fbpx

رحلة إلى قندهار بحثاً عن أصل “طالبان”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

رجال، والمزيد من الرجال يتحدثون إلينا، وبين الفينة والأخرى، شبح جسد مغطى بالكامل في الخلفية البعيدة يتحرك سريعاً نحو بيت آخر، في إشارة لوجود النساء (أو غيابهن).

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الكاتب عمل متحدثاً باسم الأمم المتحدة في مناطق صراعات عدة، كان منها أفغانستان أثناء الحقبة الأولى من حكم “طالبان” وبعدها. والمقال فصل من كتاب سيصدر الشهر المقبل عن “دار المرايا”، بعنوان: “من طالبان إلى طالبان”.

كانت الشمس توشك على الاختفاء خلف محال سوبرماركت، في السوق الكبير المواجه لمكتبي في إسلام أباد، عندما تلقيت اتصالاً هاتفياً. يجب أن نذهب إلى كويتا في الصباح التالي ومنها إلى جنوب أفغانستان وغربها، في جولة لتفقد أوضاع الجفاف ومعاناة المزارعين والرعاة. كان ذلك في الحقبة الأولى من حكم “طالبان”، تلك المنطقة، وفي القلب منها قندهار، هي قلب “طالبان” النابض، مذ خرج عليها ومنها هؤلاء الطلبة في اوائل التسعينات مدعومين من المخابرات الباكستانية ليستولوا على المدينة ثم معظم البلاد. وحتى بعد الغزو الأميركي وانهيار سلطة “طالبان” في كابول عام 2001، لم يستغرق الأمر سوى أعوام قليلة حتى تحولت المناطق المحيطة بقندهار في أقاليم هلماند وزابول وأوروزجان إلى معاقل موزعة لفلول “طالبان” التي عادت للتجمع والتجنيد، ثم ما لبثت أن صارت عدواً ذا بأس، يستعمل الكمائن والشحنات الناسفة والانتحاريين ضد قوات حلف الأطلسي، بل ويدخل أحياناً معهم في مواجهات حادة، حتى عاد بعد عشرين سنة إلى السلطة في كابول. 

وقندهار منبع أول دولة في أفغانستان العصر الحديث، حيث خرج منها أحمد شاه دوراني الزعيم الباشتوني عام 1747 ليصبح أول زعيم من الأفغان يسود رقعة واسعة من هذه البلاد ويؤسس مملكة انتقلت عاصمتها إلى كابول بعد ذلك بعقود. وحتى ظهوره كانت السيطرة على أفغانستان محل تنازع مستمر بين الصفويين الفرس في الغرب ومسلمي الهند المغول في الشرق والجنوب والأوزبك في الشمال، طوال 250 عاماً. 

وقندهار هى قلب قبائل الباشتون التي لطالما أزعجت القوى الاستعمارية المحلية والإقليمية والدولية وصارت شوكة لا يستهان بها في حلق قوى التحديث الأفغانية، والتي تحالفت من دون جدوى مع الاتحاد السوفييتي ثم مع الولايات المتحدة والغرب من أجل مشاريع بناء للدولة لم يُكتب لها النجاح. 

وهيمنت قبائل الباشتون منذ القرن الثامن عشر على السلطة السياسية وانحدر منها كل ملوك أفغانستان ومعظم زعمائها وبخاصة من عشائر دوراني التي تأتي من قندهار وهلماند في غرب البلاد. والباشتون أكبر قبائل أفغانستان ويُعتقد أن نسبتهم تزيد عن 35 في المئة من السكان، وأتي منهم حصراً حلفاء باكستان وعملاء أجهزتها الأمنية وأهم حلفاء الولايات المتحدة وأهم فصائل المجاهدين المقاتلين ضد الغزو السوفييتي في الثمانينات، إذ يعيش الباشتون على جانبي الحدود في البلدين. وبعد الغزو الأميركي تولى الحكم حامد قرضاي (2004-2014) وهو زعيم عشيرة بوبالزاي الباشتونية من قندهار، ثم حل محله أشرف غنّي (2014-2021) وهو من عشيرة أحمدزاي الباشتونية من إقليم لوجار.

إلى قندهار إذاً.

طرنا إلى كويتا ثم ذهبنا إلى قندهار من طريق البر عبر مناطق صحراوية وجبلية قاحلة في إقليم بالوشستان الباكستاني. ورويداً رويداً ونحن نقترب من منطقة الحدود رأينا عدداً قليلاً من السيارات وعدداً متزايداً من الحمير وعلى متنها أو يسير بجوارها، مهربون أو تجار محليون، وزادت الحيوانات والسيارات والبشر ونحن نقترب من شامان، نقطة الحدود الباكستانية مع أفغانستان والتي هى في الحقيقة أقرب إلى مركز تجمع للمهربين والرعاة.

امتدت بعض الأسلاك الشائكة أمتاراً قليلة ثم غابت عند تل تعلوه أعلام مهلهلة من القماش الباهت معلقة في صوارٍ مائلة. هذه هي الحدود. وليس بعيداً من نقطة العبور والطريق الرئيسية، تهادت حمير وبغال يقودها فتية صغار وعلى ظهر الحيوانات أكياس ثقيلة من الطحين، بينما سار رجال بالغون وعلى ظهورهم صرر كبيرة. كان الجميع يسيرون إلى داخل أفغانستان بلا مبالاة، بالالتفات إلى أو الذهاب إلى نقطة الجوازات والحدود القريبة على الطريق المعبد. وكان الطفل يحصل أيامها على نحو دولار واحد لنقل جوال طحين عبر الحدود إلى داخل أفغانستان. كان الدقيق مدعماً في باكستان من جانب الحكومة بينما أفغانستان، كما هو حالها عاما بعد الأخر، على شفا مجاعة بسبب الجفاف الشديد وعدم هطول الأمطار. 

وعلى جانب الطريق لمحنا سيارة تحمل شعار الأمم المتحدة، فيها بعض زملائنا من مكتب قندهار. وأخذ أحدهم جوازات السفر إلى حجرة متهالكة من الصفيح وبعض قوالب الطوب، وبعد دقائق عاد بعدما تلقت الجوازات أختام المغادرة الباكستانية وأبلغنا أن الطالب الأفغاني- مسؤول الجوازات على الجانب الآخر- يريد مقابلتنا شخصياً. سرنا وسط بضع حاويات شحن بحري تحولت إلى حوانيت، ووراء مطعم مُشيد من قوالب الطوب الأحمر دون مصاريع أو أبواب خشبية لنصل إلى بيت صغير من الطوب اللبن، حيث مكتب قديم يجلس خلفه مسؤول الجوازات الأفغاني وأمامه جهاز تلفون أسود عتيق. استفسرت منه عن الهاتف العتيق فقال لي إنه معطل. الكثير من صور الأماكن الدينية التي تظهر في الروزنامات قُطعت وثبتت على الجدران، وعدد من الوسائد الطويلة ثنيت وتكدست في الركن. تلك هي الوسائد المستعملة في الكثير من البيوت في جنوب أفغانستان وفي مكاتب طالبان، بما فيها مكاتب حكام الأقاليم، ويستخدمونها في النوم بعد انتهاء يوم العمل في الحجرة نفسها. أخبار ليست بالسارة لمن يعتقدون أن العقوبات الاقتصادية وحدها يمكن أن تغير من سلوك “طالبان” أو أي جماعة مماثلة، إذ إنهم قادرون على المضي في حياتهم اعتماداً على أبسط الإمكانيات المادية- لو استثنينا السلاح ووسائل الاتصال مثل أجهزة الراديو التي تستخدم للإرسال والاستقبال والهواتف التي تعمل على الأقمار الصناعية. حدق مسؤول الجوازات الشاب في وجوهنا وقارنها بالصور الملصقة في جوازات السفر ثم أعطانا الاستمارات المعتادة، وقعناها وانصرفنا. 

إقرأوا أيضاً:

أول منطقة تعاني الجفاف أزورها في حياتي!

بمجرد عبورنا إلى سبين بولداك، أولى المناطق المأهولة في الجانب الأفغاني من الحدود، وجدنا أنفسنا محاطين بحاويات شحن متراصة في صفوف طويلة تتقاطع لتشكل شوارع سوق بضائع ضخم. كانت هناك مئات من ماكينات الخياطة ماركة “سينجر”. ماكينات عتيقة يمكن أن تباع أي منها كتُحَفة في أسواق نيويورك بينما ثمنها هنا عشرات قليلة من الدولارات فقط. أحد المحال/ الحاويات كان يبيع آلات موسيقية (للأجانب على ما أعتقد، فطالبان لا يحبون الموسيقى ويحظرون لعبها والاستماع إليها) ومنها بيانو وغيتارات كهربائية. محل آخر كانت لديه أكداس من أجهزة مزج الصوت، وثالث كاميرات، ورابع أجهزة تلفزيون، إلخ. معظم الأجهزة مستعمل وآتٍ من دبي. وكان بائع “آيس كريم” متجول ينادي على الجيلاتي قرمزي اللون في أطباق صغيرة في وسط السوق. لم تكن تجارته رائجة كما يبدو. وكانت العملة قد انهارت بنحو 20 في المئة خلال الأسبوعين الماضيين لتصل إلى 66 ألف أفغاني مقابل الدولار الواحد، وسيستمر انهيارها في ما بعد لتقارب 76 ألف أفغاني للدولار حتى تغير الحكومة الجديدة بعد “طالبان” العملة ليصبح كل أفغاني جديد يعادل ألف أفغاني قديم وتأرجح سعر العملة حتى قارب المئة أفغاني جديد لكل دولار بعد عودة “طالبان” إلى السلطة في أواخر عام 2021. 

وبمجرد أن انتهينا من السوق انفتحت أمامنا ساحة بيع السيارات. أي سيارة تخطر ببالك ستجدها هنا، سيارات رياضية رباعية الدفع، جيب، تويوتا، هوندا، أميركية، يابانية، كورية، إلخ. كلها مستعملة ومن دبي، وبعضها مسروق من باكستان. 

لم نشترِ شيئاً. 

وكانت هذه أول منطقة تعاني من الجفاف أزورها في حياتي. كنت في سيارة رباعية الدفع ضخمة ومكيفة الهواء، فيها بضع زجاجات مياه معدنية، وصندوق ثلج فيه أطعمة ومشروبات أخرى وأكداس من علب البيبسي. كان علينا أن نمر بالسيارة في مناطق قاحلة شبه صحراوية تدعى ريجيستان (“أرض الصحراء” بالباشتونية) في جنوب أفغانستان. قطعنا جزءاً طويلاً من الطريق سائرين على قاع نهر جاف، لأنه كان أقل حُفَراً من الطريق الترابية. توقفنا بضع مرات لالتقاط صور حيوانات نافقة (ماعز، وجمال، وخراف متناثرة الجيَف). 

توقفنا لنتحدث مع اثنين من الرعاة بدا عليهما إرهاق من شدة العطش والحر. كان والي داد الذي فقدَ معظم حيوانات قطيعه البالغ 30 رأساً من الأغنام، ينتظر عودة أسرته التي ذهبت تبحث عن الماء في منطقة أخرى. لم يكن يدري ماذا سيفعل بعد ذلك. تركناه مع زجاجة ماء بعدما التقطنا صورة له. ثم التقينا عائلتين من الكوتشي (البدو الباشتون الرحل في جنوب أفغانستان وغربها) تسافران على الطريق، بعضهم يركب الحمير التي تحمل بضع حِزَم حشائش وتسير وراء كل منهم أقل من عشر عنزات. كانوا يبحثون عن الماء طيلة أسبوعين في صحراء قاحلة، تسلبهم الشمس التي لا ترحم، والآبار الجافة أغنامهم، الواحدة تلو الأخرى. 

والتقيت مع حاجي مولا داد قرب الحدود مع باكستان في بيت منحوت في سفح تلة صغيرة. وكانت تتناثر على الأرض أمام بيته بقايا ماعز وأغنام نافقة، أتت الديدان على نصفها، والتهم نصفها الآخر ابناء آوى والضواري الأخرى التي لم تنفق بعد. لم تعد مياه نهر أرغستان تمر قريباً من هناك، ما زال المجرى موجوداً لكنه جاف. مسافات طويلة من السير بجوار المجرى لا تظهر سوى الرمال والأحجار في قاعه. قال لي أحد المزارعين إن الماء لم يتدفق في النهر منذ ثلاث سنوات. ابتسم أبناؤه الأربعة للكاميرا. كم من الأطفال فغروا أفواههم دهشةً أو أخفوا أعينهم خجلاً أمام عدسات آلة التصوير التي تأبطتها في كل أسفاري! 

ومرت قرية تلو الأخرى، وخيمة بدو تلو الأخرى، ونحن نرتحل في صحارى تحمل أسماء مثل “صحراء الجحيم” أو “صحراء الموت”، كلها تعاني العطش. وفي طريقنا خلال مقاطعات معروف وشينكاي في إقليم زابول، سمعنا القصة نفسها على لسان فلاحين ألمَّ بهم القلق، أو مزارعين استولى عليهم التوجس، أو رعاة استبد بهم اليأس: سنابل القمح في الحقول التي يرويها المطر ذابلة، ونصف المساحات المروية لا تعد بأي حصاد، نصف قطعان الماشية على الأقل هلكت، والكثير من آبار الماء جفت، وبضعة أنهار (كانت تمتلئ بالماء في هذا الوقت من السنة)، تحولت إلى جداول هزيلة من الماء إن وجدته، وأشجار الفاكهة التي تحتاج سبع سنوات قبل أن تبدأ في طرح ثمارها بعد الغرس في سبيلها إلى الموت. 

 رجال، رجال، والمزيد من الرجال يتحدثون إلينا، وبين الفينة والأخرى، شبح جسد مغطى بالكامل في الخلفية البعيدة يتحرك سريعاً نحو بيت آخر، في إشارة لوجود النساء (أو غيابهن). لم تكن تخرج من النساء سوى البدويات، وكُنَّ لا مباليات وجريئات في التعامل، وذلك برغم اعتراض القرويين من الرجال، الذين ترى الواحد منهم دائماً والمسبحة في يده تتعامل أصابعه مع حباتها، بينما يضع في فمه، بيده الأخرى، قطعة صغيرة مكورة من التبغ. وقبلت هؤلاء النساء البدويات من الكوتشي أن ألتقط صوراً لهن، ولكنهن أردن إجابات عن بعض أسئلتهن. 

سألتني إحداهن بالباشتونية، من خلال المترجم، هل لديكم طعام لنا؟ كنت قد تعبت من الرد التقليدي، ولكنني كررته: فريقنا يقوم بتقصي الحقائق حول الأوضاع والاحتياجات، وحسب، وربما ينتج عن رحلتنا بعض المساعدات، ولكن عليكم أن تقرروا بأنفسكم إذا ما كنتم ستنتظرون في أماكنكم حتى تصل هذه المساعدات المحتملة أم ستواصلون الرحيل بحثاً عن الماء والطعام لأنفسكم ولحيواناتكم. 

كررت الرد، لأن أسوأ نتيجة لمثل هذه الزيارات هو نفخ الأمل في صدور محبطة ومعذبة، ثم العجز عن تحويل هذا الأمل إلى خبز أو طحين في وقت قصير. إذا واصلوا رحلتهم المضنية ربما سيصلون إلى مكان أفضل. المهم ألا يعلقوا آمالهم كلها علينا، ثم نخذلهم.

تمثل أفغانستان حالة نموذجية تتضافر فيها عوامل عدة، حتى أصبح الجفاف والوقوف على شفا المجاعة التي تهدد ملايين السكان، ظاهرة متكررة في العقود الماضية منذ الجفاف العظيم الذي قتل ما قد يصل إلى مئة ألف شخص عام 1972. كان هذا الجفاف بداية نهاية النظام الملكي، إذ عجز الملك ظاهر شاه عن التعامل معه ومما زاد الطين بلة أنه استمر في حياته العادية المرفهة، هو وأسرته في كابول المنعزلة سياسياً عن بقية البلاد، ما زاد من سخط الأقاليم عليه، ولم يجد من يقف بجواره في العام التالي عندما خلعه ابن عمه ورئيس وزرائه محمد داوود خان من العرش وأعلن نهاية النظام الملكي.

في العقود التالية، صار الجفاف ظاهرة شبه سنوية وخاصة بعدما تأثرت البلاد بالحرب الأهلية المستمرة منذ أواخر السبعينات، وصار من المستحيل إقامة مؤسسات قوية تقوم على سياسات جيدة لتوزيع الموارد المحدودة والعمل على استدامتها. وتفاقمت موجات الجفاف مع تعاظم تأثير الاحتباس الحراري الكوني ولم تعد الجغرافيا الأفغانية، مع انتشار التصحر، قادرة بمواردها على تأمين الاحتياجات الغذائية لأهالي البلاد، مع انخفاض نسبة الامطار وتراجع معدلات ذوبان الثلوج من على قمم الجبال، وهما المصدران الأساسيان للري في البلاد. ويعتمد أكثر من 60 في المئة من حوالى 40 مليون أفغاني على الزراعة كمصدر للدخل والحياة. وبات من الطبيعي أن يخرج مسؤولون أمميون سنوياً ويحذروا من أن ثلث الشعب الأفغاني أو أكثر من 13 مليون شخص يواجهون شبح الجوع، مثلما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بعد شهور قليلة من عودة “طالبان” إلى السلطة عام 2021، وتوقف مئات الملايين من الدولارات من المساعدات الغربية احتجاجاً على سياسات طالبان وبخاصة في ما يتعلق بدعم الجماعات الجهادية العالمية، وانتهاك حقوق المرأة والأقليات العرقية والدينية، وزراعة الأفيون. ولطالما دفع هذا الفقر المائي المزارعين للتحول إلى محاصيل نقدية أقل احتياجاً للمياه ومدرة أكثر للدخل وفي مقدمتها الخشخاش الذي يعمل في زراعة أزهاره الملونة، أكثر من 120 ألف أفغاني ويُستخرج منه الأفيون الذي انتجت أفغانستان 80 في المئة من محصوله عام 2020. وتفرض “طالبان” عادة ضريبة نسبتها 10 في المئة على مزارع الأفيون، إلى رسوم أخرى على المعامل التي تحول الأفيون إلى هيرويين، مما يعود عليها بدخل سنوي يتراوح بين أربعين مليون دولار في أدنى التوقعات و400 مليون دولار في أقصاها وهو ما قد يصل لنصف إيرادات طالبان سنويا.   

إقرأوا أيضاً:

مقرّ سلطة طالبان

في نهاية يومنا الأول في صحراء ريجستان، ذهبنا إلى مقر سلطة “طالبان” في مقاطعة معروف في شرق قندهار. بيت كبير له ساحة واسعة جرداء من الشجر ومزروعة بالكثير من رجال “طالبان” المسلحين. قدم لنا ميسار أحمد، نائب مدير المنطقة، أكواباً من الشاي الأخضر. تعلقت على الجدران الملصقات المعتادة: صور زاهية الألوان منزوعة من رزنامات قديمة، بعضها يمثل مناظر طبيعية في مكان ما في أوروبا. لا صور آدمية. صور البشر حرام عند معظم “طالبان”. 

وقال أحمد: “رحل بعض الناس إلى زهوب في باكستان عبر الحدود وأعداد أكبر سوف ترحل قريباً. بعضهم استخدم الغذاء الذي توزعه وكالات الإغاثة لسداد ديونه، وكل الماء الذي ترونه الآن سوف يجف بحلول منتصف الصيف، ولا نتوقع أي أمطار قبل تشرين الثاني/ نوفمبر”. 

– “ولكن ما الذي تفعله سلطات طالبان للمساعدة في حل تلك الأزمة؟”

رد رافعًا يديه إلى السماء: 

– “لو كان لدى طالبان أي شيء لقدمته إلى الناس”. 

المشكلة في الاقتصاد كما يقول! 

– “العملة الأفغانية تنهار وهو ما يزيد من صعوبة شرائنا طعامنا”. 

– “ولماذا تنهار قيمتها؟”

– “هذه أفغانستان. الناس هنا يطبعون النقود”. 

“طالبان” تريد أن تقدم الأمم المتحدة المساعدات. “ولكننا لا يمكن أن نطعم كل المحتاجين فهذا في نهاية المطاف هو دور حكومة طالبان”، كما رد عليه زميلي المسؤول عن عمليات الإغاثة.

ولم يختلف الأمر كثيراً في الجولة الثانية لطالبان في السلطة بعد هذا الحوار بعشرين عاماً، ففي أواخر عام 2021، ناشد وزير الخارجية طالباني أمير خان متقي العالم وبخاصة الولايات المتحدة تقديم المساعدات وإلغاء الحظر المفروض على الأصول الأفغانية في الخارج لتلافي الآثار الإنسانية المدمرة للجفاف والانهيار الاقتصادي.

ليل ريجستان

أمضينا ليلتنا الأولى في صحراء ريجستان في مجمع تابع لإحدى المنظمات غير الحكومية المحلية. حجرة طينية كبيرة سميكة الجدران تتوسطها بضع فتحات صغيرة مغطاة بملاءات بلاستيكية، تلك هي النوافذ. المداخل شديدة الانخفاض (ارتفاعها نحو متر) وعميقة، تشبه الممرات السرية، مثل تلك التي تجدها في أهرامات الجيزة في مصر. كانت هناك أسِرَّة، وضعنا أكياس النوم على الحشايا بعدما تناولنا وجبة شهية من الدجاج والبطاطس. كان كرم الأفغان، في ظل هذا الجفاف الحاد، مذهلاً. عبث كريستوفر بمفاتيح المذياع بحثا عن إذاعة “بي بي سي” على الموجات القصيرة ليستمع إلى نشرة الأخبار، بينما أخرج زميلي مايكل مجلة “الإيكونوميست” من حقيبته الصغيرة ليقرأها على ضوء لمبة الجاز الأصفر المتمايل. ولف الظلام الحقل المحيط بالمبنى الفقير، وجلست ساعة أمام الغرفة ارنو إلى النجوم الكثيرة الساطعة بفضل غياب الإضاءة على الأرض من حولنا. جلس عجوز بالقرب من باب المجمع، وقد أراح مدفع كلاشنيكوف على فخذيه، وتقاطع على صدره حزامان من الذخيرة. كان هذا حارس المجمع المكلف بحمايتنا. 

وفي ليلتنا الثانية، انتقلنا إلى مبنى المركز الصحي الذي انتصب أمام مدخله مدفعان مضادان للطائرات، وبجوارهما كومتان من صناديق ذخيرة مدافع عيار 12.7 صينية الصنع. وقال لنا أحد القرويين في امتعاض إن جيرانه الذين يتضورون جوعاً باشرةا باقتلاع جذور البرسيم، وبعد أن يغسلوها، يقطعونها ويغلونها في الماء، ثم يتناولونها كنوع من الحساء. أرسل لنا رجال “طالبان” لمبة جاز ونصف دجاجة للعشاء، وكنّا في غاية الامتنان بعد يوم شاق ومرهق. لم يكن في المركز ماء أو كهرباء. وبخلاف إعلان ملصق على الباب عن حملة للقضاء على شلل الأطفال منذ أعوام عدة، لم نجد ما يدل على أننا في مرفق طبي، لو نحينا جانباً منضدة العمليات البالية المحطمة، والتي رأيت بجوارها بقايا فأر ميت فى منتصف الطريق إلى دورات المياه النتنة الرائحة. وتراصت صناديق ذخيرة ممتلئة على حافة النافذة المغلقة. وفي الصباح، وجدت أن الحجرتين المجاورتين كانتا تُستخدمان مخزناً للذخيرة، وفيهما عشرات الصناديق التي كان يعلوها عدد من الألغام الضخمة المضادة للدبابات. 

كم كنت سعيداً بمغادرة مركز المتفجرات هذا في السابعة إلا الربع صباحاً متجهاً إلى عاصمة المقاطعة. وكان حاكم المقاطعة غائباً في اجتماع في قندهار، ولكن نائبه كان هناك يجلس في ركن المكتب على أريكة حمراء. واصطفت أرائك مشابهة بمحاذاة جدران الحجرة بينما غطت سجادات حمر صناعية رديئة أرضية الحجرة في تناقض حاد مع السجاد الأفغاني رائع الجمال الذي يملأ البازارات في كابول، وقندهار، وكويتا، وإسلام آباد، وبعض المدن الأوروبية. وعندما دق جرس الهاتف الذي يعمل على الأقمار الصناعية، رفع طالباني الشاب ذو العمامة السوداء السماعة القابعة على منضدة بجوار الووكي توكي. وبدا لي أن أجهزة الاتصالات هي الشيء الوحيد الذي تنفق عليه “طالبان” الأموال. وقال لي صحافيون باكستانيون إن معظم هذه الأجهزة كان هدية من وزير داخلية في عهد رئيسة الوزراء بينظير بوتو، لأنه كان يرعى “طالبان” في مواجهة جهاز المخابرات الذي استمر في دعم قلب الدين حكمتيار زعيم الحزب الإسلامي.

وكان الحوار مع نائب حاكم المقاطعة مشابهاً لكل حواراتنا مع قادة طالبان في المنطقة المنكوبة: على المجتمع الدولي أن يقدم المساعدات لأن طالبان عاجزون عن الوفاء باحتياجات الشعب. مفارقة مذهلة أن يتوقع طالبان من المجتمع الدولي، الذي كان ساعتها يفرض عليهم عقوبات بسبب إيواء بن لادن ورفاقه، أن يقدم لهم المساعدات. ولكنه في الحقيقة كان يقدمها. المشكلة أنها لم تكن تكفي وأن “طالبان” بأسلوب إدارتها وحكمها كانت عاجزة عن التعامل مع كارثة الجفاف أو الانهيار المدوي في اقتصاد البلاد المنهك بعقود الحرب الأهلية. كان اقتصاد أفغانستان أيامها، وما زال، قائماً على الزراعة وتجارة الهيرويين والسلاح والتحويلات من العاملين في الخارج.

وفي مستشفى المدينة دعانا المدير لدخول حجرة العمليات، ولكننا تراجعنا عندما وجدنا عملية جراحية هناك. كانت النساء يتلقين العلاج في المستشفى نفسه. فعلى عكس ما تورده الكثير من التقارير الإعلامية، كانت النساء، في هذا المستشفى وفي مستشفيات أخرى، يتلقين العلاج، بالقدر نفسه من السوء الذي يتلقاه الرجال، على يد أطباء من الرجال. وكانت هناك ممرضتان أيضاً. وبلغة إنكليزية سليمة التمس منَّا جراحٌ أفغاني غطت بقع دم كبيرة مريلته الخضراء، أن نرسل إلى المستشفى بعض الأدوات الجراحية. 

تمثل أفغانستان حالة نموذجية تتضافر فيها عوامل عدة، حتى أصبح الجفاف والوقوف على شفا المجاعة التي تهدد ملايين السكان، ظاهرة متكررة في العقود الماضية منذ الجفاف العظيم الذي قتل ما قد يصل إلى مئة ألف شخص عام 1972.

في قندهار…

وبعد ساعات أربع من السفر من مقاطعة معروف، وحادث سيارة واحد، وصلنا إلى قندهار للاجتماع مع الوالي. كنا مسافرين في سيارتين على طريق جعلته الحفر المتناثرة والمطبات المفاجئة أسوأ من الطرق الترابية والصحراوية غير المسفلتة. كانت السيارتان تسيران في خطوط منحنية لتفادي الوقوع في مطب عميق مفاجئ. وأفلتت سيارتنا من أحد المطبات، لكنه اصطاد السيارة الثانية بسائقها قليل الخبرة. وفي محاولته تحاشي التصادم مع سيارة مقبلة من الاتجاه الأخر، انقلبت سيارته مرتين. وكان الركاب المحظوظون قد ربطوا أحزمة الأمان قبل الحادث بعشر دقائق فقط، على حد قول السائق. وأصيب بعض زملائنا بقطوع وجروح بسيطة وعانى أحدهم من ارتجاج شفي منه سريعاً. 

وصلنا منزل الحاكم الملا محمد حسن رحماني وهو من المجاهدين الأوائل منذ الثمانينات ولديه على ذلك دليل: ساق صناعية عوضاً عن تلك التي فقدها بسبب لغم أرضي، أثناء هجوم على قاعدة سوفييتية. وجلس إلى جانبي رجل أفغاني غير ملتحٍ، ويرتدي بدلة كاملة، وربطة عنق حمراء محلاة بزهور كبيرة، تدلت أمامه عندما انحنى ليلتقط المزيد من حبات العنب أثناء حديثه إلى رجال “طالبان” الذين كانوا يملأون الحجرة. كان يحاول أن يبيعهم خطة لإعادة تأهيل بضعة مصانع كانت في قندهار. قال لي إنه كان وزير الصناعة في عهد الملكية ويبيع خدماته الآن لحكام “طالبان”. قدموا لنا فواكه مجففة رائعة المذاق وهو ليس غريباً على بلاد كانت في سنوات استقرارها توفر نصف استهلاك العالم من العنب المجفف وكماً هائلاً من الفواكه الأخرى. 

أطلعنا الملا حسن عندما حل موعد اجتماعنا على تقريرنا المبدئي حول أثر الجفاف المروع في منطقة قندهار والمناطق المجاورة. ومثل بقية رجال “طالبان” الذين التقيناهم هوَن الملا حسن من المشكلة. كان يرى الحل في المزيد من المساعدات الدولية، وقال إنه لو رفعت الأمم المتحدة والدول الكبرى العقوبات المفروضة على أفغانستان، لما كانت مشكلة الجفاف بهذه الحدة. في الحقيقة لم تكن العقوبات السبب الرئيس، بل عقود الحرب الأجنبية والأهلية وحروب الوكالة وضعف الاقتصاد الوطني وانهيار الزراعة صاحبة النصيب الرئيس من الدخل القومي بسبب هذه الاضطرابات كلها. كان الجفاف مثل الضربة الأخيرة القاضية في وجه ملاكم يترنح.

وفي رحلتي التالية إلى قندهار، كان الملا حسن قد اختفى، وحكومة الرئيس الجديد حامد قرضاي تحاول فرض النظام بقليل من النجاح، وكان هناك بصيص واضح من الأمل في المدينة. وبعد وجبة العشاء في مقر منظمة دولية، جلست على الأرض أنا وأحد خبرائها الذي كان يرتدي صدرية أفغانية مطرزة. وكان الرجل صاحب خبرة طويلة في قندهار ويرى أن الأفغان تعبوا من الحرب والقتال، وهم سعداء بالتغيير بعد ذهاب “طالبان” وإن كانوا قلقين بعض الشيء. ولخص الموقف قائلاً: “كانت الحملة الأميركية ناجحة عسكرياً، لكنها كانت كارثة بمقاييس الأوضاع الإنسانية وحقوق الإنسان”.

وبدا التحول بطيئاً ومسَّ المظاهر أولاً، إذ فُتحت محال لأفلام الفيديو في قندهار وهوجم بعضها لأن الأفلام لم تكن “مقبولة”، أي أنها احتوت على مشاهد عري أكثر من المسموح به في أفغانستان مثلاً. واستُؤنفت زراعة الأفيون على أوسع نطاق بعدما نجح “طالبان” في إيقافها لنحو العام تقريباً، في محاولة للتقرب من الغرب. وحصل تحسن ملحوظ في الخدمات والبنية التحتية.

لكن التركيز الأميركي على مطاردة “طالبان” وفلول “القاعدة”، سرعان ما أفسد علاقتهم بأهالي المدينة والأقاليم، بخاصة مع تزايد أعداد المدنيين القتلى في المواجهات بين طالبان والقوات الأميركية، حتى لو كانت “طالبان” مسؤولة عن النسبة الأكبر من هؤلاء القتلى. كان الوجود الأميركي أيضاً مذلاً ومهيناً لكبرياء الباشتون، كما قال الملا عبد السلام ضعيف، سفير “طالبان” السابق في إسلام آباد، عندما مرت قافلة جنود أميركية بجوار سيارته قرب قندهار في أواخر عام 2007. وقال ضعيف: “تسمر الجميع وتوقفت السيارات على جانب الطريق بينما تطاير الرصاص من اعلى العربات المدرعة… وجه الجنود بندقياتهم نحونا على طول الطريق وأخذوا يصرخون في وجوه الناس كالحيوانات… وأحسست بالغرابة والخوف… أزعجني أن أرى الأجانب يتصرفون بهذا الشكل، لا يجدر بهم أن يكونوا هنا أصلاً، هم ينظرون إلى كل شيء كعدو لهم: البشر والحمير والأشجار والصخور والمنازل، يخافون من كل شيء، ولا يفعلون شيئاً سوى سفك الدماء وقتل الناس واستثارة مشاعر الحقد تجاههم وتجاه الحكومة… كنا يومياً على موعد مع اشتباكات وتفجيرات ومزيد من الدمار والقتل”. 

وزاد من الشعور بالمهانة والإذلال اعتقال وتعذيب كثر من المتعاطفين مع “طالبان” أو أعضاء الحركة أو حتى بعض المشتبه في تعاونهم معها، بناء على معلومات كان يقدمها أحياناً خصوم يريدون إيقاع الأذى بالمشتبه بهم. وهناك تقارير خاصة أصدرتها منظمات حقوقية دولية بشأن وقائع ووسائل تعذيب الأفغان في سجون أشرف عليها جنود أميركيون في قندهار وقاعدة باغرام وفي غوانتانامو. وشملت وسائل التعذيب عام 2003 في سجن أميركي في مطار قندهار، الحرمان من النوم وتعريض المساجين للبرد القارس والضرب المبرّح وتصوير السجناء عراة وتركهم مقيدين لفترات طويلة في أوضاع مؤلمة. وفي سجن قاعدة باغرام الجوية كانت هناك زنازين عزل في الطابق العلوي حيث احتجز حكيم شاه بعد الاشتباه فيه. وفي الأيام العشرة الأولى، تم إجباره على البقاء عارياً ما عدا رأسه المغطى بكيس بالكامل، بينما كان معصماه مقيدين بسلسلة للسقف. وقال شاه: “لم يكن لدي أي ملابس، وكنت اشعر ببرد شديد. لم يتركوني أنام ليلاً أو نهاراً”. وبحلول اليوم العاشر كانت رجلاه وقدماه قد تورمتا لدرجة أن قيوده صارت تحز في جلده وفقد الإحساس في رجليه. ولكن حكيم كان أسعد حالاً من المساجين الذين ماتوا في هذه السجون أو خرجوا منها بعاهات أو أمراض مستديمة. وقدم عبد السلام ضعيف وصفاً مرعباً للإذلال الذي تعرض له على يد الجنود الباكستانيين والأميركيين منذ القبض عليه في إسلام آباد في أوائل عام 2002، ونقله إلى سجون متعددة واستجوابات لا تنتهي وتعذيب بين بيشاور وباغرام وقندهار وغوانتانامو حتى الإفراج عنه. وعام 2003 قال الرئيس الأميركي جورج بوش إن القوات الأميركية اعتقلت 3000 إرهابي في دول عدة،  بينما اختلف مصير إرهابيين آخرين، “إذ لم يعودوا يمثلون مشكلة للولايات المتحدة ولأصدقائنا ولحلفائنا” في إشارة واضحة إلى مقتلهم. ولم يتم توجيه اتهامات بالقتل لأي جندي أميركي من الذين عملوا أثناء فترة سجن حكيم شاه في باغرام، حيث مات سجين واحد على الأقل بسبب التعذيب، بل وتم نقل فريق مخابرات عسكرية أميركي تولى التحقيق مع المحتجزين في أفغانستان إلى سجن أبو غريب في بغداد، عقب الغزو الأميركي للعراق، برغم تقارير حقوقية عن مقتل ثلاثة سجناء على الأقل في أفغانستان، بسبب التعذيب وإساءة المعاملة أثناء الاحتجاز في معتقلات أميركية في عامي 2002 و2003. وفي أبو غريب واصل هؤلاء المحققون الأميركيون استعمال وسائل الإهانة السادية المرعبة وتعذيب النزلاء حتى فضحهم جندي أميركي سرّب صور هذه الممارسات، ونشرها الصحافي الأميركي سيمور هيرش.

إقرأوا أيضاً: