fbpx

“ست الدنيا” لزياد عيتاني: اليأس كخشبة خلاص

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

فيما كان الكاتب والممثل زياد عيتاني يحضّر لعرض مسرحيته الجديدة “ست الدنيا”، كان رأس النظام اللبناني يضع لمساته الأخيرة على واحدة من أوقح مسرحياته الأمنية والقضائية والسياسية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لمسات النظام تمثلت “بمكافأة” المقدم سوزان الحاج، التي فبركت تهمة العمالة لعيتاني وتسببت بحبسه وتعذيبه زوراً، بترقيتها إلى رتبة عقيد. 

يوحي عنوان المسرحية والظروف التي ترافق عرضها بأن عيتاني يريد الهروب بنا من واقع مرير ترزح تحته البلاد وعاصمتها إلى الزمن الجميل الذي يتغنّى به جيل من اللبنانيين الذين عاصروا فترة ما قبل الحرب الأهلية، حين كانت “الأيام حلوة” و”الناس قلوبها على بعضها” على حد قول أميرة، بطلة المسرحية، وهي شخصية حقيقية تروي من خلال قصة حياتها، قصة “ست الدنيا” بيروت وبعض تحولاتها المفصلية التاريخية، السياسية والاجتماعية. 

إلا أنه وفي تلك “الأيام الحلوة”، قام رجال العائلة، وهم من التجار البيروتيين الأثرياء، بتزويج الطفلة أميرة لابن أحد التجار الذي يكبرها بعقود في صفقة مربحة لتعيش معه فصولاً من الشقاء النفسي والجسدي. وفي لحظة حرّية نادرة، حاولت أميرة أن تنتفض على واقعها فطلبت الطلاق وعادت إلى منزل والدها وقد عزمت على أن تستقلّ بنفسها وتعيل أولادها. سرعان ما قام والدها طبعاً باستغلال ما قامت به لمصلحته وأوكل إليها مهمة إدارة أعماله وشؤون المنزل.

رجلٌ آخر، استغل حب أميرة له ليستفيد من نفوذ عائلتها، فتزوجته ساعيةً إلى حياة ملؤها الحب والطمأنينة، إلى أن عاشت تداعيات قلّة مسؤوليته ومغامراته الطائشة مع بعض التنظيمات السياسية والعسكرية.

وبعدما تمكنت أميرة من التحرر من لعنة بلادها والسفر إلى مصر برفقة زوجها، اضطرت إلى العودة مجبرةً بعدما توارى الأخير عن الأنظار هناك، فاختبرت ويلات الحرب التي عصفت بلبنان.

إقرأوا أيضاً:

على مدى سنوات عمرها، صودر صوت أميرة وقرارها واستبيح جسدها ورُوّضت ثورتها، وأملت الحرب المجنونة عليها حياتها، وعلقت في شبكة حبكها لها رجال المنظومة الذكورية. شُوّهت طموحاتها وتطلعاتها الشخصية، من دون أن تغيب عن وجدانها بقايا نفح ثوري لم يتمكن الزمن من وأده بالكامل. يبدو إذاً أن زمن أميرة الجميل يكاد يقتصر على بعض الجلسات التي أمضتها بمفردها وهي تستمع لأغنيات محمد عبد الوهاب أو تشاهد الأفلام القديمة فيما تمرّ أمام عينيها ومضات أحلامها التي لم تتحقّق.

وفي إسقاط على واقعنا، يعرّي العمل المسرحي بعض المبالغات عن ماضٍ ذهبي عاشه اللبنانيون، ويرسّخ حقيقة مرّة تقول بأن ما يختبرونه اليوم ما هو إلّا امتداد لممارسات نظام سياسي واجتماعي، أبوي وميليشاوي كان ولا يزال يتحكم بكل مفاصل السلطة والمال والنفوذ، وتستمر وجوهه نفسها في حكمنا راهناً. نظام وحشي يقضم الأعمار ويغتال الأحلام، يسحق أجساد النساء وحياتهن ويشرّع قتلهن على أيدي رجال يمتلكون الامتيازات المطلقة في البيت والشارع والعمل. نظام ينحر الثورات على أشكالها في مهدها، يمجّد القاتل ويمعن في التنكيل بالمقتول. 

وعلى رغم فظاعة ارتكاباته بحقها، تكيل أميرة المديح لوالدها باعتباره “شاطر وقدير”. يعكس ذلك علاقة سامة تشبه إلى حد كبير علاقة بعض اللبنانيين بزعمائهم بحثاً عن أمان مزيّف، وتشبه أيضاً موقف بعض المدافعين بوقاحة عن المقدّم الحاج التي ثبت ارتكابها أفعالاً جرمية، آملين بالاستفادة مما قد ترميه لهم من فتات تنفيعاتها.

تعيش أميرة اليوم وحيدةً بعدما هاجر أبناؤها. تتظاهر بالرضا فهي “مش ناقصها شي”، إلّا أن يُخترق ذلك النكران بصوت صراخها في وجه شبح والدها في ختام المسرحية: “كان بدي تكون حنون معي أكثر يا بيي”. وفي صراخها تُسمع اسئلتنا جميعاً: ماذا لو كانت بلادنا أكثر رأفة بنا؟ ماذا لو لم يكتب لنا أن نستجدي حقوقنا؟ ماذا لو لم تكن حريتنا حلماً نفني عمراً في سبيله؟ وماذا لو لم يكن الاشتباك اليومي مع وحوش المال والدماء قدراً محتماً؟ 

قد يأخذ البعض على عيتاني أنه اكتفى باسترجاع الماضي من دون الدعوة إلى استخلاص العبر التي تؤسس لمواجهة مع السلطة في سبيل مستقبل أقل سوداوية. في حالة زياد وغيره من اللبنانيين، بات اليأس مشروعاً. في وجه نظام مافيوي قمعي متعطش للموت بكل أشكاله، يصير اليأس خشبة خلاص. فهو يدفع بالناس إما إلى انتظار موتهم بصمت، أو محاولة النجاة بما تبقّى من أعمارهم إلى خارج حدود المقتلة، لكن زياد لم ييأس بعد. 

يقول الناشط الحقوقي المصري المعتقل في السجون المصرية علاء عبد الفتاح: “المطلوب منا فقط أن نصرّ على أن ننتصر للحق، مش مطلوب منا أن ننتصر في انتصارنا للحق، مش مطلوب منا أن نكون أقوياء في انتصارنا للحق، مش مطلوب يكون عندنا خطة كويسة أو تنظيم كويس، مطلوب منا بس أن نتمسّك في انتصارنا للحق”.

تكفي إذاً تلك المسرحية التي تعرض على مسرح مترو المدينة ، لتقول إن زياد عيتاني لا يزال هنا. يحاول، يكتب ويمثّل، ويتشارك النجاحات مع ابنته أمام جمهور يشاهده، يصفق له، ينتقده ويشجّعه… ولا يزال هناك ضوءٌ خافت منبعث من أحد مسارح بيروت، العاصمة الغارقة في عتمة حالكة. 

يُذكر أن المسرحية هي كتابة مشتركة لعيتاني وهشام جابر وخالد صبيح، وقد أخرجها هشام جابر.

إقرأوا أيضاً: