fbpx

هدى الصراري التي كشفت سر السجون
اليمنية السرية التي تديرها الإمارات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“سأواصل عملي؛ ولم أندم قط على ما فعلته برغم الخسارة التي تكبدتها. لم أعد قادرة على العيش في اليمن والبقاء مع عائلتي بسبب عملي. إنها مسؤوليتي كوني محامية، ومدافعة عن حقوق الإنسان، وإنسانة. يجب أن أدافع عن هؤلاء الضحايا لأنهم لا يملكون ملجأ آخر”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كرست المحامية الحقوقية اليمنية هدى الصراري حياتها في تمثيل النساء في قضايا العنف الأسري والعنف الجنساني لسنوات، ولكن بحلول عام 2015 بدأت تتلقى صرخات مختلفة طلباً للمساعدة.

عندما تحولت الحرب الأهلية في اليمن إلى حرب بالوكالة بين القوى الإقليمية، كانت كثيرات يتصلن بالصراري في منتصف الليل لإخبارها بأن منازلهن تعرضت للمداهمة وأن أزواجهن أو إخوانهن أو أبناءهن قد أُخذوا بالقوة. بينما يتواصل معها آخرون تقطعت بهم السبل بحثاً عن أحبائهم في السجون ومراكز الشرطة، ويتوسلون إلى المسؤولين الذين يخبرونهم بأن لا علاقة لهم باحتجاز رجالهم أو أماكن وجودهم.

 قالت الصراري خلال مقابلة أجرتها مع موقع “إنترسبت”، “كانت هذه العائلات تقول: ساعدينا، لقد اختطف أبناؤنا. لم أستطع أن أسمع عن هذه الانتهاكات والجرائم وأقف مكتوفة الأيدي”.

بدأت حالات الاختفاء بعد فترة وجيزة من التدخل الجوي والبري الذي شنَّته المملكة العربية السعودية على اليمن بدعم من الولايات المتحدة وبمشاركة قوى إقليمية أخرى مثل الإمارات. خلال تلك الحملة العسكرية، سيطرت الإمارات، وهي حليف رئيسي في الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم “القاعدة” في شبه الجزيرة العربية، على مساحات شاسعة من جنوب اليمن. ومع تزايد أعداد المختفين قسراً في مدينة عدن وبالقرب منها، بالمئات، أفادت تقارير بأن هؤلاء الرجال تعرضوا للاحتجاز والضرب والتعذيب في أحيان كثيرة على أيدي قوات الأمن اليمنية غير الرسمية التي قامت الإمارات بتدريبها وتسليحها.

بدأت الصراري، بالتعاون مع مجموعة من المحامين والنشطاء، التحقيق بسرية في هذه التقارير. وتمخضت الجهود التي بذلوها في عملية التوثيق عن قاعدة بيانات تضمنت أسماء أكثر من 10 آلاف من الرجال والصبيان، احتجز معظمهم خارج نطاق النظام القضائي للدولة. وقد ساعد ذلك في كشف شبكة من السجون السرية التي تديرها الإمارات بعلم القوات الأميركية وأحياناً بمشاركة مباشرة منها.

شكَّلت الجهود التي بذلتها الصراري وزملاؤها عاملاً محورياً بالنسبة إلى التقارير غير المسبوقة التي نشرتها وكالة “أسوشييتد برس” و”هيومان رايتس ووتش” عام 2017. فقد أثار الكشف عن انتهاكات التحالف في جنوب اليمن مجدداً أهمية التقصي حول تورط القوى الأجنبية في الحرب الأهلية في البلاد، فضلاً عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ما زال حلفاء الولايات المتحدة يرتكبونها تحت ذريعة مكافحة الإرهاب. وساهمت عملية التوثيق في إطلاق سراح أكثر من 260 معتقلاً في الأشهر التي تلت نشر التقارير، ويمكن تقديم أدلة جوهرية بينما تدعو أعداد متزايدة من الأطراف الفاعلة الدولية إلى المساءلة حول الانتهاكات التي ارتكبتها جميع الأطراف في النزاع اليمني. بحسب الصراري، ما زال هناك أكثر من 1000 شخص رهن الاعتقال حتى اليوم، وهناك أكثر من 40 شخصاً في عداد المفقودين، لا يُعرف مصيرهم ولا مكانهم.

لم تستجب حكومة الإمارات لطلب التعليق. في حين أحال متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية الأسئلة إلى وزارة الدفاع، التي لم تستجب أيضاً.

لم يتم الإعلان عن هويات معظم الذين وَثَّقوا هذه الانتهاكات، بسبب خوفهم من التعرض للانتقام في اليمن. غير أن الصراري ظهرت في مقابلات إعلامية واكتسبت شهرة لمشاركتها في تلك الجهود. هذه الشهرة جعلت منها هدفاً. فقد واجهت حملة تشهير، فضلاً عن التهديدات ومحاولات التخويف، وطلبت منها عائلتها أن تكف عن التصريح. تقول الصراري، “لقد ألقوا عليَّ اللوم قائلين: إذا لم تخافِي على نفسك، خافِي على أطفالك، على سمعتك”.

تهديدات قلبت حياتها

بعد مضي أربع سنوات، لا تزال أعمال الصراري تؤثر تأثيراً عميقاً في حياتها. فقد هربت من اليمن عام 2019 بعد أشهر من مقتل ابنها الذي لم يبلغ العشرين، في ما اعتبرته انتقاماً بسبب أنشطتها. وهي تختبئ الآن في بلد طلبت من موقع “إنترسبت” عدم الإفصاح عنه. ومن هذا البلد، تواصل تلقي المكالمات من الأشخاص في الوطن، ومعظمهم من الأمهات، وتتابع التحقيق في التقارير المتعلقة بالانتهاكات.

وبرغم أنها تعيش في المنفى، لا تزال تُفضل التحدث عن الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان في اليمن بدلاً من أن تتحدث عمّا تكبدته من معاناة جرَّاء فضح هذه الانتهاكات.

تقول الصراري، “سأواصل عملي؛ ولم أندم قط على ما فعلته برغم الخسارة التي تكبدتها. لم أعد قادرة على العيش في اليمن والبقاء مع عائلتي بسبب عملي. إنها مسؤوليتي كوني محامية، ومدافعة عن حقوق الإنسان، وإنسانة. يجب أن أدافع عن هؤلاء الضحايا لأنهم لا يملكون ملجأ آخر”.

إقرأوا أيضاً:

سجون اللاعودة

جاءت الحملة العسكرية التي قادتها السعودية في اليمن رداً على تمرد الحوثيين، وهي حركة شيعية متمردة استولت عام 2014 على العاصمة صنعاء وأجبرت الرئيس عبد ربه منصور هادي المدعوم من السعودية على الفرار من البلاد. أعقبت تلك الأزمة السياسية أزمة سابقة عام 2011، عندما أجبرت انتفاضة شعبية الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، على تسليم السلطة إلى نائبه هادي.

ومنذ الإطاحة بالرئيس، سيطر الحوثيون على معظم شمال البلاد، لكن عام 2015 استولوا لفترة وجيزة على أجزاء من الجنوب، بما في ذلك مدينة عدن الساحلية، حيث كانت تعيش الصراري. وقد تراجعوا بفضل دعم الولايات المتحدة لقوات التحالف الذي تقوده السعودية.

في أعقاب الحملة العسكرية، تمركزت القوات الإماراتية في الجنوب، حيث شنت  حملة لمكافحة الإرهاب طاولت عدداً لا يحصى من الأشخاص الذين لم تثبت صلتهم بالجماعات الإرهابية. وقد أشاد كبار المسؤولين الأميركيين بالأساليب التي قادت بها الإمارات والسعودية عمليات مكافحة الإرهاب في المنطقة، في حين أشاد نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق، مايكل موريل، بدور الإمارات في جنوب اليمن ووصفه بأنه “حل نموذجي للتعامل مع الجماعات الإرهابية”، ودعا إلى أن يكون التدخل “نموذجاً يُحتذى به للدول الأخرى في المنطقة”. وقد اعتاد مسؤولون عسكريون أميركيون أن يشيروا إلى الإمارات بلقب “سبارتا الصغيرة”.

في أعقاب اعتبار عدن عاصمةً موقتة للحكومة اليمنية المخلوعة، شرعت الإمارات في تأسيس جهاز أمني واسع النطاق، بالتوازي مع الجهاز الأمني الرسمي. وبدلاً من إعادة بناء المؤسسات اليمنية، قامت بتدريب وتسليح منظومة من القوات الخاصة اليمنية تابعة رسمياً للرئيس المنفي، ولكن في واقع الأمر تخضع لقيادة الإمارات. وسرعان ما اتُّهمت تلك القوات بارتكاب انتهاكات واسعة، ومنها قوات الحزام الأمني في عدن وقوات النخبة الحضرمية في حضرموت. وبرغم انسحاب القوات الإماراتية من اليمن عام 2020، إلا أنها ما زالت تتمتع بنفوذ كبير في الجنوب.

قالت الصراري: “شكَّلت الإمارات هذه الميليشيات خارج إطار الدولة، بمعزل عن جهاز إنفاذ القانون في وقت تعطل فيه النظام القضائي”، مضيفةً “لم تكن أقسام الشرطة فعالة، لذا تولت قوات الحزام الأمني التي شكَّلتها الإمارات مسؤولية العمل الأمني داخل محافظة عدن. وهذه هي القوات التي نفذت لاحقاً الغارات، والمداهمات، والاعتقالات”.

وحين صار معروفاً أن الصراري كانت تُجري تحقيقات حول حالات الاختفاء، تلقّت ما بين 10 إلى 20 شكوى يومياً عن مداهمات وعمليات اختطاف. كانت في البداية تتجه إلى أنظمة الشرطة والقضاء الرسمية، ولكن سرعان ما استنتجت أنه “كانت هناك قوى أخرى غير قوى الأمن الرسمية تقوم بعمليات الاعتقال هذه”، كما قالت.

لذا بدأت مع زملائها تدوين شهادات أسَر المختفين، وجمع تفاصيل من قبيل نوعية الأسلحة التي كانت القوى الأمنية تحملها والكلمات المكتوبة على أزياء العناصر. وقد علموا أيضاً أن عمليات المداهمة كانت منهجية وتحدث حتى خارج عدن، في سلسلة من المناطق التي صُدّ فيها التمرد الحوثي. وقد أصبحت التقارير كثيرة لدرجة أنها سرعان ما نمت لتصبح جدولَ بيانات طويلاً.

وقالت الصراري “لم يكن هناك طرف رسمي يتلقى البلاغات، لذا لجأت العائلات إلينا”. وأشارت الصراري إلى أنه عادةً ما كانت أمهات المختفين هنّ مَن يتعرّفن إليها، إما شفاهياً أو من خلال “رابطة أمهات المختطَفين”، وهي مجموعة مجتمع مدني يمنية تقودها النساء.

كيف ساعدتهم؟

اتُّهِم المختفون- وكثر منهم قاوموا هجوم الحوثيين في الجنوب وتدخُّل التحالف- دون محاكمة بإقامة صلات مع جماعات إرهابية، ومنها فرعَا تنظيم “القاعدة” وتنظيم “الدولة الإسلامية” في اليمن، وسُجنوا لأشهر في أكثر من عشرة مراكز اعتقال غير رسمية.

استطاعت الصراري تحديد موقع أماكن احتجاز، ومقابلة رجال كانوا معتقلين ويلقون معاملة سيئة هناك. في إحدى المرات تحدثت مع رجل أُطلق سراحه بعد اعتقاله مع أخيه. وفي منزله طلب من أمه وأخته مغادرة الغرفة قبل أن يُخبر الصراري أن قوات الأمن أغرقت رأس أخيه تحت الماء، وأنه على يقين من أن أخاه لم ينجُ.

لطالما دعا المدافعون عن حقوق الإنسان إلى عملية مستقلة لتوثيق الانتهاكات المنهجية وجرائم الحرب التي يرتكبها أطراف النزاع في اليمن. وراهناً دعت أكثر من 75 مجموعة من مجموعات المجتمع المدني الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى إنشاء آلية مساءلة دولية جديدة في اليمن، بعد انتهاء تفويض مجموعة من الخبراء الذين كلفتهم الهيئة الدولية بتوثيق الانتهاكات الحقوقية في البلاد، وذلك وسط ضغوط سياسية من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ودعا منتقدو التحالف الذي تقوده السعودية إلى اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية.

جينفر غيبسون، محامية تقود مشروعاً حول عمليات الإعدام خارج نطاق القانون في المجموعة الحقوقية البريطانية “أوقفوا العقوبات” Reprieve، التي عملت على أن تبرِز خارج اليمن جهودَ المناصرة التي تبذلها الصراري، بما في ذلك ترشيحها لجائزتَين حقوقيتين مرموقتين. قالت: “في مرحلة ما، يجب أن يكون هناك اعتراف بما حدث في اليمن من جميع الأطراف، ولا بدّ في أي آلية للمساءلة في يمن ما بعد النزاع أن تشمل الانتهاكات المرتكبة خلال عمليات مكافحة الإرهاب”. وأضافت: “لهذا فإن تحقيقات هدى شديدة الأهمية، بسبب ما استطاعت توثيقه في الوقت الفعلي، إضافة إلى الأدلة التي تمكَّنت من جمعها. فهذه الأدلة لن تختفي”.

تكلفة باهظة

مع قيام الصراري ببناء قاعدة بيانات عن حالات الاعتقال التعسفي بين 2015 و2016، كانت تشعر بالإحباط من أن توثيق الانتهاكات لا يفيد كثيراً في إيقافها. لذا حين بدأت صحافية من وكالة “أسوشييتد برس” وممثلو عدد من الجماعات الحقوقية الدولية التواصل معها، شاركت معهم أبحاثها، ونسَّقت زيارات إلى أسر المعتقلين للمساعدة في تعريف العالم بمحنتهم.

وُثّق وجود السجون أخيراً عام 2017 في تحقيقات منفصلة لـ”أسوشييتد برس” و”هيومان رايتس ووتش”، اعتُمد فيها بشكل كبير على عمل الصراري ونشطاء محليين آخرين. وأكدها عام 2018 محققو الأمم المتحدة، “فريق الخبراء البارزين الدوليين والإقليميين بشأن اليمن (GEE)”.

تضمّنت التقارير شهادات معتقلين سابقين نددوا بالعنف المنهجي والتعذيب على أيدي القوات الخاصة اليمنية المدعومة من الإمارات العربية المتحدة. ووصف شهودٌ تعرضهم للتعذيب والاعتداء الجنسي والاحتجاز في حاويات شحن مكتظة وعصْب العينين لأشهر متتالية. وقالوا إنهم رُبطوا بأسلاك وتعرضوا للصعق الكهربائي. وكانت مواقع الاحتجاز السرية في المطارات والقواعد العسكرية ومنازل خاصة ونادٍ ليلي، فيما أفاد بعض المحتجزين بأن الاستجوابات والتحقيقات معهم أجريت أيضاً على متن سفن. وشمل التعذيب أسلوباً يسمى “الشوّاية”، وخلالها يُربط الشخص ويدوَّر في حلقة من النار. وقد وصفه رجلٌ احتُجز في أحد المراكز بأنه “سجن بلا عودة”، وفق تقرير “هيومان رايتس ووتش”. وقال آخَر زار طفلاً محتجَزاً في زنزانة مكتظة في أحد المواقع إن الطفل “بدا مجنوناً”.

وحين نُشرت التقارير، تم تناوُلها على نطاق واسع. وصارت الصراري، التي استُشهد بعملها في أحد مقالات “أسوشييتد برس”، هي الوجه البارز في القصة. وبعدما أجرت قناة “الجزيرة” مقابلة معها، بدأ أنصار التحالف الذي تقوده السعودية حملة مضايقات وتشهير شرسة ضدها. ووُصفت على وسائل التواصل الاجتماعي بأنها جاسوسة ومتعاطفة مع الإرهابيين ومرتزقة، بل و”عاهرة”. وتصاعدت الإساءات الإلكترونية لتصل إلى تهديدات وصلتها من مجهول. وذات مرة اقتحم أحدهم منزلها وسرق هاتفها. وفي مرة أخرى حطم شخصٌ نوافذ سيارتها.

وقالت الصراري “كان هدفي الاستمرار في العمل، لكنني كنت مرعوبة”.

وكان بعض أقاربها معارضين تماماً لعملها، واتهموها بتعريض أطفالها الأربعة للخطر. ولم يفهموا الدافع وراء إصرارها على القيام بعملها الخطير في دولة منهارة، لا مؤسسات رسمية تقودها. تتذكر هذا قائلةً “كانوا يقولون قومي بعملك العادي، ولكن لا تقومي بهذا الرصد ولا تتحدثي علناً. فليس هناك قضاء ولا محاكمات؛ ولا منظمات تعمل غيرك'”.

ولكن هذا بالضبط هو ما دفع الصراري للشعور بأن من واجبها الاستمرار في توثيق الانتهاكات. وظلت بعيدة عن الأنظار لفترة، قبل أن تستأنف زياراتها إلى منازل المختفين، وتظاهرت بأنها كانت تخرج للقاء صديقاتها، وتخفّت بالبرقع لحماية هويتها.

قالت كرستين بيكريل، الباحثة السابقة في الشأن اليمني في “هيومان رايتس ووتش”، إن “أي أحد تحدث علانية عن هذا الأمر واجَه مخاطر جمّة”، وأضافت أن تقرير عام 2017 الصادر عن المنظمة اعتمد بشكل كبير على عمل الصراري وآخرين.

وتابعت بيكريل: “لقد دفعت حقاً ثمنَ عملها. وهذا أمرٌ مُفجِع، لأننا نريد أن يصبح اليمن مكاناً يُكافَئ فيه أمثال هدى وغيرها ويُحتفَى بهم، لا أن تُهدَّد حياتهم”.

في آذار/ مارس 2019، حين كانت الصراري تُناقش على التلفزيون موجة الاحتجاجات التي اندلعت ضد قوات الأمن الخاصة اليمنية، أُطلقت النيران على ابنها محسن (18 سنة) حين كان مشاركاً في أحد الاحتجاجات. شُلَّت حركته على الفور، وظل في العناية المركزة شهراً، قبل أن يفارق الحياة. وطالبت الصراري السلطات المحلية بالتحقيق في مقتل ابنها، لكنها تقول إن السلطات لم تفعل. ولذا بدأت التحقيق بنفسها، وعرفت من خلال شهود أن النيران لم تُطلَق عليه عشوائياً، كما اعتقدت في البداية، ولكن تمّ ذلك عمداً: من الأمام، وعلى مسافة قصيرة، وذلك من قِبل شقيق أحد كبار أعضاء “حزام الأمن” في عدن المدعوم من الإمارات العربية المتحدة. ولم يتمكن موقع “إنترسبت” من التحقق من روايتها.

بعد موت ابنها، تجاهلت الصراري نصيحة الأصدقاء بالفرار من البلاد، وبقيت في اليمن، تواصل عملها في توثيق انتهاكات القوة الأمنية ذاتها المسؤولة عن وفاة ابنها. لكنها اضطرت للمغادرة بعد أشهر، عندما اشتدت حملة التشهير ضدها عقب الاعتراف الدولي بعملها.

وقالت إن نقطة التحول حدثت عندما هدد مجهول ابنها الآخر في تعليق على الإنترنت. “يجب أن يتخلصوا من ابن آخر من أبنائك لِتغادري البلاد”، هكذا كان نص التعليق.

جهات خارجية تتولى التعذيب

صحيح أن الصراري لا تندم على تضحيتها، لكنها أعربت عن إحباطها الشديد من أن عملها لم يسفر عن اتخاذ إجراءات أكثر حزماً من جانب المجتمع الدولي، وبخاصة الولايات المتحدة، رداً على انتهاكات الإمارات في جنوب اليمن. مضيفةً أن “على الولايات المتحدة إخضاع الإمارات للمساءلة”.

وقالت في إشارة إلى المسؤولين الأميركيين: “لم يتخذوا أيّ إجراء لإنصاف الضحايا، بخاصة في ظل وجود عناصر أميركية إلى جانب الإماراتيين داخل معسكر التحالف. لكنهم لم يضغطوا على التحالف لردعه عن ارتكاب هذه الجرائم”.

إقرأوا أيضاً:

تورط أميركي؟

في مطلع 2015، عندما بدأ المتمردون الحوثيون التحرك صوب الجنوب، أجلت الولايات المتحدة القوات التي كانت قد أرسلتها إلى اليمن في إطار حربها الطويلة ضد تنظيم القاعدة. لكن بعدما نجحت قوات التحالف المدعومة استخباراتياً وجَوّياً من الولايات المتحدة في التصدي للحوثيين، أعاد الأميركيون نشر عدد قليل من قوات العمليات الخاصة للمساعدة في جهود مكافحة الإرهاب التي تتزعمها الإمارات. تعاونت الولايات المتحدة مع الإماراتيين لتدريب القوات اليمنية الخاصة في جنوب اليمن، وقدمت الدعم القتالي والتقني لها.

وبالفعل تشير التقارير التي ساعدت الصراري في كشف النقاب عنها إلى تورط الولايات المتحدة، إذ قال محتجزون سابقون ومسؤولون يمنيون إنهم شاهدوا أميركيين في محيط مراكز الاحتجاز، أو أن من حققوا معهم كانوا أميركيين.

واستشهد تحقيق “أسوشييتد برس” المنشور عام 2017 بأقوال مسؤولين أميركيين- لم يُكشف عن أسمائهم- قالوا إن الأميركيين شاركوا بالفعل في استجواب المحتجزين في تلك المراكز، وقدموا أسئلة للقوات الأخرى- لطرحها على المعتقلين- واستلموا محاضر الاستجواب. وأضافوا أنهم كانوا على علمٍ بالادعاءات التي تتحدث عن وقوع انتهاكات لكنهم يعتقدون أنها لم تحدث أثناء وجود القوات الأميركية. في ذلك الوقت، قال متحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية: “لم نكن لنتغاضى عن أمرٍ كهذا، لأننا ملزمون بالإبلاغ عن أي انتهاكات لحقوق الإنسان”.

قال براء شيبان، منسق مشروع منظمة “ريبريف” في اليمن، والذي عمل عن قربٍ مع الصراري وأجرى مقابلات شخصية مع محتجزين سابقين، إن الرجال المفرج عنهم تحدثوا عن تقسيم المحتجزين، إذ يُفصَل المتهمون بالارتباط بجماعات إرهابية عن المتهمين بتوجيه انتقادات للتحالف والنشطاء السياسيين الآخرين.

وقال براء لـ”إنترسبت”: “عندما خرج بعض المعتقلين من السجون، بدأوا يتحدثون عن استجوابهم من قِبل محققين أميركيين. أخبرنا عدد من السجناء أنهم كانوا يقسمونهم بعد القبض عليهم قائلين: “هؤلاء هم الأشخاص الذين يهتم المحققون الأميركيون بهم، وهؤلاء من تهتم الإمارات بهم”.

أثارت التسريبات أسئلة حول دور الولايات المتحدة المباشر أو غير المباشر في عمليات التعذيب والاعتقال غير القانونية. وقالت بيكريل، الباحثة في الشأن اليمني، إنه على رغم نجاح المنظمات الغربية في اجتذاب الاهتمام الدولي، وإن كان متأخراً، إلى حالات الاختفاء القسري والسجون السرية التي تديرها الإمارات، “لم تكن تلك الانتهاكات البشعة تخفى على أحدٍ في جنوب اليمن”.

وتضيف أن موقف المسؤولين الأميركيين الذين قالوا إنهم لم يكونوا على علمٍ بحدوث تلك الانتهاكات إلا بعد نشر تقارير عنها في مؤسسات بارزة، “سخيف وغير منطقي”، لأنهم “كانوا سيكتشفونها إذا تحرّوا عنها، لكنهم لم يريدوا ذلك”. 

أخبر مسؤول بارز سابق في وزارة الدفاع موقع “إنترسبت” أنه عقب الإعلان عن ادعاءات التعذيب، سعى المسؤولون الأميركيون إلى السماح بزيارة ممثلين عن لجنة الصليب الأحمر تلك المراكز، والتقوا بهم بالفعل لترتيب هذه الزيارة. وقال المسؤول السابق، الذي تحدث معنا بشرط عدم الكشف عن هويته، إن وزارة الدفاع نصحت أعضاءها بعدم زيارة السجون في الخارج حتى “لا يتحملوا مسؤولية التدخل لِفعل شيء بخصوص الأوضاع فيها”. وأضاف أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تمتلك قدرة أكبر على توثيق الأوضاع داخل السجون وتتمتع “بصداقية أكبر” لدى المنتقدين. 

لكنه قال إنه لا يظن أن الإمارات تتحمل مسؤولية التعذيب الذي ارتكب في تلك المراكز، مضيفاً أن التعذيب “ليس أمراً لا أخلاقياً فحسب بل وبلا جدوى أيضاً”. 

“لدينا شراكة شبه دائمة مع الإماراتيين في ما يتعلق بالجهود المبذولة في اليمن. لو كنا على علمٍ بأيّ انتهاكات لحقوق الإنسان- ومن بينها التعذيب بالطبع- لكنا سنتوقف عن تقديم الدعم لهم”.

عام 2018، قامت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بأول زيارة لِلمحتجزين “لأسباب تتعلق بالنزاع” في عدن. كتبت إيمان الطرابلسي، المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الشرق الأوسط والأدنى، في بريد إلكتروني لموقع “إنترسبت”: “نُطلع السلطات المعنية بأي تفاصيل أو شواغل أو ملاحظات قد تكون لدينا في إطار حوار ثنائي بالغ السرية يجرى بيننا”. 

وأضافت المتحدثة أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر زارت ما نحو 40 مركز احتجاز في مناطق مختلفة من اليمن، وصل عدد المحتجزين فيها إلى 20 ألف محتجز تقريباً معظمهم من المدنيين. وكتبت الطرابلسي أن “إمكانية وصول اللجنة إلى من اعتقلوا بسبب النزاع لا تزال محدودةً وموضعاً للتفاوض المستمر مع أطراف النزاع”.

يقول المنتقدون إن مراكز الاحتجاز التي تديرها الإمارات في اليمن تعيد للأذهان “السجون السرية” التابعة لوكالة المخابرات المركزية، حيث عذبت القوات الأميركية عشرات المتهمين بالإرهاب عقب أحداث 11 أيلول/ سبتمبر. لكن وعلى رغم التوثيق الجيد والمستفيض لانتهاكات الولايات المتحدة، لم يحاسب أيّ مسؤول أميركي أو هيئة أمنية أميركية، وهو إخفاق يحذر دعاة حقوق الإنسان من أنه سيشجع دولاً أخرى على اتباع النهج نفسه بدعوى مكافحة الإرهاب.

تقول جينيفر غيبسون إن التغيُّر الوحيد الذي طرأ منذ بدايات برنامج التعذيب الأميركي هو أن الولايات المتحدة باتت تنأى بنفسها عن الانتهاكات التي ترتكبها القوى الأمنية التي تتعاون معها تعاوناً وثيقاً، ما أدى إلى تعزيز “سياسة الإنكار المقبول داخل النظام”.

أضافت غيبسون: “كان يفترض أن يكون ارتكاب الولايات المتحدة التعذيب حدثاً تاريخياً، وما يظهره عمل هدى لنا هو أن كل ما فعلته الولايات المتحدة منذ بداية الحرب على الإرهاب إلى نهايتها جعلنا ندرك أن ما يحدث هو: (مهلاً، في الواقع من الأفضل الاستعانة بجهات خارجية لممارسة التعذيب، لنجعل شركاءنا يتولون هذه المهمة، عندها لن نخضع للمساءلة، فلا دخل لنا بالأمر). عندما لا تتحمل المسؤولية عن أفعالك الخاصة، ولا تحاسب حكومتك على التعذيب الذي ارتكبته، فإنها ستواصل ارتكابه بطريقة أو بأخرى. الإفلات من العقاب لا يجلب سوى مزيد من الإفلات من العقاب”.

هذا المقال مترجم عن theintercept.com  ولقراءة الموضوع الاصلي زوروا الرابط التالي.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.