع على بيعها بين الرهبانية وجمعية الصداقة”، مبيناً أن “الوقف أرسل كتاب الموافقة على ترويج البيع في النهاية بعد الاتفاق على منح أموال للجمعية مقابل تنازلها، على رغم أن قانون إدارة الوقف لا ينص على أحقيتها في التدخل بالبيع ومنح الموافقة لأن قانون الوقف لم يتح له ذلك”.

في المقابل، تقول هيئة التراث الحكومية إن “الكنائس تخضع لقانون الآثار والتراث رقم 55 لسنة 2002 والذي يمنع منعاً باتاً تغيير الصفة الوظيفية للكنائس والأبنية التراثية أو تغيير الغرض الذي أنشئت من أجله، إلا بموافقة السلطة التراثية وحصراً الوزير ويعتبره جرما يحاسب عليه القانون بالحبس وإعادة البناء إلى ما كان عليه في الأصل، حتى وإن ارتأت الجهات المالكة البيع، يجب الحفاظ على الكنيسة والمبنى الأثري والتراثي وعدم التجاوز أو الإضافة عليها. لكن ما وثقه معد التحقيق يظهر عكس ذلك تماماً.

كنائس للاستثمار 

وليس بعيداً من رهبانية الأعظمية، في قلب بغداد وعلى بعد أمتار من مبنى الحكومة العراقية تقع كنيسة السريان الكاثوليك في سوق الشورجة أكبر أسواق العراق. الكنيسة هي واحدة من أقدم الكنائس في العراق يعود تأسيسها إلى العام 1834، لم تسلم هي الأخرى من عمليات الاستثمار والبيع، إذ تحول محيط الكنيسة إلى محلات تجارية بعد استثماره ولم يتبق من الكنيسة سوى باطنها المخصص للعبادة أما محيطها فتحول إلى واجهة تجارية. 

يبحث معد التحقيق منذ سنوات عدة، موضوع تلك الكنائس. وكان قد زار رئيس هيئة التراث ووكيل وزارة الثقافة لشؤون الاثار والتراث قيس رشيد حينها عام 2017 بعد الاستثمار ليبلغه بأن الاستثمار منح وفق إجازة من قبل الوقف السني، على اعتبار أن محيط الكنيسة يعود للوقف السني وليس المسيحي. ونظرياً منعت الهيئة هذا الأمر لكن رشيد قال “الوقف السني ارتكب خطأ لا يغتفر فقد أعطى إجازات استثمار لواجهات كنائس ولم يراع مكانتها الدينية والأثرية، وهذه ليست المخالفة الوحيدة التي تم تشخيصها، نحن حددنا حالات أخرى ورفعنا دعاوى في المحاكم حول الموضوع، لكن المشكلة أن الجهة التي منحت الترخيص لاستثمار كنيسة الشورجة هي جهة حكومية مثلنا”.

الوكيل الأسبق، أشار في اللقاء السابق إلى أن “هناك أكثر من 3 آلاف مبنى أثري وتراثي تم الاستيلاء عليها بعد عام 2003، البعض منها كنائس ومبان دينية وتراثية تعود لمختلف الديانات”، منوهاً إلى أن “من يتحمل مسؤولية فقدان هذه المباني هي جهات حكومية وأصحاب تلك المباني”.

خارطة الكنائس

لم تكن هاتان الكنيستان في بغداد، الوحيدتين اللتين تم بيعهما أو استثمار أجزاء منهما، إذ يقول النائب السابق (مسيحي) جوزيف صليوا، إن “هناك أربع كنائس أخرى تم بيعها أو استثمار وبيع مساحات أراض عائدة لها، اثنتان منها في البصرة وواحدة في بابل وأخرى في الناصرية”.

صليوا استعاد حادثة شهدتها الأيام الأخيرة التي تلت زيارة البابا فرنسيس للعراق، فقد استدعى مركز شرطة الصالحية في بغداد البطريرك طائفة الكلدان في العراق والعالم لويس ساكو، الذي رافق البابا طيلة زيارته، بقضية موافقته على بيع أرض كنيسة في البصرة ثم العدول عن الأمر لعدم الحصول على الموافقات الرسمية، صاحب الشكوى كان المستثمر الذي منحه ساكو الموافقة على بيع أرض الكنيسة، وهو مهدي ناجي.

ووفق وثيقة الاستدعاء التي تصف ساكو بـ”المتهم”، في حال عدم حضوره فسيتم إصدار أوامر القبض بحقه خلال ثلاثة أيام. رد إعلام البطريركية ببيان أن الأمر لا صحة له، وأن الأرض الممنوحة لا تعود للكنيسة والوكالة التي منحت للمستثمر هي للمراجعات، لا البيع، وأن المستثمر مدفوع من جهة سياسية، وأغلق مجلس القضاء الأعلى الدعوة بعد الطعن من محامي البطريرك.

أما النائب يونادم كنا عند سؤاله عن عدد الكنائس التي بيعت أو استثمرت، فنفى الأمر، وقال إن الكنيسة الوحيدة التي تم السماح باستثمار أجزاء منها مع المحافظة على هويتها، هي كنيسة مريم العذراء في باب المعظم، مبدياً ملاحظاته على الاستثمار، مشيراً في الوقت نفسه إلى أنه أمر قانوني.

وبين تصريحات صليوا وتصريحات كنا، هناك 6 كنائس بيعت أراضيها أو استثمرت أجزاء منها.

اختلافات قانونية 

تتنوع القوانين المتعلقة بطبيعة العقارات الدينية وأحقية توليها والتصرف بها وهذا التنوع يزيد التعقيد. فالجهات الدينية المسيحية ترد على أحقية بيع العقارات بأن الدستور العراقي وفقاً للمادة 43 الفقرة “ب” ينص على أن الوقف هو المسؤول عن “إدارة الأوقاف وشؤونها ومؤسساتها الدينية بعد ذلك تنظيم ذلك بقانون خاص بالوقف”، كما يقول المطران بشار وردة والذي أشار إلى أن الفقرة الثامنة في المادة الأولى من قانون إدارة الأوقاف العراقي لسنة 1966، حددت الأوقاف الإسلامية ولم تشر إلى بقية الديانات وهو ما يعطي المسيحيين حرية التصرف بها.

تواصل معد التحقيق مع الهيئة العامة للآثار والتراث للتعليق على ما توصل إليه، فكان الرد بأن الكنائس تخضع لقانون الآثار والتراث رقم 55 لسنة 2002، مؤكدة رفعها دعاوى قضائية ضد أمانة بغداد وجهات أخرى لتجاوزات بهذا الخصوص، كما أشارت إلى أن القانون يبيح البيع والشراء من المالكين، شريطة الحفاظ عليها وعدم التجاوز أو الإضافة عليها.

اختلاف من الداخل 

يتهم النائب السابق جوزيف صليوا جهات دينية وجهات داخل الوقف بالتواطؤ في بيع الكنائس وهدمها في العراق، إذ نشر بياناً حول أرض الرهبانية واستثمار محيط كنيسة الباب الشرقي في بغداد.

كما انتقد صليوا، صمت الجهات الحكومية، إذ بيعت كنائس في مناطق متعددة من بغداد بتسهيل من شخصيات في الوقف المسيحي وبطريركية الكلدان الكاثوليك، كما أن اتفاقيات “غير مفهومة” تعقد بين الوقف المسيحي، وشخصيات سياسية مسيحية، لم يسمّها، أفضت إلى بيع عدد كبير من الكنائس والعقارات ومنها أرض الرهبانية. 

ورداً على اتهامات صليوا، نفت بطريركية بابل للكلدان (الكاثوليكية) في العراق عبر موقعها الرسمي، عمليات بيع كنائس في العراق لاستثمارها في أعمال تجارية، مؤكّدة حرصها على حماية الكنائس القديمة والجديدة، وأنها مستمرة في صيانتها. 

أما عضو مجلس النواب عن المكون المسيحي يونادم كنا، فقد رأى أن ما يحدث أمر طبيعي، وأن البيع والاستثمار يتمان بموافقة المالكين

ووفق السياقات القانونية، وعلى رغم موافقته على الأمر، لكنه لا ينفي بعض الملاحظات حول الموضوع وآلياته.

إقرأوا أيضاً:

“الأمطار” أزالت منزل ساسون حزقيل

لم تكن كنائس المسيحيين وعقاراتهم  هي المستهدف الوحيد من عقارات الأقليات، فليس بعيداً عن كنيسة الشورجة يقع منزل ساسون حزقيل أول وزير مالية عراقي بين 1921 و1925 والذي كان معروفاً بساسون أفندي. للمنزل مكانة دينية خاصة لدى الطائفة اليهودية التي تم تهجير معظم أبنائها من العراق في أربعينات القرن الماضي وخمسيناته. فالمنزل يمثل مبنى تراثياً وأيضاً مبكى للطائفة ويشاع أنه مدفن كما تظهر صور أرشيفية حصرية حصل عليها معد التحقيق الذي تابع ملف قضية المنزل منذ أربع سنوات، عندما صاح أبناء منطقة شارع الرشيد على ساحة فارغة كانت بالأمس منزلاً تراثياً ودينياً يهودياً من دون عِلم الدولة.

التقى معد التحقيق بمدير دائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة والسياحة والآثار شفيق المهدي وأجرى لقاء حصرياً معه (توفي المهدي بعدها بعامين)، دافع فيه عن مكانة هذا المنزل. وحاول المهدي كثيراً الوقوف بوجه استثماره، لكن محاولاته لم تفلح فقد منحت أمانة بغداد أرض المنزل إجازة استثمار للمقاول حسين القريشي، كما يظهر كتاب صادر من الأمانة بتوقيع أمينها نعيم عبعوب إلى هيئة الاستثمار ورئيسها شاكر الزاملي، يؤكد تسليم الأرض. وعلى رغم حصولنا على وثائق حصرية صادرة من مديرية شرطة حماية الآثار والتراث ومن مدير دائرة التراث وقسم المسح التراثي في وزارة الثقافة والسياحة والاثار والتراث والقسم القانوني في الوزارة وكذلك مكتب المفتش العام، تؤكد عدم قانونية التلاعب بالعقار المعروف 16-17 سبع ابكار، إلا أن المستثمر والأمانة مضيا قدماً في محو أي أثر أو دليل أثري للدار للهروب من الملاحقة القانونية، كما أشار المهدي إلى أنه “من المخجل أن يحاولوا الضحك علينا وعلى عقول العراقيين. كيف للأمطار أن تزيل منزلاً كاملاً بأنقاضه وأساساته وحديده؟ إنهم يعتدون على قدسية كل الأديان في وضح النهار بعدما سال لعابهم على موقعه التجاري في وسط شارع الرشيد قبالة نهر دجلة”. 

وكانت أمانة بغداد في حينها بررت أن المنزل حول للاستثمار منذ ثمانينات القرن الماضي خلال حكم نظام صدام حسين وأن المنزل مهدم من قبل وليس مكاناً تراثياً.

أحيطت الدار بسياج خاص ومنع الدخول إليه حتى اليوم، على رغم صدور حكم غيابي يقضي بحبس أمين العاصمة السابق لسبع سنوات على خلفية قضايا فساد أخرى، والقبض على رئيس هيئة الاستثمار شاكر الزاملي وإيداعه السجن في بداية هذا العام بتهم تخص الفساد.

حق الرد والنفي

تواصل معد التحقيق مع وزارة العدل العراقية للحصول على ردها في كل ما ورد عبر بريدها الإلكتروني الرسمي ورقم الهاتف الخاص بالمتحدث الرسمي باسمها أحمد لعيبي المخول، الوحيد في الوزارة المخول بالتصريح، لكن الوزارة امتنعت عن ذلك. وأرسلت “اريج” كتاباً بالبريد المضمون للحصول على إجابات حول هذه المسألة، إلا أن الوزارة رفضت استلامه.

 أما ديوان الوقف المسيحي فوافق على الرد، نافياً وقوع أي عملية بيع للكنائس، موضحاً أن “تصرفات المتولي كانت على أوقاف لا تحمل صفة كنيسة وبمراقبة دقيقة لعملية استبدالها وفق القوانين السارية في العراق”. 

وأوضح ان الديوان يعتمد في عمله على “قوانين” تخوله التصرف، منها قانون رعاية الأوقاف رقم 64 لسنة 1966 ونظام المتولين رقم 46 لسنة 1970 وقانون الديوان رقم 58 لسنة 2012 وخصوصاً المادة 18 التي تنص على أن “الديوان يحل محل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية المنحلة في ما يتعلق بالأوقاف والأموال”. وعن بيع أرض الرهبانية يرد “بأنها مؤسسة دينية ولم يتم بيعها، بل بيعت أوقاف عائدة لها وأن الممانعات الصادرة من “اللاتينية” كانت لأسباب داخلية تتعلق بتحديد المتولي المسؤول عن إعطاء الموافقات”. 

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.