fbpx

“بدي خيمة”… أو حين تختزل طفلة سورية أمنيات العام الجديد بقماش يحمي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قالت شهد في أمنيتها ما لم يجرؤ أي شخص ناضج على قوله، إننا عالقون هنا، في هذه المخيمات القذرة حيث لا أفق أبعد من المخيم ولا سقف سوى سقف الخيم، لا حلول سياسية ولا إنسانية قادرة على انتشال ذاكرة الطفولة السورية من هذه الأماكن.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بتردد وخجل قالت الطفلة السورية شهد أمنيتها للعام الجديد: “خيمة”، يحاول المذيع التأكد مما قالته فتكرر بثبات “خيمة”، ولأن لا شيء يقال بعد هذا الجواب، ينسحب المذيع، الذي ربما اعتاد سماع أجوبة أخرى من أطفال يخبرونه عن أمنيات مكررة عن الألعاب والبلايستيشن والشكولاتة، هل تعرف شهد البلايستيشن؟ ذكرتني خيمة شهد بفشلي في بناء خيمة لجوء في أحد مخيمات التدريب التابعة لإحدى المنظمات الإنسانية، تركت المهمة في حينها لأصدقائي، لكن ماذا لو احتجت يوماً إلى بناء خيمة لجوء لطفلة كشهد، مطبوع عليها بالأزرق شعار مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين؟

أمنية نهاية العام السوريّ

شهد واحدةٌ من آلاف الأطفال الذين لا يعلمون عن العالم أكثر من حدود المخيمات، ولا يعرفون عن المخاوف أكثر من مياه تدخل الخيم وتُغرِق المأوى، شهد التي ولدت كآلاف الأطفال في المخيمات أو انتقلت باكراً إليها، تركت خلفها عالم الطفولة المعتاد، لذلك ليس مستغرباً أن تتمنى خيمة بدل لعبة باربي، فالسؤال ليست لماذا لم تتمنَ شهد لعبة؟ بل هي يمكنها أن تتمنى غير الخيمة!

أعرف هؤلاء الأطفال، أذكر ملامحهم المندهشة بكل غريب، قادم من الخارج، أي من خارج حدود مخيمات النزوح، الغريب الذي يحمل مساعدات إنسانية تارة أو أغنية أو “مايك”… إنها النظرة ذاتها التي حفظتها عن ظهر قلب، بعدما نظرت في عيون مئات الأطفال في مراكز اللجوء في الداخل، وهم يتلقون ثياباً شتوية أو لعبة بلاستيكة أو يرددون معي أغنية عن النظافة في مكان قذر.

إنها المأساة القديمة، تتجدد في كلّ عام وكأنّ الوقت ما زال عالقاً في حيوات ملايين السوريين، خيام تلسعها حرارة الصيف وتتلاعب بها رياح الشتاء، تدخل مياه الأمطار إليها وتطير أخرى مع الرياح العاتية، إنها منازل السوريين التي قد يخسرونها في أي لحظة. تلخص شهد علاقة ملايين السوريين مع الخيام خلال 11 عاماً من المأساة، وعلى رغم أن الخيمة صورة للشتات السوري إلا أن شهد تمنتها هدية في نهاية العام، هل يتمنى أحد مأساته غير الأطفال السوريين؟

المخيمات كأوطانٍ بديلة للسوريين

تتمنى شهد الحصول على خيمة فيما يبلغ عدد سكان المخيمات حوالى المليونين ونصف المليون، يعيشون ضمن 1293 مخيماً، من بينها 282 مخيماً عشوائياً أقيمت في أراض زراعية، لا تحصل على أي مساعدات إنسانية. تتمنى شهد الحصول على خيمة فيما تتعرض المخيمات لكوارث في كل شتاء والسبب الرئيسي هو عدم استبدال الخيام البالية التي يقيم فيها النازحون منذ 5 أو 6 سنوات، وغياب شبكات الصرف الصحي في معظم المخيمات لتصريف مياه الأمطار، إضافة إلى عدم تعبيد الطرق الرئيسة في المخيمات. كيف يمكن إخبار شهد بأن ما تتمناه ليس شيئاً جميلاً كما تتخيل؟ كيف يمكن تغيير فكرتها عن الأحلام، في حين كبرت وهي تظن الخيمة منزلاً والمخيم وطناً؟ كيف يمكن أن تكبر مرة أخرى دون أن تتعلق بالخيام كما تعلقنا نحن بأوطاننا؟

إنها الخيم التي تسمى ملجأ لكنها ليست كافية للنجاة، قضى 167 شخصاً بسبب البرد منذ عام 2011، بينهم 77 طفلاً، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، هل تعرف شهد ذلك؟ هل أخبرها أحد أن هذه الخيم ليست أكثر الأماكن أماناً وقد أجبرت هي وعائلتها على العيش فيها؟ وأن بإمكانها أن تتمنى منزلاً بدل الخيمة؟

التخلص من الطين أمنية ثانية

أمنية شهد ليست غريبة عن أمنيات أبناء جيلها، تكفي جولة على التقارير المصورة عن أطفال المخيمات، لتدرك أن الأمنيات تتعلق بحدود المخيم، وما يتذكره الصغار عن “الدار” والقرية والمدرسة والأصدقاء القدماء، نمتلك آلاف الصور عن أطفال الخيام، عن الأقدام الغارقة بالوحل والثلج والرمل، نمتلك أرشيفاً كاملاً من الألم، نضيف إليه شهد. تمنّى أحد الأطفال التخلص من “الطين”، الطين الذي يبدو السمة الأشد حضوراً في المخيمات، وكأنه تجسيد للمستقبل الضبابي والخانق، طفل آخر يتمنى اللعب بألعاب أخرى غير الحجارة، إذ إن الحجارة هي اللعبة الوحيدة المتاحة لأطفال المخيمات، آخر يذهب خارج المخيم بأمنيته ويتمنى الذهاب إلى مدينة الألعاب، إلا أن الفارق بين هذه الامنيات وأمنية شهد هي أن الأخيرة تؤلم لأن فيها استسلاماً للمكان، تسليماً بعدم وجود مكان آخر يدعى القرية أو “بيتنا”.

 قالت شهد في أمنيتها ما لم يجرؤ أي شخص ناضج على قوله، إننا عالقون هنا، في هذه المخيمات القذرة حيث لا أفق أبعد من المخيم ولا سقف سوى سقف الخيم، لا حلول سياسية ولا إنسانية قادرة على انتشال ذاكرة الطفولة السورية من هذه الأماكن، لذلك وإن كانت المخيمات قدر هؤلاء الأطفال فمن حقهم تمنى “خيمة”، الخيام التي تبنى ما بين أقدم المعالم الأثرية في سوريا في تناقض مرعب للحضارة في أبهى صورها ولاندثار الإنسانية في أقسى صورها، جدران الخيمة البلاستيكي الذي يتحول إلى لوح للتعليم، ترسم عليها الأحرف بينما الشادر البلاستيكي يتحرك بلؤم مع القلم، ما يجعل شكل الحروف والكلمات مشوهاً.

تمكن تسمية شهد بطفلة نهاية العام. اختصرت مأساة الطفولة السورية بكلمة “خيمة”، تخرج من فم خائف، وغمازتين خجولتين، جميعنا مثل شهد نتساءل هل سيحمل بابا نويل في كيسه هذا العام خياماً للسوريين؟ هل خطر له أن للأطفال أمنيات غير الألعاب والشوكولا؟ هل سيفكر في أنواع جديدة من الهدايا تناسب الأطفال السوريين وحسب، كخيمة ومدفئة ولوح للتعلم.

إقرأوا أيضاً: