fbpx

سلامة حاكماً لمصرف لبنان: صمّام أمان المنظومة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مع الانهيار المالي، تحوّل سلامة إلى صمّام الأمان للنظام السياسي اللبناني، حيث استعمل جميع صلاحيّاته لعرقلة جميع الإصلاحات التي كان يمكن أن تمس بمصالح أقطاب هذا النظام، أو التي كان يمكن أن تكشف بعض ارتكابات المراحل السابقة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

اعتاد اللبنانيّون على مبدأ المحاصصة في التعيينات الإداريّة، وما ينتج عن هذا المبدأ من توزّع محاسيب أقطاب النظام السياسي على المراكز العليا في الإدارات الرسميّة والأسلاك الأمنيّة، فيُمنح كلّ من هؤلاء حمايته الخاصّة من مرجعيّته السياسيّة. وفي واقع الأمر، بإمكاننا اليوم أن نصنّف بسهولة الغالبيّة الساحقة من ضبّاط الأجهزة الأمنيّة الكبار ومديري الإدارات الرسميّة، بحسب ولاءاتهم السياسيّة ونوعيّة المظلّة السياسيّة التي يتمتّعون بها، بل وأيضاً بحسب الأدوار التي تمكنوا من تأديتها لمصلحة القوى التي جاءت بهم إلى مراكزهم. وفي كل مرّة تحتدم التجاذبات السياسيّة، يتم إرجاء التعيينات الإداريّة أو التشكيلات الأمنيّة، بانتظار اللحظة المناسبة لعقد صفقة التحاصص الجديدة.

لكنّ ومنذ التسعينات، مثّل رياض سلامة الاستثناء الفج والواضح لهذه القاعدة، برغم حساسيّة دوره وأهميّة منصبه، وحجم الصلاحيّات المُنوطة بموقع حاكميّة مصرف لبنان. جاء إلى موقعه للمرّة الأولى بمعيّة رفيق الحريري عام 1993، لكنّه تمكّن من نيل إعادة التعيين في أربع ولايات أخرى متتالية بمعزل عن التحوّلات في التوازنات السياسيّة، وتغيّر أحجام القوى السياسيّة التي قررت التجديد له. ومن الناحية العمليّة، استطاع سلامة طوال 29 سنة من وجوده في حاكميّة مصرف لبنان من تكريس مكانته داخل المنظومتين الماليّة والسياسيّة، بمباركة الغالبيّة الساحقة من أقطاب النظام السياسي، برغم تبدّل بعضهم وتقلّب حجم نفوذ بعضهم الآخر. باختصار، كان سلامة طوال هذه السنوات الطفل المدلّل للنظام السياسي اللبناني، بمختلف تلاوينه ومكوناته، لا مجرّد مستفيد من الحصانة التي تقدّمها قوّة سياسيّة من داخل النظام.

وبعد حصول الانهيار المالي، تمكّن سلامة من الاحتفاظ بهذه المكانة من خلال إصرار غالبيّة القوى السياسيّة على إبقائه في منصبه، وهو ما منحه حصانة قانونيّة في وجه جميع الدعاوى المرفوعة في وجهه محليّاً. في مرحلة حكومة حسان دياب، أصرّ الثنائي الشيعي على إبقائه في منصبه، بعدما استخدم برّي شعاره الشهير: نحن بحاجة اليوم إلى كل الناس ولا نستطيع الاستغناء عن أحد. رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، رفض الفكرة أيضاً، مشهراً فتوى قانونيّة مفادها أن “حاكم مصرف لبنان لديه حصانة ولا أحد يستطيع عزله”، متناسياً أن قانون النقد والتسليف فتح باب عزل الحاكم في حال الإخلال بواجباته الوظيفيّة أو اقترافه خطأ فادحاً في تسيير الأعمال. أمّا آخر فصول تمسّك المنظومة السياسيّة بسلامة فكان موقف رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، الذي اعتبر أن تغيير الضباط غير ممكن في حالة حرب، وهو ما يفرض عليه الحفاظ على الحاكم في موقعه في ظل الأزمة الماليّة القائمة اليوم.

في خلاصة الأمر، ما حظي به سلامة في جميع المحطات لم يكن حصانة طائفيّة أو حزبيّة ضيّقة، بل شبه إجماع سياسي على دوره وموقعه في التركيبة القائمة. بل وحتّى “التيّار الوطني الحر”، لم يستخدم حملاته على سلامة إلّا لغايات الاستعراض الشعبوي والإعلامي، أو الضغط السياسي بغرض تحصيل مكاسب لم يُكشف عنها في العلن يوماً، من دون أن يبلغ في أي مرحلة من المراحل حد المساس بموقع الرجل أو حتّى صلاحيّاته شبه المطلقة في التعامل مع الجانب النقدي والمالي من الأزمة الاقتصاديّة. 

هذه المكانة الخاصّة التي يتمتّع بها سلامة، برغم جميع الملاحقات القضائيّة بحقّه في الخارج، هي ما يفرض السؤال اليوم عن الدور الذي يؤدّيه لمصلحة النظام السياسي، والذي يفسّر الحصانة التي استفاد منها طوال الفترة السابقة. مع الإشارة إلى أنّ وجود حاكم للمصرف المركزي مشتبه به بهذا النوع من الجنايات على مستوى دولي، يمثّل حالة نافرة وغير مألوفة في تاريخ المصارف المركزيّة، نظراً لاتصال عمل المصارف المركزيّة بعلاقة البلدان مع النظام المالي العالمي، إضافة إلى حساسيّة الوظائف التي تقوم بها المصارف المركزيّة في العادة، وخصوصاً أدوارها المتصلة بخلق النقد والحفاظ على سلامة النظام المصرفي ووسائل الدفع.

إقرأوا أيضاً:

ما قبل الانهيار: سلامة محاسب المنظومة

بخلاف ما يدعي سلامة، لم يكن من البدهي أن يتورّط المصرف المركزي في إقراض الدولة وتمويل دوّامة الهدر والفساد بهذا الشكل. بل وعلى العكس تماماً، نصّت المادّة 90 من قانون النقد والتسليف على أنّ المبدأ هو “أن لا يمنح المصرف المركزي قروضاً للقطاع العام”، فيما نصّت المواد 88 و89 منه على آليّة تحصر قيمة قروض المصرف للدولة بهامش ضيّق ومحدود لا يتجاوز الـ10 في المئة من متوسّط واردات الدولة السنويّة. أمّا القروض التي تتجاوز هذا النطاق، فلا يمكن منحها إلا بعد مسار قانوني معقّد، يتبيّن بعده عدم وجود بدائل عن قرض المصرف المركزي، وفي حالة وجود “ظروف استثنائيّة الخطورة أو في حالات الضرورة القصوى”. وحتّى في هذه الحالة، يفترض أن يبادر المصرف المركزي لاقتراح التدابير التي تحد من عواقب هذه الخطوة على المدى الطويل.

بمعنى آخر، لم يكن يفترض أن تتمكّن المنظومة السياسيّة من توريط مصرف لبنان في مسار تمويل الدين العام بالليرة اللبنانيّة منذ التسعينات، لولا وجود سلامة كشريك امتلك النيّة والجرأة على مخالفة القانون بهذا الشكل، وعلى إقحام النظام المالي بمغامرة أفضت في النهاية إلى ربط مأزق ميزانيّات مصرف لبنان بمأزق مديونيّة الدولة. وبذلك، كان سلامة المحاسب المثالي الذي عمل في حاكميّة مصرف لبنان على تسهيل عمل المنظومة السياسيّة، التي احتاجت إليه لتمويل نظام الزبائنيّة والهدر وتحاصص التعهدات والصفقات العموميّة. ولولا وجود سلامة كمفتاح لخزائن مصرف لبنان، لم تكن  حلقة فساد الإدارة العامّة لتكتمل.

وفي حقبة ما قبل الانهيار، وخصوصاً بين عامي 2011 و2019 حين شهدت البلاد نزوح السيولة بالعملات الأجنبيّة إلى الخارج، استفادت المنظومة من سياسة تثبيت سعر الصرف التي تبنّاها سلامة، والتي ساهمت بإخفاء الكثير من عوارض الأزمة لمدة 8 سنوات متتالية. هذه السياسة، تمكّنت طوال تلك الفترة من استيعاب الوضع المعيشي وتحقيق الاستقرار السياسي لمصلحة النظام، لكنّها كانت في المقابل تستنزف موجودات مصرف لبنان بالعملة الصعبة، وتفاقم فجوة الخسائر التي تتراكم في ميزانيّاته، وهو ما ساهم في تفاقم تداعيات الانهيار لاحقاً بعد عام 2019. لا بل ساهمت هذه المغامرة التي تورّط فيها مصرف لبنان في تحويل أزمة التحويلات الماليّة إلى أزمة إفلاس مصرفيّة واسعة النطاق، وإلى انهيار شمل تدهور سعر الصرف وإفلاس الدولة وتعثّر النظام المصرفي في وقت واحد. 

وباسم الحفاظ على الاستقرار النقدي، قامت الهندسات الماليّة التي ضخّت كتلة الأرباح الضخمة لمصلحة الرساميل المصرفيّة وكبار المودعين، والتي ساهمت بدورها في تضخيم خسائر ميزانيّات مصرف لبنان. وفي ذلك الوقت، كانت تلك الهندسات عام 2016، وما درّته من ربح فوري وسريع، أحد أشكال توزيع المغانم على الزعامات التقليديّة التي تتشابك مصالحها مع مصالح النظام المالي، على أعتاب التجديد للحاكم في ولاية خامسة كاملة عام 2017. وبذلك، كانت المنظومة السياسية تستفيد من المعالجات التي ذهب إليها الحاكم في تلك المرحلة، بعدما استفادت منذ عام 1993 من السياسات التي مهّدت للأزمة وتسببت بها لاحقاً. 

جميع هذه الأدوار، تفسّر وجود سلامة كنقطة إجماع قبل الانهيار بين جميع القوى السياسيّة، بما فيها “التيّار الوطني الحر” الذي ساهم بالتجديد له، قبل أن يستعرض اعتراضه على سياسات الحاكم بعد حصول الانهيار المالي. كما تفسّر هذه الأدوار حفاظ سلامة على نفوذ شبه مطلق داخل مصرف لبنان، بمعزل عن القوانين التي كانت تفرض دوراً أوسع للمجالس المركزيّة المتعاقبة في المصرف، ورقابة أكبر من ناحية مفوضيّة الحكومة في المصرف المركزي. 

بات سلامة صورة تجسّد تلاقي حسابات القيّمين على النظام الماليّة، بمعزل عن جميع خلافاتهم السياسيّة.

ما بعد الانهيار: صمّام أمان النظام

مع الانهيار المالي، تحوّل سلامة إلى صمّام الأمان للنظام السياسي اللبناني، حيث استعمل جميع صلاحيّاته لعرقلة جميع الإصلاحات التي كان يمكن أن تمس بمصالح أقطاب هذا النظام، أو التي كان يمكن أن تكشف بعض ارتكابات المراحل السابقة. من موقعه، عرقل منذ آذار/ مارس 2020، وعلى مدى سنة وتسعة أشهر، عمليّة التدقيق الجنائي في ميزانيّات مصرف لبنان، مستخدماً حجّة السريّة المصرفيّة في البداية، قبل أن ينتقل إلى عرقلة طلبات الشركة بحجّة عدم شمول هذه الطلبات بالعقد الموقّع بين الشركة ووزارة الماليّة. وفي عمليّة العرقلة هذه، كان حليفه المفضّل رئيس المجلس النيابي، الذي عرقل بدوره تمديد مهلة قانون رفع السريّة المصرفيّة لغايات التدقيق الجنائي، وهو ما أفضى إلى نهاية هذه المهلة مع نهاية عام 2021. وبهذا الشكل، كان موقع سلامة في حاكميّة مصرف لبنان ضمانة لأقطاب الحكم، لإخفاء ارتكابات مرحلة ما قبل 2019، والحؤول دون أي تدقيق يمكن أن يكشف تفاصيلها.

في مرحلة ما بعد الانهيار، وقف سلامة كسد منيع، حال دون تسليم المصرف المركزي بأي مقاربة يمكن أن تحدد خسائر النظام المصرفي كما هي، تمهيداً للتعامل معها وفق خطّة عادلة للتعامل هذه الخسائر. وفي هذا الدور، كان الحاكم ينسجم بشكل مثالي مع الدور الذي أدّته جميع الكتل النيابي خلال عام 2020، حين انقلبت هذه الكتل على بنود خطّة لازارد، وخصوصاً تلك التي تمس بمصالح كبار النافذين في النظام المصرفي. وفي تلك المرحلة بالتحديد، بدا واضحاً حجم التشابك بين مصالح القوى السياسيّة النافذة في النظام، والمصالح التي كان يعمل سلامة على حمايتها مستخدماً نفوذه وصلاحيّاته.

في كل هذه الأدوار، قبل الانهيار وبعده، مثّل رياض سلامة نقطة تقاطع تلتقي عندها الغالبيّة الساحقة من الأحزاب السياسيّة، فتحوّلت حاكميّة مصرف لبنان إلى خندق يحمي كتلة ضخمة من المصالح المتجذّرة في النظامين المالي والسياسي. 

هذه الأدوار بالتحديد، هي دفع هذه القوى السياسيّة إلى الالتقاء على بقاء سلامة في موقعه، برغم تباين أولويّاتها في معظم المسائل المحليّة والإقليميّة الأخرى، بل وبرغم الدعاوى والملفّات القضائيّة التي تلاحق سلامة اليوم في الخارج. هكذا، بات سلامة صورة تجسّد تلاقي حسابات القيّمين على النظام الماليّة، بمعزل عن جميع خلافاتهم السياسيّة.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.