fbpx

“الشرّاقة” : ما قِيلَ وما لم يُقَل
عن رعب السجون السورية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

خوض تجربة الاعتقال لها طعم مختلف، طعم لا يحسه إلا من خبره، فمهما حاولت الكلمات أن تعبر، فإنها لن تعكس إلا مقدارا بسيطاً من الألم والعذابات التي عاني منها السجناء والمعتقلون. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم تكتب الكاتبة السورية سعاد قطناني في كتابها  “الشراقة” إلا غيض من فيض، غيض من وجع سمعته من سجناء سوريين، عاينوا الموت وخبروه في معتقلات الأسد، فكان نصيبها أن تخبر السجن، وتعاين الألم، وترى الرعب الصامت في الأحداق وتسمع حشرجات الأموات… وبيد مرتجفة تجعل من حكاياهم كتابا.

عليك أن تتسلح بالكثير من الجَلَد حينما تقرر قراءة هذا الكتاب  فقد يكون  استنطاقاً جديداً لما رواه مصطفى خليفة في “القوقعة” أو استكمالاً لسردية محمد برو في “ناج من المقصلة”…. إنه تجربة جديدة في السرد الشفوي لتاريخ المقتلة السورية.  سرد يرويه سوريون عاديون، أصبحوا استثنائيين بعد أن حالفهم الحظ  ليرووا سردية الضحية، ويفضحوا ممارسات الجلاد. 

تقف سعاد في “الشرّاقة” في مشهد غرائبي، تحكي  الوجع من خلال حركات وايماءات وكلمات مفتاحية  يصعب نقلها  عبر نص  مكتوب، فكيف لها أن تصف إيماءة من يد سجين لحظة هوى في بئر الموت، أو زفرة مقهور، أو تنهيدة موجوع، أو دمعة حاولت الاختباء طويلاً ولم تفلح، أو ضحكة ساخرة من الموت الذي أصبح ظل سجين طليق، لم يغادر السجنُ روحه؟

تروي فدوى محمود قصة اعتقالها، تسرد تجربتها في العمل السياسي كمعارضة لنظام الأسد الأب، وهي الأم لطفلين، وهي التي عاينت عن قرب توحش النظام الأمني، وتحويله سوريا إلى اللامكان السوري، إلى اللاوطن، إلى اللامواطن، وهي فوق هذا وذاك زوجة المعتقل المغيب عبد العزيز الخير. 

أيوجد بشاعة أكثر من بشاعة الأخ حينما يوّجه صفعة لأخته، ويهّم باعتقالها؟ لم يتكفِ النظام بتمزيق النسيج المجتمعي بل مزّق الروابط الاجتماعية في العائلة الواحدة أيضا.

ولكأن لسان فدوى ينطق بلسان السوريين الساعين إلى الحرية، الحرية التي فشلوا في الحصول عليها، ولم تتوقف مساعيهم إليها. تقول مخاطبة ابنها ماهر المغيب: “ابني ماهر، ابقَ قوياً كما عرفتك، ابقَ قوياً كي أراك ونرى بلادنا بلا ظلم أو سجون أو استبداد، أنا واثقة أن لديك من الشجاعة ما يكفي كي تنتصر وننتصر، عد قريباً…”(ص34) أو حين تخاطب رفيق دربها عبد العزيز الخير: “خسارة أن يغيب هذا الضمير وهذا الصوت ونحن في أمس الحاجة إليه”. (ص35)

أما باسل هيلم، المواطن البسيط، العادي الساعي وراء رزقه، فيدفع ثمن تلبيته لهتاف للحرية والكرامة، رحلة تعذيب وإذلال مريرة عصيّة على التصديق لشدة بشاعتها، يقوم بها سوريون يعيشون بيننا.

رياض أولر، مواطن تركي، اعتقل في سورية في العشرين من أيار/مايو 1996 بعدة تهم ملفقة، وبقي أحد وعشرين سنة في المعتقلات السورية، ، ومازال بعد عقدين من الزمن يعيش  كابوس الاعتقال، يضحك بين الحين والآخر بسخرية مريرة، يفتش في ثنايا الجرح السوري، يكتشف أن السوريين متساوون في الظلم أمام الجلاد، وأن سجانه ليس الشعب السوري، بل النظام السوري. يروي حكايا أمكنة السجن، ولربما كل مكان يروي حكاية، ليست بالضرورة حكايته، بل حكاية المنسيين خلف القضبان، أو الذين قضوا تحت التعذيب.

في حوارها مع الكاتب مالك داغستاني، صاحب كتاب “دوار الحرية” تسلك قطناني مسارا آخرا تحاول من خلاله قول ما لم يبح الرجل به، ما بقي ساكتاً عنه، ما عجز قلمه عن سرده.

 في السردية المحكية يبوح مالك بأدق التفاصيل عن كيفية اعتقاله، وعن سذاجة اعتقاده بأنه لن يُعتقل لأكثر من خمس دقائق كونه انفصل عن تنظيم حزب العمل الشيوعي في سورية، بيد أن حسابات البيدر لم تتطابق مع حسابات الحقل، وامتدت الدقائق الخمس لتصبح ثماني سنوات وخمسة أشهر وخمسة أيام.

 إن تتابع السنوات والأشهر والأيام ليس أمرا بديهيا لسجين سياسي، بل هو بمثابة انجيل المعتقل، يحفر بذاكرته تاريخ اعتقاله، ويحسب عدد الأيام، والأشهر، والسنوات التي مرت، وعدد نبضات القلب…ويصبح الحساب هو طريقة للتواصل مع ذاته الداخلية، ولربما أحصى أيضا عدد الضربات التي تلقاها جسده الهش. تفيض الذاكرة المخبأة في ثنايا الروح، فتستحضر الوقائع والتفاصيل و الأحداث، وأنّى لسجين أن يغادره السجن، حتى لو أصبح طليقا. وهو الذي كتب “دوار الحرية” في السجن، واستطاع أن يهّرب ما كتبه على ورق لف التبغ، ليصنع منه كتاباً ينقل من خلاله سرديته، وسردية من غيبوا وراء القضبان. 

بيد أن محاورة الكاتبة سعاد قطناني لمؤلف كتاب “ناج من المقصلة” محمد برو، كان لها وقع خاص، إذ أعاد برو سرد روايته المؤلمة والموجعة إلى حد الموت…أجزم أن لا أحد يستطيع قراءة” ناج من المقصلة” دون أن تترك في روحه جروحاً لن تندمل، فما بالنا بصاحب التجربة ذاته، وهو يستعيد لحظات اعتقاله من فراشه حيث يتوقف الزمن،  وفي لحظة ينتقل من عالم إلى آخر، ليس من عالم الحرية إلى عالم السجن، لأن كل السوريين كانوا ومازالوا في سجن كبير.

إقرأوا أيضاً:

بيد أن خوض تجربة الاعتقال لها طعم مختلف، طعم لا يحسه إلا من خبره، فمهما حاولت الكلمات أن تعبر، فإنها لن تعكس إلا مقدارا بسيطاً من الألم والعذابات التي عاني منها السجناء والمعتقلون. 

من يستطيع أن يتخيل هول الرعب في الكرسي الألماني؟ من يستيطع أن يتخيل حجم الألم الذي تسببه الصعقات الكهربائية؟ من يستيطع أن يشم رائحة الموت إلا هؤلاء الناجون من الموت، نجوا منه لكنه مازال يسكن روحهم. لا يمكن لنا أن نتخيل موتاً أكثر من الموت، كما قال برو خلال وصفه لسجن تدمر. 

رزان محمد حنطاية، الأم لثلاثة أطفال، صاحبة شعار “الموت ولا المذلة” تعتقل في لحظة صعبة بوجود ابنتها، وتبدأ حكاية وجع سوري له مذاق العلقم. أحاول أن أتخيل وجه الكاتبة سعاد قطناني وهي تستمع إلى متحدثيها، أحاول فقط أن أتخيل مشاعرها، أحاول فقط أن أفصل ما بين كونها الصحفية والكاتبة، وما بين سعاد  الانسانة التي تذوب ألماً ، وهي تنبش في ذاكرتهم وتنكأ  جراحهم. كيف لقلبها أن يتحمل سماع رزان وهي تروي قصة اعتقالها في زنزانة منفردة مع جثة لمدة ثلاثة أيام؟

مصطفى خليفة، يحاول أن يقول ما لم يقله في “القوقعة”، وتحاول سعاد قطناني أن تبحث خارج النص المكتوب في لحظة اعتقاله وزوجه الحامل وفي تفاصيل الأيام الأولى للاعتقال، بعد أن تم ترحيله من فرع تحقيق إلى آخر، وصولا إلى أم السجون السورية وأقساها وأشدها وطأة: تدمر. هناك حيث يتوقف الزمن بمجرد أن يدخل السجناء ردهة السجن، وبعد أن يتم استقبالهم الجهنمي في “التشريفة”. يتحدث خليفة عن التضامن بين السجناء، تضامن لا مثيل له، تضامن المقهورين مع بعضهم الآخر، تضامن يجعل من الأشداء فدائيين يتطوعون لجلب الطعام، بعد أن ينالوا نصيبهم من التعذيب والضرب.

التقت الكاتبة سعاد مع نظمي محمد، السوري الكردي، أو الكردي السوري، فلا فرق، يكفي أنه يحمل مورثة الكرد في عروقه لتكون التهمة جاهزة ضده. يروي نظمي أساليب قذرة استخدمها معه الأمن السوري، من ضمنها التهديد بالتحرش بالزوجة، أما قصص وسرديات التعذيب فهي واحدة موحدة في همجيتها وتوحشها . 

في سوريا الأسدين، لم تكن السجون تروي حكايات أبطال طالبوا بالحرية، بل ثمة كثيرون عاديون جدا، قادهم حظهم العاثر إلى أن يكونوا ضيوفاً دائمين لعقد أو عقدين، منسيين مغيبين.

بيد أن ما يلفت النظر في شهادة نظمي اعتباره المعتقلين الإسلاميين أشد خطرا من السجان. أليس غريبا ألا يتعاطف المعتقلون مع بعضهم البعض، وهم الذين عانوا  الأمرين من السجان ذاته؟ هل الخلفية الأيديولوجية هي التي جعلت نظمي يصور لنا المعتقلين ذوي الاتجاه الإسلامي بأنهم أشد خطرا من النظام السوري ذاته؟ لماذا نظر باستهجان إلى سلوك الإسلاميين في “استعصاء سجن صيدنايا” حينما تم احتجاز مجموعة من عساكر النظام كدروع بشرية، وهو الذي خبر همجية النظام وتوحشه المرعبين؟ أليس الضحايا هم من يتعاطفون مع بعضهم الآخر؟ ربم كانت أحداث سجن صيدنايا في العام 2008 بحد ذاتها موضوعا يستدعي الوقوف عنده مطولا، وإعمال البحث والتوثيق فيه وعدم الاكتفاء بشهادة أو شهادتين من المعتقلين.

إبراهيم بيرقدار، قضى تسع سنوات في السجن، دون أن يعرف ما هي التهمة التي وجهت إليه، سوى أنه كان صديقا لحزب العمل الشيوعي في سورية، وكان قارئا لجريدة الحزب “الراية الحمراء”.

 يتساءل بيرقدار أمام محدثته سعاد، وفي تساؤله يعيد ما كتبته حنة أرندت عن مغزى التفاهة التي يحملها الجلادون في ذواتهم: “حتى الآن لا أعرف من أين كان يأتي الجلاد بكل هذا الحقد للتعذيب بكل تلك الوحشية”. (ص 255 )

حسن النيقي من منطقة منبج، قضى في المعتقل قرابة خمسة عشر عاماً، لأنه اعتبر أن النظام السوري ليس عدوا لشعبه بل للأمة العربية. يتحدث كغيره عن رحلة الموت في فرع الأمن السياسي، ويشبّه نفسه بـسيزيف يحمل صخرة الموت على كتفيه، جيئة وذهاباً، لكنه لا يموت ولا يبقى حيا. ولربما كانت أشد اللحظات ايلاما لحظة وصوله إلى منزله، بعد اطلاق سراحه، ومعرفته أن والدته قد توفيت دون أن يراها.

تهامة معروف، ابنة مصياف، وطبيبة الأسنان، تقص حكايتها، وتحكي قدر السوريين الذين تتفتح عيونهم على “طلائع البعث”. من ينجو من “الطلائع” يجد اتحاد شبيبة الثورة بانتظاره، أو الحياة العسكرياتيرية للنظام، إنه كما تقول لمحدثتها، قدر بائس .

عمر الشغري، ابن مدينة بانياس، الشاب الذي أوصل جرح السوريين عبر نشاطاته واسهاماته، كان لتجربته واعتقاله أثر كبير في تبلور شخصيته. ففي أول اعتقال له لم يكن قد بلغ الخامسة عشر من عمره، يسرد عمر تفاصيل التفاصيل عن سردية الاعتقال، ويضعنا أمام مشهد بالغ الغرائبية لفتى يروي أهوال السجن وعذاباته، ويزوره الموت بكل فجاجته يوميا، يلمسه، يشمه، يعده؟ أي قلب شجاع هذا الـ عمر الذي نقل لنا بعضا من سردية المعذبين، المغيبين، المنسيين، المقتولين ببطء وموت فوق موت. 

“كتاب الشرّاقة، ما قِيلَ وما لم يُقلْ في برنامج يا حُرّية”، يمس شغاف القلب، ويترك ألماً في الروح، لن يغادر أبداً، إلا حين تتحقق العدالة، فلا صفح عن نظام مجرم من دون تحقيق العدالة، ولا عدالة تتحقق من دون محاسبة، ولا يمكن أن تكون محاسبة  دون إزالة النظام المستبد. 

على الرغم من كون الكتاب هو استعادة لحكايات ناجين وناجيات من معتقلات النظام السوري(الأب والابن) إلا أنه يوثق الحكاية الشفوية، الصورة المرئية، لتكون شهادة تضاف إلى شهادات من حالفهم الحظ ونجوا من الموت المحقق. ربما يعتبر التوثيق خطوة هامة، وقد سبق لـ قطناني أن وثقت، في برنامجها المسمى” يا حرية”، لتلفزيون سوريا، حكايا الناجين،  أمام الكاميرا. وثقت آلامهم وآمالهم في أن تكون سوريا كما حلموا يوما ما، سوريا دون استبداد أو تكفير، ربما يطول انتظار هذا اليوم ، لكن تبقى معجزة الشعب السوري أنه كسر جدار الصمت، وحطم آلهة الظلام، وأطلق صيحة واحدة، بأنه شعب واحد ، وحلمه بالحرية سيكون حقيقة لا مراء فيها.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!