fbpx

المكاتب الحكومية في نينوى تغرق في
“خردة” فساد “الحشد الشعبي”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تم استخدام وسائل عديدة لتمرير صفقات السكراب، منها عبر تجار محليين من أجل الاستيلاء على السكراب وبيعه لمصلحة الميليشيات ومكاتبها وأمام أنظار أجهزة الدولة المتفرجة بأذرعها المتعددة. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بعد مرور أشهر على تحرير مدينة الموصل من “داعش” صيف 2017، بثت قنوات فضائية محلية مقطع فيديو يظهر محافظ نينوى نوفل العاكوب ذا النزعة القبلية وهو يتوعد خصوماً له من أعضاء مجلس المحافظة بـ”قص قرونهم” رداً منه على اتهامات وجهوها إليه بالفساد. 

بعد أكثر من ثلاث سنواتٍ، وتحديداً يوم الثلاثاء 16 شباط/ فبراير 2021، أصدرت محكمة جنايات مكافحة الفساد المركزية في العاصمة بغداد، حكمين متلاحقين بالحبس الشديد بحق العاكوب وفقاً للمادة 340 من قانون العقوبات العراقي 111 لسنة 1969 بتهمة الإضرار بالمال العام.

تم تعيين العاكوب من قبل مجلس محافظة نينوى في تشرين الأول/ أكتوبر 2015 خلفاً لأثيل النجيفي الذي أقيل برلمانياً، وهو ما عده مراقبون تمهيداً لسيطرة الميليشيات على مقدرات المحافظة، لا سيما أنها هي (الميليشيات) التي ضغطت على مجلس نينوى لتنصيبه محافظاً. 

وأكد العاكوب في أكثر من مناسبة “عدم أهليته” لإدارة ثاني أكبر محافظة عراقية بعد بغداد، إذ ظهر في مرات عديدة خلال نشرات أخبار قناة “نينوى الآن” المرتبطة بالمحافظة وهو يوبخ مدراء مدارس ودوائر حكومية ويوجه لهم الشتائم، كما ارتبط أسمه بملفات فساد عديدة أثارها أعضاء في مجلس نينوى وفي البرلمان.

وتمت إقالته بتصويت من مجلس محافظة نينوى يوم الاثنين 12 أيار/مايو 2017 وتم تعيين النائب منصور المرعيد محله، لكن وبحسب عضو سابق في المجلس، حصل العاكوب وبدعم من الحشد الشعبي على قرار نقض قضائي وعاد لمنصبه بعد ستة أشهر.

تنص المادة التي حكم وفقاً لها العاكوب في 2021، على عقوبة “السجن مدة لا تزيد عن 7 سنوات أو بالحبس لكل موظف أو مكلف بخدمة عامة أحدث عمداً ضرراً بأموال أو مصالح الجهة التي يعمل فيها أو يتصل بها بحكم وظيفته أو بأموال الأشخاص المعهودة بها إليه”.

مجموع الحُكمين بلغ خمس سنوات، في حين تنتظره 8 أحكام في دعاوى قضائية أخرى تنظر فيها المحكمة ذاتها، أبرز الاتهامات فيها تتمثل بالاختلاس وهدر المال العام والإهمال الوظيفي الجسيم، خلال فترة توليه منصبه محافظاً لنينوى بين عامي 2017 -2019.

لم يكن العاكوب المسؤول الكبير الوحيد الذي لوحق في المحاكم العراقية، فقبله تمت ملاحقة سلفه أثيل النجيفي وصدرت أوامر قبض عديدة بحقه مع حكم غيابي أصدرته محكمة جنايات نينوى عام 2019 بالسجن سبع سنوات.

“لكنه بقي خارج القضبان، ثم ألغي الحكم وأسقطت جميع التهم الموجهة إليه قبيل الانتخابات البرلمانية التي أجريت في تشرين الأول 2021″، يقول لازم حمدون المختص ببحث قضايا الفساد ويضيف: “كان العاكوب أداة بأيدي فصائل في الحشد الشعبي كـ”عصائب أهل الحق”، وبعد انتهاء دوره ترك وحيداً ليواجه العشرات من تهم الفساد بمفرده، بينما أثيل النجيفي وبسبب الثقل الذي يتمتع به هو وشقيقه رئيس مجلس النواب السابق أسامة النجيفي في الطرف السني من المعادلة السياسية، استخدمت التهم والأحكام القضائية ضده كأوراق ضغط لا أكثر”.  

في الفترة التي لحقت استعادة المدينة صيف 2017، ظهرت فصائل تابعة للحشد الشعبي كبديل لـ”داعش” في مسكها الأرض وفرض سيطرتها المطلقة على القرارين الإداري والأمني وتمويل نفسها من خلال مكاتب اقتصادية تابعة لها مدت أذرعها عميقاً وبنحو رئيسي في مجالات العقارات والمشاريع والمناصب الحكومية.

سجلت هذه المرحلة استحواذ هذه الفصائل على المبالغ المرصودة للإعمار ومعظمها تمثلت في منح دولية لتمويل مشاريع إعادة الأعمار والتعويضات ودعم النازحين، بمشاركة أحزاب ونواب ومسؤولين وموظفين حكوميين.

“كارثة” غرق العبارة

تسبب غرق عبّارة سياحية كانت تقل أكثر من 200 مواطن من أهالي الموصل في نهر دجلة (الجزيرة السياحية) في منطقة الغابات وسط مدينة الموصل في 21 آذار/ مارس 2019 بوفاة 120 شخصاً معظمهم من النساء والأطفال.

الحادث، وفقاً للخبير السياسي عادل كمال، “فتح العيون على حجم الفساد الذي تغرق فيه مدينة الموصل الخارجة مدمرة بنيوياً ومنهكة نفسياً من حرب تحريرها، وكان لزاماً على الجهات النافذة تقديم كبش فداء!”.

التحقيقات الأمنية أكدت أن الطاقة القصوى للعبّارة الغريقة كانت 50 شخصاً، لكن مع ذلك تم تحميلها بأربعة أضعاف طاقتها، حصل ذلك من دون أي رقابة من الحكومة المحلية. وتم إلقاء المسؤولية على المحافظ نوفل العاكَوب وخرجت تظاهرات شعبية مطالبة بإقالته وبدأت خطوات عملية لتحقيق ذلك في مجلس النواب. 

ردود الفعل والإجراءات المتخذة أزاحت الستار عن حقيقة امتلاك ميليشيات تابعة للحشد الشعبي في نينوى (عصائب أهل الحق) حصصاً في الجزيرة السياحة حيث غرقت العبّارة، وفي أماكن أخرى، وهو ما سمح بمرور مخالفات دون أي محاسبة، لكن الذي حدث أن القوات الأمنية (الأساييش) اعتقلت في أربيل عاصمة إقليم كردستان أواخر آذار 2019 عبيد إبراهيم علي الحديدي وابنا له يدعى ريان، بوصفهما مالكين رئيسين للجزيرة.   

في تلك الأثناء، حصل إجماع تحت قبة البرلمان في بغداد خصص لإقالة المحافظ نوفل العاكَوب الذي فر بدوره إلى أربيل هرباً من أوامر قبض قضائية صدرت بحقه.

هيئة النزاهة وفي بيان صدر عنها في 22 نيسان/ أبريل 2019 كشفت عن فقدان 64 مليون دولار أي ما يعادل وقتها (76 مليار دينار عراقي) من موازنة محافظة نينوى، اختلسها موظفون مقربون من المحافظ الملاحق قضائياً.

وأوضحت ان عمليات الاختلاس تمت على شكل صكوك أو إيداعات في حسابات شخصية وأن ما يقارب من 45 مليار دينار عراقي (37 مليون دولار) هي من أموال تنمية الأقاليم لعام 2018 خاصة بالمحافظة، وقد تم استعادة نحو 8 مليارات دينار (6 ملايين دولار) فقط.

ويمثل العاكوب في دعاوى حوكم باثنتين منها في شباط/ فبراير 2021 أمام محكمة جنايات مكافحة الفساد في العاصمة بغداد. وتلا ذلك قيام الحكومة البريطانية في 22 تموز/ يوليو من العام نفسه بفرض عقوبات عليه وعلى أربع شخصيات من دول أخرى، متهمة إياهم بالفساد، ما أكد وزير خارجيتها دومينيك راب.

مصدرٌ في هيئة نزاهة نينوى ذكر أن واحدة من التهم التي يواجهها العاكَوب، هي اختلاس مبلغ 11.3 مليار دينار (9.4 مليون دولار) من أموال كانت مخصصة للنازحين ولتأهيل مستشفيين في نينوى. 

لكن لا تهمة ضده من النزاهة أو القضاء لغاية الساعة تتعلق بتسهيله، عبر كتب رسمية، عملية الاستيلاء على السكراب (الخردة) للفصائل المسلحة التابعة للحشد الشعبي سواء “عصائب أهل الحق” أو “سرايا السلام” التي ذكرها بالاسم منصور المرعيد البرلماني ومحافظ نينوى الموقت خلفاً لنوفل العاكوب. 

العاكوب حاول رد التهم الموجهة إليه وحرك دعوى قضائية ضد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي مطالباً بإلغاء الأمر الديواني الذي تحرك بموجبه الجهاز القضائي واعتقل مسؤولين حكوميين، بينهم العاكوب، كانوا يتمتعون بحصانة فصائل مسلحة.

وطالب المحافظ السابق في دعواه بإلزام رئيس الوزراء بإعادة الدعاوى إلى هيئة النزاهة والغاء اجراءات لجنة الامر الديواني. والسبب في ذلك كما قال المشاور القانوني هاشم سعد الله منيب هو محاولة إعادة ملفاته إلى محافظة نينوى، حيث نفوذ الميليشيات الداعمة له والمعروفة بخلافها مع رئيس الوزراء.

 لكن مناورة العاكوب القانونية هذه لم تنجح، وسيضطر لمواجهة أحكام أخرى قد تصل إلى 20 سنة إضافية بحسب خبراء قانونيين.

غطاء لعمليات النهب

الباحث في الشأن السياسي معتصم عبد الله جمال، يرى أن المحافظ نوفل العاكوب كان مجرد غطاء لعمليات نهب واسعة استهدفت المال العام والخاص عقب تحرير الموصل من “داعش”.

وذكر بأن ميليشيات الحشد الشعبي وأبرزها (عصائب أهل الحق) التي تملك مكاتب اقتصادية داخل الموصل كما غيرها من الميليشيات كـ”الخرساني” و”السلام” و”اللواء 30″، استغلت تسهيلات كثيرة قدمها المحافظ العاكَوب ونائباه للسيطرة على عقارات وأملاك منقولة تابعة للدولة بحجة أنها من مخلفات “داعش”.

ومن خلال تتبعنا ملف الفساد في نينوى فإن أول عملية استيلاء على أموال عامة تمت وفقاً للطريقة التي ذكرها معتصم عبد الله، حدثت في مطلع عام 2017 أي بعد أشهر من تحرير الجانب الأيسر من الموصل وكانت نيران المعارك لا تزال مشتعلة في جانبها الأيمن.

أكد لنا جنديٌ كان يخدم في الفرقة العسكرية (16) التابعة للجيش العراقي قيام عناصر مسلحة تابعة للحشد الشعبي وباستخدام آليات حكومية، نقل أربع مولدات كهرباء ديزل كبيرة (بطاقة 2 ميغا) من مشروع تصفية المياه في حي العربي السكني شمالي الموصل والذي يعرف بـ”مشروع القصور الرئاسية”.

وقال الجندي، إنه يتذكر وقتها أن العناصر المسلحين كانوا يحملون أوراقاً رسمية ولم يتسن له او لزملائه منعهم من نقل تلك المولدات.

موظف يعمل في مشروع ماء القصور الرئاسية أكد لنا تلك المعلومات وقال إن مدير الدائرة تقدم بشكوى إلى مراجعه في الوزارة أبلغ فيها عن سرقة مولدات تابعة للمشروع. وبعد أيام “أعيدت اثنتان من تلك المولدات فقط ووجهت لنا أوامر إدارية بعدم الحديث مطلقاً عن المولدتين الاخريين”. 

كان هذا فاتحة لعمليات سلب واسعة للمال العام في الموصل، فطوال أشهر ما بعد توقف المعارك ضد “داعش”، تم إفراغ شوارع المدينة الرئيسية والمنشآت العسكرية من هياكل المركبات والآليات المتضررة وحديد التسليح من أنقاض الأبنية العامة وحتى الخاصة المدمرة ونقلتها شاحنات صوب إقليم كردستان شمالاً وبغداد جنوباً، ليتم صهر بعضها في معامل محلية أو تمضي في طريقها إلى إيران.

شكلت أنقاض 12925 مبنى عاماً وخاصاً، تم تدميرها في المدينة بسبب الحرب، غنائم سهلة لقادة الفصائل التابعة لـ”الحشد الشعبي”.

مشاهد الشاحنات الكبيرة المحملة بتلك الغنائم، لا تزال حاضرة في ذاكرة “س.ح” وهو مدرس جامعي كان يسافر مراراً في الأسبوع بين مكان اقامته في اربيل وعمله في الموصل. يقول “كانت الشاحنات تتحرك ليلاً، وفي بعض الأيام نهاراً. مراراً، كانت سبباً في تأخرنا على الطريق، بخاصة في المواقع التي وضعت سواتر أمنية أمامها”.

يضيف، بشيء من الحدة: “كان السكراب (الخردة) ينقل أمام مرأى الجميع دون ان يجرؤ أحد على إيقاف ذلك. كنا نعرف أنه يُجمع ويباع خارج القانون، لكن كان التحرك مستحيلاً في تلك الفترة فكثيرون كانوا يعتقلون لمجرد الشبهة أو بدعاوى كيدية وفي ظل فوضى التحقيقات الأمنية وقوائم عناصر داعش المطلوبين للسلطات”.

غنائم المكاتب الاقتصادية

مولت تلك الغنائم فصائل مسلحة عبر ما تعرف بالمكاتب الاقتصادية التي توزعت في أنحاء متفرقة من الموصل مستغلة عقاراتِ كان تنظيم داعش قد وضع اليد عليها إبان سيطرته على المدينة وجلها لمسيحيين مغتربين أو مهجرين من الكرد أو حتى من العرب السنة.

أبو أيوب (43 سنة) من سكان حي القاهرة شمال شرق الموصل، كان يعمل بين عامي 2017 -2018 في جمع الحديد من أنقاض الأبنية ويبيعه في منطقة تجميع لصالح المكاتب الاقتصادية وسط الموصل.

يقول إنه كان يوصل ما “يغتنمه” يومياً الى ساحة بالقرب من الجسر العتيق (أقدم جسور الموصل) ليتم وزنه هناك بواسطة ميزان للأحمال الثقيلة (قبان) بسعر يتراوح بين 60 و70 دولاراً للطن الواحد.  

ما كان يقوم به أبو أيوب، كان عملاً شائعاً وقتها لمئات من مواطني الموصل الذين عدوا الأمر هدنة موقتة من البطالة الخانقة بسبب انحسار الأعمال. وكانت المكاتب الاقتصادية تعتمد عليهم في ذلك بعد أن كانت قد تولت هي الاستيلاء على الكميات الأكبر من الآلات والخردة التي يفترض أنها ملك للدولة. 

مع تزايد الضغط بسبب التركيز الإعلامي على ظاهرة السلب العلنية تلك، قام محافظ نينوى نوفل العاكوب في اوائل 2018 بإصدار أوامر لجمع السكراب في ساحة قريبة من جسر الموصل الخامس في منطقة تعرف بـ”الطوالب”. 

سرعان ما تحولت الى مقبرة هائلة للسكراب، يحرسها ليل نهار عناصر من الحشد الشعبي وتم بيع قسم من الخردة في مزادين علنيين وفقاً لقانون بيع وإيجار أموال الدولة رقم (21) لسنة 2013 المعدل وذلك من خلال إعلاني بيع عممهما ديوان محافظة نينوى وبسعر لا يتجاوز 100 ألف دينار للطن (80 دولاراً)، بحسب ما ذكره المحافظ العاكوب وقتها.

وعن هذا الأمر تحديداً، يقول تجار متعاملون بالخردة قابلناهم خلال إجراء هذا التحقيق بأنهم منعوا من دخول المزادين اللذين جرياً في النصف الثاني من عام 2018، وفي كل مرة كان يرسو فيها المزاد على شخصية من الشخصيات المرتبطة بالحشد الشعبي وبسعر رمزي لا يصل إلى نصف قيمته أو ربما أقل من ذلك. 

مزاد ديوان المحافظة الصوري لم يحد من تجارة السكراب التي راجت بنحو كبير في الموصل بعد ستة أشهر من انتهاء عمليات تحريرها من داعش أي مطلع 2018 وكانت في الموصل عشر ساحات لتجميع السكراب تحت حراسة عناصر تابعة للحشد الشعبي توزعت في مناطق عدة في الجانب الأيمن للمدينة. 

وقد سُخر حتى عمال بلدية الموصل لتجميع السكراب تحت عنوان “جمع الأنقاض” وكان هذا الجهد الحكومي أيضاً يذهب لمصلحة الميليشيات ومكاتبها الاقتصادية المستفيد الأول من السكراب وبيعه بحسب برلمانيين ومواطنين.

وكانت شاحنات تنقل السكراب من تلك الساحات بعد الساعة 11 ليلاً صوب معامل الصهر في أربيل شمالاً وبغداد جنوباً أو الى وجهات أخرى بحسب تجار ومقاولين.

يؤكد متطوعون في حملات رفع الأنقاض التي تركزت في المدينة القديمة أنهم رفعوا كميات هائلة بمبالغ لاتصل حتى إلى 1 في المئة من الـ20 مليار دينار التي أعلنت حكومة نينوى إنفاقها. 

“إنها خسارة مزدوجة” يقول عزام عبد الله، أحد المتطوعين. فالمبلغ بحسب تصوره مبالغ به وتحوم حوله شبهة فساد كونه كان في المكان خلال مشاركته بحملة رفع الأنقاض التطوعية. وشاهد الجزء الخجول من مشاركة الحكومة وكانت من خلال عمال البلدية الذين يتقاضون أجورهم من الدولة.

شكوك عزام هذه أفصحت عنها هيئة النزاهة وبالأدلة التي قدمتها إلى المحكمة المركزية في العاصمة بغداد وتم تجريم العاكَوب بموجبها عن مشاريع وهمية في تنظيف وإعادة تأهيل الابنية في محافظة نينوى للفترة من 2017 إلى 2019.

عضو في مجلس قضاء الموصل طلب عدم الاشارة إلى اسمه، حاول احتساب الأرباح: “لنفترض أن سعر الطن الواحد هو 160 الف دينار و أجور نقل تبلغ 40 ألف دينار للطن. فيصبح المجموع مئتي الف دينار وهي التكلفة التي كان يتحملها التجار المرتبطون بفرق الحشد”. ثم عاد ليؤكد أنهم كانوا يبيعون الطن الواحد بسعر لا يقل عن 320 ألف دينار أي بربح مقداره 120000 دينار، وإذا ضرب المبلغ بسبعة ملايين طن يصبح المجموع 840 مليار دينار. كم جسراً أو مبنى يمكن أن يعاد بناؤه بهكذا مبلغ؟”.

في الموصل، أطلق السكان على الخردة الذي استولت عليها الميليشيات “سكراب العبادي” نسبة الى رئيس الوزراء العراقي السابق (حيدر العبادي) الذي كان في هرم المسؤولية خلال عمليات تحرير الموصل وما بعدها.

تلك الفترة شهدت سلباً للأموال العامة المنقولة التي خلفتها الحرب، ولا سيما الآليات العسكرية والمدنية والحديد في أنقاض الأبنية الحكومية أو المدنية.

إقرأوا أيضاً:

مقاول البناء أحمد عويد يذكر أن سكراب الموصل نقل جزء منه الى معمل اسمه “الماس” في اقليم كردستان. وأنتج منه حديد التسليح (للبناء) والذي تم بيعه بسعر 700 ألف دينار في الموصل.

وقال إن السكراب لم يذهب فقط الى مصهر اربيل بل الى السليمانية، حيث صهر هناك ونقل إلى إيران التي اشترت كميات كبيرة من الحديد لرخص ثمنه.

النائب عن نينوى نوري العبد ربه، أكد دور فصائل “الحشد الشعبي” في عمليات البيع: “المكاتب الاقتصادية التابعة للحشد الشعبي كانت لها حصة كبيرة من السكراب وكانت تجبي الأموال أيضاً من تجار في الموصل. فلا تتم المباشرة بأي مشروع اقتصادي في الموصل إلا بعد دفع مبلغ أو تخصيص حصة لواحد من هذه المكاتب الاقتصادية. 

واتهم نوري العبد ربه شقيق المحافظ الأسبق نوفل العاكوب ويدعى بسمان العاكوب بحصوله على نسبة تترواح بين 20 و 30 في المئة، مقابل أي مشروع كان يُحال من محافظة نينوى “على رغم أنه لم يكن يحمل أي صفة في المحافظة وليس موظفاً اصلاً”.

موظف مخضرم في ديوان محافظة نينوى، طلب عدم إيراد اسمه لأسباب أمنية، أوضح أن المكاتب الاقتصادية فرضت نسباً على مشاريع الحكومة المحلية في نينوى أو التي تحيلها لشركات المقاولات تبدأ من 20 في المئة وترتفع بحسب المشروع.

وأوضح أن تلك المكاتب “تتدخل في الكثير من التفاصيل ومنها على سبيل المثال تولي تزويد المشاريع بحديد التسليح، بمعنى أنها تستفيد من بيع الحديد السكراب ومن ثم إعادة بيعه بعد تدويره”.

وأشار الموظف ساخراً وهو يبتسم، إلى أن شيئاً لم يتغير في نينوى، فقبل 2014 كان تنظيم “داعش” يفرض 20 في المئة على مقاولات المشاريع التي يكون ديوان المحافظة طرفاً فيها، وبعده فعلت الفصائل المسلحة الأمر نفسه.

زهير الجلبي الرئيس السابق للجنة إعمار أم الربيعين في نينوى التابعة لرئاسة الوزراء، اتهم قيادة عمليات نينوى والقطعات العسكرية التي تحت أمرتها بالفساد وقال بان السكراب “هرب كل يوم  أمام أعين تلك القطعات من دون أن تقوم بشيء”.

وقال الجلبي عبر حسابه في “فايسبوك”: “الغريب أن قائد العمليات اللواء نجم الجبوري (أصبح محافظاً لنينوى في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019) تم إشراكه في خلية أزمة شكلتها الحكومة العراقية في نهاية عام 2018 لمكافحة الفساد والحد منه غير أن أعضاءها أصلاً من أسباب الأزمة، ربما لكي يغطي أحدهم على الآخر!”، على حد توصيفه.

وسأل الجلبي: “يفترض أن خلية الازمة تم تشكيلها بعد تقرير نيابي كشف عن أن الفساد تقف خلفه القوات الأمنية فكيف شكلت خلية الازمة هذه بعضوية قائد العمليات وقائد الشرطة؟”.

ووصف الجلبي الموصل بـ”الغنيمة”، لمن قال أنهم “فاسدون” وأن الغالبية العظمى من المشاريع التي خططت لها منظمات المجتمع المدني الدولية لمرحلة ما بعد التحرير من داعش، توقفت بسبب الفساد.

التقرير النيابي الذي تحدث عنه الجلبي، قدمته لجنة تقصي الحقائق في الموصل التي تشكلت في أواخر عام 2018 برئاسة رئيس البرلمان الاسبق أسامة النجيفي وعضوية 43 نائباً.

التقرير الذي قدم إلى رئاسة المجلس تألف من 36 صفحة (حصلنا على نسخة منه) وتضمن إشارة الى قيام المكاتب الاقتصادية بتهديد المواطنين لمنع مشاركتهم في المزادات العلنية لبيع السكراب.

واتهم التقرير النيابي المكاتب الاقتصادية بنهب الممتلكات العامة من حديد السكراب وغيره بمبالغ تقدر بالمليارات وأن مكتب الأمانة العامة لمجلس الوزراء هو الذي يمنح الموافقات ويرسل البرقيات الخاصة بها.

وأن هذه المكاتب المدعومة بعناصر الحشد الشعبي ظلت تقوم بنقل الحديد وبيعه خارج نينوى مع أن هنالك قراراً صدر عن مجلس محافظة نينوى في 7/3/2018 نص على “وقف تهريب السكراب وتشكيل لجنة لبيعه أصولياً لمصلحة نينوى”. 

كما نقل التقرير إفادة محمود الشبلي مسؤول لجنة الأمن والدفاع في مجلس محافظة نينوى التي أكد فيها أن المكاتب الاقتصادية في نينوى هي مكاتب حزبية يتلخص عملها بنسبة كبيرة على المتاجرة بحديد السكراب وتهريبه.

وأيضاً ما قاله مدير شرطة نينوى من أن المكاتب الاقتصادية تستولي على الأراضي في الموصل وتهرب السكراب، الى جانب ما ذكره قائممقام الموصل بشأن تهديدات المكاتب الاقتصادية للمواطنين من حضور المزايدات العلنية في الدوائر الحكومية وكان هذا سبب إصرار الحكومة المحلية على إجراء المزايدات داخل مبنى المحافظة.

واحتوى التقرير إقراراً من سيد علي قائد عمليات “الحشد الشعبي” في نينوى بأن قيادياً في الحشد يدعى “أبا رقية” واسمه الكامل تحسين علي حبيب الدراجي يملك كتباً رسمية من رئاسة الوزراء بالعمل والاستيلاء على النفط.

عمليات الفساد تلك التي أشارت إليها اللجنة النيابية، جرت في عهد حيدر العبادي واستمرت في وقت تولي عادل عبد المهدي رئاسة الوزراء، في مؤشر على أن كل شيء حصل تحت أعين الحكومة سواء بإرادتها أو من دونها.

طوال نحو ثلاث سنوات تركز حديث نواب نينوى ومسؤوليها وبعض نشطائها وعامة الناس، على عمليات تهريب السكراب لأنها كانت تحصل أمام أعينهم، وكانت تلال السكراب تختفي تدريجاً من الشوارع والساحات حتى خلت منها أخيراً. لكن عمليات فساد أخرى منظمة جرت بهدوء ولم تحظ بالمتابعة خصوصاً في قطاعي العقارات والنفط. 

فقد تحدث التقرير البرلماني عن تورط فصائل في الحشد الشعبي بسرقة وتهريب النفط بالطريقة ذاتها التي استخدمها تنظيم “داعش”. وكذلك تزوير السجلات الرسمية في دائرة التسجيل العقاري في الجانب الأيسر للموصل، والاستيلاء على الأراضي بالتعاون مع مدير الدائرة وموظفين فيها فضلاً عن بيعها الدور والأراضي التي كان “داعش” يسيطر عليها قبل تحرير الموصل.

وطالب التقرير بمعالجات فورية، وبتحديد من يتولى الأمن في المحافظة وإخراج الحشود ومكاتبها الإقتصادية إلى خارج نينوى ومحاسبة الموظفين المتعاونين معها لمنافع شخصية وإعادة الأمور الى احوالها السابقة فيما يخص العقارات. 

نتج عن التقرير تصويت مجلس النواب العراقي في 24 آذار 2019 على مجموعة قرارات تخص نينوى من ضمنها : “إيقاف كل أشكال التهريب وخاصة الحديد والسكراب والنفط” مع إهمال للعديد من الفقرات الأخرى كالعقارات، لكن هذا التصويت بقي عملياً حبراً على ورق بسبب نفوذ الميليشيات وسطوتها في نينوى.  

وبدلاً من محاسبتها، أحيل عدد كبير من موظفي الدولة، بينهم موظفون في عقارات نينوى وبلديتها الى المحاكم مع أن غالبيتهم كانوا ينفذون أوامر قادة المكاتب بسبب ما تمتلكه من سلطة قرار في المحافظة على الصعيدين الإداري والأمني.

فساد بتواقيع محلية وسكوت الحكومة المركزية

النائب نوري العبد ربه أبرز كتاباً صدر في 23/5/2017 بالعدد 33 حمل توقيع المحافظ المقال نوفل العاكوب ينص على: “الغاء أمرنا الإداري الخاص بطلب شخص يدعى عبد الواحد مكي بنقل الحديد السكراب من مواقع في محافظة نينوى بعد شرائها من الأهالي”.

وعلق عبد ربه: “في ذلك التاريخ كانت الحرب قد توقفت للتو وأكثر من نصف السكان في مخيمات النزوح والمهاجر والبقية يعيشون تحت وطأة الخوف من ملاحقة القوات الامنية بتهمة الانتماء الى داعش وغيرها. فعن أي أهالي يبيعون الحديد تحدث كتاب المحافظ ؟”.

ونفى عبد ربه ان تكون المحافظة قد أعلنت عن بيع السكراب في مزاد علني. وقال: “لم يجر أي مزاد بحضور أهالي الموصل أو نينوى”.

عبد الرحمن الوكاع رئيس لجنة الإعمار في مجلس محافظة نينوى (المنحل) أقر في تصريحات صحفية باستيلاء “الحشد الشعبي” على السكراب الحكومي وما وصفها بالعصابات المرتبطة بالحشد التي استولت بدورها على السكراب العائد للمواطنين.

وقال إنه كتب مذكرة عام 2018 إلى رئاسة مجلس المحافظة “لإصدار قرار يمنع إخراج السكراب والمخلفات الحربية الى خارج نينوى”، كما وجه خطابات الى الحكومة المركزية في بغداد للتدخل، لكن الاجابات التي كانت ترده ضمت إشارات الى وجود موافقات رسمية من رئاسة الوزراء تسمح بإخراج السكراب الى خارج محافظة نينوى، وتأمر الاجهزة الأمنية بعدم اعتراض الشاحنات التي تنقلها.

“حصل كل شيء، عبر تفاهمات سياسية وغطاء أمني، وأحياناً بكتب رسمية”، كما يقول محام تابع الملف. تظهر نسخة من عقد شراكة حصل عليه كاتب التحقيق تهافت تجار ومستثمرين متورطين بملفات فساد كبيرة على تلك الصفقات المغرية. 

أحد طرفي العقد هو رشدي سعيد الجاف وهو شخص متورط ببيع شقق وهمية للمواطنين وصدرت أحكام غيابية بحقه بين 2015 و2018 من محكمة الجنح في دهوك بموجب المادة  456 من قانون العقوبات، بلغ مجموعها 180 سنة سجن. تعهد الجاف الذي كان مجهول الإقامة وقتها بسبب الدعاوى القضائية المفتوحة ضده، بموجب عقد الشراكة هذا تأمين ونقل الحديد السكراب الى الطرف الثاني في أربيل.

تم استخدام وسائل عديدة لتمرير صفقات السكراب، منها عبر تجار محليين من أجل الاستيلاء على السكراب وبيعه لمصلحة الميليشيات ومكاتبها وأمام أنظار أجهزة الدولة المتفرجة بأذرعها المتعددة. 

أكد هذا النائب السابق “عزت الشابندر” حين قال بأن الحديد يسرق وينقل من المواقع التابعة لوزارة الصناعة في الموصل والانبار أمام أنظار الحكومة العراقية دون أن تفعل شيئاً، على حد تعبيره. 

رغم سيل الاتهامات وحجم المبالغ التي نهبت من خلاله، أغلق ملف السكراب من دون محاسبة أحد، وظلت الشكاوى ضد فصائل بالحشد وحتى قرارات اللجان بشأن وقف التهريب حبرا على ورق، فلم يتم مساءلة أحد ولم تسجل المحاكم العراقية أي حكم قضائي يتعلق بسرقة وتهريب السكراب، وخسرت معه نينوى عشرات الملايين من الدولارات التي كانت قد تساهم في إعادة بناء بعض القطاعات. 

وحتى قضية غرق العبارة التي أجبرت الجهات الحكومية “تحت ضغط المأساة” على فتح بعض ملفات الفساد في نينوى ونفوذ الميليشيات فيها، فقد مرت دون محاسبة أحد، وتم إغلاقها بعد أقل من سنة واحدة على رغم تسببها بوفاة 120 شخصاً.

صاحب متنزه على ضفة نهر دجلة اليسرى، شدد على ضرورة إخفاء هويته، قال إنه أضطر لأن يدفع، لمرتين متتاليتين، أموالاً إلى شخصيات قال إنها مرتبطة بعصائب أهل الحق لكي يعيد ترميم المتنزه في أواخر 2017 بعد أن كان قد خرج من يده لأكثر من ثلاث سنوات وتضرر خلال الحرب على داعش.

وقال بأن مجموع ما دفعه بلغ 35 ألف دولار، وهو مبلغ قليل مقارنة بما دفعه أصحاب مشاريع سياحية أخرى مجاورة لمشروعه كما ذكر. لفت إلى أن بعضهم اضطر إلى قبول إدخال تابعين للمكتب الاقتصادي الخاص بالعصائب كشركاء ومساهمين وبعضهم اتخذ العصائب حمايةً، كما فعل صاحب الجزيرة السياحية الذي تسبب بغرق العبارة.

يرى المحامي (أحمد، ب) أن صاحب مشروع الجزيرة السياحية عبيد إبراهيم علي الحديدي الذي عرف بارتباطه بميليشيا “عصائب أهل الحق” أطلق سراحه مع أبنه بعد أقل من سنة على توقيفه، بعد أن منح كل عائلة من عائلات الضحايا مبلغ 10 ملايين دينار مع قطعة أرض سكنية.

ويرى المحامي أن غرق العبارة كشف للعلن عن صلة بعض الجماعات المسلحة ليس باستثمار المواقع السياحية في غابات الموصل وعلى ضفاف دجلة فقط، أو دورها في منح موافقات اجازات المطاعم والمنشآت التجارية، بل أيضا في صفقات اعادة البناء والأعمال التجارية.

ويعرب عن قناعته بأن أهالي ضحايا العبارة تقبلوا الأمر مرغمين بسبب تهديدات مباشرة وغير مباشرة تلقوها لكي يتنازلوا عن الدعاوى التي أقاموها ضد الحديدي المدعوم من الميليشيات وهذا ما يقول بأنه سمعه بنفسه من العديد منهم في لقاءات خاصة : ” لكنهم  يخشون العواقب إن رفضوا او حتى تحدثوا عن الأمر في العلن”.

وتساءل: “أليس هذا فساداً علنياً في أقل تقدير، أن يتم رشوة الناس (على أنها دية) أو تهديدهم ليتنازلوا عن حق شخصي تحت أنظار الجهات الحكومية؟”.

بعد إطلاق سراح عبيد إبراهيم علي الحديدي وغلق ملفه الجنائي، رشح نفسه كمستقل في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في تشرين الأول/ أكتوبر 2021.

وكان جل برنامجه الانتخابي يرتكز على توزيعه مبالغ (الدية) لذوي الضحايا مع قطع الأراضي ووعود بإيصال الخدمات من مياه وكهرباء إليها في حال فوزه، لكن ذلك لم يحدث عقب خسارته في السباق الانتخابي وجمعه 3654 صوتاً، لم تكن كافية لإيصاله إلى مجلس النواب.

*أنجز التحقيق بدعم من شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية

إقرأوا أيضاً: