fbpx

“عشق الغلمان”: استغلال الأطفال في ظل “طالبان”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“لم نكن نأخذ الأولاد بالقوة، بل هم الذين يأتون بأنفسهم. وفي أغلب الأحيان، يختارون… الرجل الأكثر نفوذاً للبقاء معه، ولكن إذا أسأت إليهم أو لم تدفع لهم ما يكفي من المال، فسوف يتركونك ويذهبون إلى شخص آخر”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الكاتب عمل متحدثاً باسم الأمم المتحدة في مناطق صراعات عدة، كان منها أفغانستان أثناء الحقبة الأولى من حكم “طالبان” وبعدها. والمقال فصل من كتاب سيصدر الشهر المقبل عن “دار المرايا”، بعنوان: “من طالبان إلى طالبان”. 

نشرنا الجزء الأول من المقدمة وهنا الجزء الثاني.

مع تدفق الأموال من التهريب والمخدرات وزوال قبضة “طالبان” الحديدية أمنياً وأخلاقياً في حقبة حكم “طالبان” الأولى لأفغانستان، عادت إلى قندهار ظاهرة اختطاف الصبيان بغرض استغلالهم جنسياً. وأعرب كثر من أرباب الأسر عن قلقهم الشديد من عمليات الخطف حتى إنهم منعوا أولادهم من مغادرة المنازل. 

وينتشر عشق الغلمان بين قطاعات من الرجال الأفغان في أنحاء البلاد، وكانت هذه العلاقات الجنسية علنية أكثر في الماضي، حتى إن الرجل كان يسير في الأسواق وفقاً لروايات تعود للنصف الأول من القرن العشرين وغلامه يسير أمامه بينما تسير زوجته خلفه، ولكنها لم تختف تماماً، إذ استمرت ظاهرة “لعب الغلمان”، وهي استغلال أطفال تتراوح أعمارهم بين السابعة والرابعة عشرة للرقص والإتيان بحركات خليعة أمام الرجال، بعد ان يضعوا مساحيق التجميل على وجوههم ويرتدوا ملابس النساء. وفي نهاية الحفلة يقدم الغلمان خدمات جنسية للرجال. ويُجبر كثر من هؤلاء الأطفال على ممارسة هذا السلوك بعد ان تبيعهم عائلاتهم الفقيرة أو تختطفهم عصابات بينما يحترفه بعضهم “طواعية” ويصيرون باعة جنس. وكان البعض يبرر هذا السلوك أنه ليس زنا وأنه أقل ضرراً بالمجتمع من العلاقات المحرمة دينياً بين الجنسين، على رغم أن القانون الأفغاني يجرمه بينما فرض حكم “طالبان” في الماضي عقاباً بالإعدام على المرتكبين، كالحكم في حالة المثلية الجنسية. وظل هناك بعض غموض في ما يتعلق بأصل التحريم الديني لهذه الممارسات وطبيعته، بخاصة أن تاريخ المجتمعات ذات الأغلبية الإسلامية يوجد به أمثلة لسلوك مشابه، ولكنه لا يصل لهذا المستوى من العلانية والقبول الاجتماعي مثلما كان (أو ما زال) الحال في فئات اجتماعية معينة في باكستان وأفغانستان. 

ووفقاً للحكايات المنتشرة يعود جزء من نجاح طالبان في السيطرة على قندهار عام 1995 لتأييد أهالي المدينة الذين كانوا يعانون ساعتها من صراع مروع بين اثنين من القادة الباشتون المحليين للمجاهدين حشدا قواتهما ومدرعاتهما بسبب نزاع حول من منهما يستحق صحبة غلام وسيم. وبعد انهيار “طالبان” بأعوام طويلة، قال مقاتل سابق في التحالف الشمالي الذي كان يتزعمه أحمد شاه مسعود في حوار مع شبكة الأنباء الإنسانية أنه “كان يمتلك صبياً يبلغ من العمر 14 عاماً… ولم يكن يعطي الغلام راتباً، ولكنه كان يدفع كل نفقاته، التي تتراوح بين 300 و400 دولار في الشهر… وهناك نوعان من الغلمان: أولئك الذين يمكنهم الرقص بشكل جيد ويتم الاحتفاظ بهم للترفيه، وأولئك الذين لا يمكنهم الرقص ولذلك يتم الاحتفاظ بهم لأغراض جنسية فقط. كنت أحتفظ بفتاي لممارسة الجنس معه فقط”. وقال مقاتل من إقليم كندوز في التقرير نفسه: “لم نكن نأخذ الأولاد بالقوة، بل هم الذين يأتون بأنفسهم. وفي أغلب الأحيان، يختارون… الرجل الأكثر نفوذاً للبقاء معه، ولكن إذا أسأت إليهم أو لم تدفع لهم ما يكفي من المال، فسوف يتركونك ويذهبون إلى شخص آخر”. 

وشارك بعض الغلمان في هذه العلاقات الجنسية بسبب الفقر مثل فتى عمره 17 عاماً من قرية فقيرة في منطقة سانجين بإقليم هلمند الجنوبي، قال لمحرر التقرير إن والديه كانا يعرفان ما يقوم به وأن الاحتفاظ بالغلمان منتشر جداً في الجنوب لدرجة أنه “لا توجد مشكلة” متعلقة بهذه الممارسة. كان هذا الفتى بلا عمل ومكنه بيع جسده من أن يملك ملابس غالية ومالاً وسيارة وحياة أفضل بكثير مما كانت عليها حياته في القرية. ويظل من المذهل استمرار هذه الممارسات التي تلحق ضرراً نفسياً واجتماعياً بالغاً بالصبيان في بلد محافظ اجتماعياً ودينياً، بل إن “طالبان” أنفسهم وفقاً لتقارير أممية وأميركية استغلوا هؤلاء الغلمان في الإيقاع ببعض رجال الشرطة في الأعوام القليلة السابقة على عودتهم للسلطة من أجل الحصول على معلومات او القيام بأعمال تخريب.

مع تدفق الأموال من التهريب والمخدرات وزوال قبضة “طالبان” الحديدية أمنياً وأخلاقياً في حقبة حكم “طالبان” الأولى لأفغانستان، عادت إلى قندهار ظاهرة اختطاف الصبيان بغرض استغلالهم جنسياً.

وما زاد الطين بلة في قندهار ومدن أفغانستان الأخرى في فترة الاحتلال الأميركي هو الثراء الفاحش لعدد محدود من المواطنين بفعل التدفقات النقدية الأميركية الهائلة من أجل التعاقدات مع الجيش الأميركي الذي كان ينفق مئات الملايين من الدولارات يومياً في المتوسط. وشعر كثر من الأفغان بالغضب بسبب تفشي الفساد والمحسوبية وعودة أمراء الحرب القدامى، وباتوا لا يصدقون وعود حكومتهم او التصريحات الأميركية، إذ لم يحصل تحسن ضخم في حياتهم اليومية وقدرتهم على تلبية احتياجاتهم الأساسية أو الحصول على الخدمات الصحية والتعليمية وبخاصة خارج المدن الرئيسية، حيث عاد “طالبان” تدريجيا لتكوين شبكاتهم والسيطرة على الحياة اليومية وضمان الأمن والأمان للمواطنين.

وكان أحمد والي قرضاي، السياسي النافذ في منطقة قندهار وشقيق الرئيس، واحداً من أشهر الفاسدين في الطبقة السياسية الجديدة، واتهمته جهات عدة بالضلوع في تجارة المخدرات وغسيل الأموال وقتل معارضيه. وحاول الأميركيون التخلص منه أكثر من مرة، وفي النهاية أوعز مسؤول أميركي كبير للرئيس قرضاي أنهم قد يتوقفون عن الضغط بشأن اتهامات الفساد حيال احمد والي وآخرين، إذا ما توقف الرئيس قرضاي عن انتقاداته العلنية للقوات الأميركية في مقتل مئات المدنيين الأفغان الأبرياء في غارات جوية. ويدعي قرضاي أنه رفض التوقف عن هذه الانتقادات مما كان السبب في حملات دعائية ضد عدد من كبار مسؤولي حكومته بدعوى تورطهم في الفساد. ولا يعني هذا أن أحمد والي لم يكن فاسدا فالقرائن ضده كثيرة، لكنه كان قوياً للغاية في قندهار وحولها ويدير ميليشيات قوية، ما دفع الأميركيين في النهاية لتنفيذ المقولة السائدة في واشنطن والمنسوبة للرئيس السابق ليندون جونسون بشأن خصومه ذوي الخطورة: “من الأفضل أن أحتفظ به داخل خيمتي يتبول على من هم بالخارج بدلاً من أن يظل في الخارج يتبول علينا!”. وهكذا قرر الجنرال ديفيد بيترايوس قائد العمليات العسكرية الضخمة التي وافق عليها الرئيس أوباما أن يدعم أحمد والي ويتعاون معه في منطقة قندهار ويتغاضى عن تورطه المزعوم في تجارة المخدرات والتواطؤ مع بعض قادة طالبان. واستمر هذا التعاون حتى تموز/ يوليو 2011 عندما قرر أحد الحراس المقربين لأحمد والي أن يفرغ رصاصه في جسد الرجل.

إقرأوا أيضاً:

وبعد الاجتماع مع والي قندهار في حكومة “طالبان” عقب رحلتنا الصحراوية المرهقة مباشرة، ذهبنا أخيراً إلى دار الضيافة التابعة للأمم المتحدة حيث تمكنت أن أستحم للمرة الأولى منذ مغادرة كويتا قبل نحو أربعة أيام. وحول وجبة العشاء، استمتع مدير الدار الأفغاني باستعادة لغته العربية باللهجة المصرية معي فأخذ يقص عليّ الكثير من القصص عن القاهرة، التي كان يسافر إليها كرجل أعمال منذ سنوات عدة. وكان يتحسر على أيام ولَّت ويقول: “صحيح أن طالبان وفروا المزيد من الأمن، ولكنك لا تستطيع أن تلبس هذا الأمن أو تأكله. لم ينفقوا شيئاً على المستشفيات أو التعليم، ويأخذون عُشر غلة أي أرض، وعليك أن تدفع خمسين ألف روبية باكستانية (نحو ألف دولار آنذاك) عن كل ابن لا تريد إرساله للخدمة العسكرية”. 

وفي اليوم التالي وقبل التوجه إلى مطار قندهار، ذهبت لزيارة المسجد الكبير. كنت أريد أن أرى العباءة التى يؤمن كثير من الأفغان أنها تخص الرسول محمد ويسمونها “الخرقة الشريفة”. ولكن الغرفة التي كانت العباءة تنام في خزانة مغلقة داخلها كانت موصدة. ولم تخرج العباءة من خزانتها سوى مرات معدودة في التاريخ كان آخرها عندما تلفع بها الملا عمر، الزعيم المؤسس لحركة “طالبان”، ووقف على سطح المسجد و”طالبان” يبايعونه أميراً، وهم يكبرون ويهللون فرحاً بنصرهم في منتصف التسعينات. وغير بعيد من المسجد، زرت ضريح أحمد شاه دوراني مؤسس الدولة الأفغانية الأولى في منتصف القرن الثامن عشر. وسار معي حارس المسجد لقراءة شواهد قبور بعض أفراد العائلة المالكة من القرنين السابقين والتي تناثرت في إهمال خلف الضريح وقد تحطمت بعض شواهدها ونمت الأعشاب بينها وإن كانت زخارفها وخطوطها العربية الجميلة ما زالت واضحة. 

ومن نافذة الطائرة الصغيرة في مطار قندهار، وقريباً من ممر الإقلاع حيث كانت طائرتنا الصغيرة تستعد لرحلتها نحو إسلام آباد كانت هناك مقبرة لطائرات الهليكوبتر التي فقدت مروحة، أو ذيلاً، أو حتى نصف بدنها. وكان محيط المطار محاطاً بالكامل بسياج من الأحجار الحمر وخط من الأسلاك الشائكة، دلالة على انتشار الألغام.  سيقوم الأميركيون بإزالة معظم هذه الألغام في الأعوام التالية ليصبح هذا المطار أكبر قاعدة عسكرية في البلاد، حيث تعدى عدد الجنود الأميركيين هناك 30 ألف بعد قرار باراك أوباما إرسال عدد ضخم من القوات وتعيين الجنرال ستانلي ماكريستال قائداً لها في بداية فترته الرئاسية الأولى عام 2009. ومثل موجات المد والجزر سينجح هؤلاء الجنود أحياناً في “تطهير” مناطق كبيرة من أفغانستان من وجود “طالبان”، ولكن مثل السمك في بحر سيعود “طالبان” مرة ومرات حتى يدرك الأميركيون استحالة نجاحهم، ولخص ميلتون بيردن ضابط المخابرات الأميركية الذي أشرف على تسليح المجاهدين الأفغان في الثمانينات: “لكي تكسب حرباً بين قوات نظامية وميليشيات مسلحة متمردة يجب أن تكون في جانب التمرد وليس في الجانب الآخر”. ولكن الأميركيين في نهاية المطاف بشكل ما أو بآخر وبأثمان باهظة ضمنوا لفترة طويلة مقبلة ألا تصير أفغانستان مرة أخرى مأوى للإرهاب أو الجهاد المسلح العالمي تحت رعاية الدولة الأفغانية، حتى لو كانت هذه الدولة خاضعة لسيطرة “طالبان”، بل إن المعارك الرئيسية التي تخوضها القاعدة ومن خلفها تنظيمات الدولة الإسلامية (الدواعش) صارت في الأغلب مع قوات “طالبان” نفسها.

إقرأوا أيضاً: