fbpx

نحن وبناتنا وكيف تنهار المدن

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا يمكن فصل ذوق اللباس عن الذوق العام. ولست أدري من أين يأتي عبق هذا الطراز المترّدي في كل شيء حولنا. أهي الحرب؟ أم قانون قيصر؟ أم الوضع الاقتصادي المتردّي؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في مدينتنا مجتمع صغير يحمل تراثاً مترفاً من زمن ماضٍ لن يعود. 

مجتمع عاشت فيه طفلات تربين بصرامة فتحوّلن بعجينة السنين إلى سيدات صبورات وحملن مسؤولية بيئة لا تتوافق مع معاييرهن الثقافية والاجتماعية.

لازالت ترنّ في أذني ضربات المساطر الخشبية ذات المقطع المربع التي تلقّينها على الأصابع المتجمدة برداً في شتاء دمشق القاسي، والتي تحولت إلى لوحات كانافاه علقت على جدران البيوت، وكنزات صوف يلبسها أفراد العائلة ومقاطع أدبية لم تنشر بسبب عناد الآباء والأزواج، ورسومات ملونة بقيت أسيرة التراث العائلي بسبب قانون “العيب”، ومعزوفات على البيانو تتردد بين جدران البيوت يسمعها  بعض العابرين إذا كانت النوافذ مفتوحة.

أحدثكم عن دروس الطبخ التي نعم بنتائجها أزواج جاحدون وأولاد هاجروا ونسوا طعمها، ودروس النحو والصرف والشعر التي تحولّت إلى ذائقة أدبية نهمة للقراءة والاطّلاع.

دروس الأخلاق التي تنتمي لمجتمع متحضّر تمارس في زمن التفاهة الذي لا يستوعبها، وعن دروس الذوق والإيتيكيت التي لا مكان لها في بلاد التقشّف وتشرذم العائلات وضياع المدّخرات. 

في الوقت الذي كان أقرانهم من الذكور يكافؤون بدروس الرياضة في المدارس والرحلات السياحية وساعات التسلية الطويلة المسموح بها خارج المنزل، كان كل ما ينعمن به من الترفيه هو الزيارات العائلية لبيوت العمّات والخالات والنظر من وراء الشبابيك إلى الخارج والأحلام.

أحدّثكم عن جيل من النساء كانت مطالبته بحقوقه مخنوقة بقمع من البيت والمجتمع المتزّمت، لكنّه حافظ على جماله وحصل بالقوة الناعمة على مكانة دعمتها عاطفته وتضحيته. ومن ثمّ ربّى أولاده بنفسية المظلوم الذي لا يريد أن يوّرث ظلمه.

وفي حدود ما كان مسموحاً به والحرية التي أتاحها صبره فيما بعد ربما لم يعد يذكره أحد. 

أحدّثكم عن مجتمع أنيق متناه في الصغر قبل أن يندثر تماماً، أو ربمّا اندثر …

هذا المجتمع الذي ألتجئ إليه كلما حاصرتني من حولي صور” العهد الجديد ” الذي نعيشه وكأننا نراقب مسرحية ليس لنا فيها أي دور.

أنا من الجيل الذي ولد في أواخر الخمسينات من القرن الماضي. في زمن ضبابي بين جيل الأمهات التقليديات وجيل الأمهات المتمرّدات. ربما كان لنا دور في تربية بناتنا على التمسّك بحقوقهن الشحيحة المتاحة والاهتمام بأنانيتهن الخاصة، لكن النتيجة كانت أن الجيلين السابق واللاحق يمارسان علينا اضطهاداً لا نستطيع أن نهرب منه بسبب تركيبة قالبنا التربوي.

أمهاتنا يعتبرن تسلطهّن على حياتنا حق مشروع ويمكنهن بنظرة غير راضية أن يتحكمن بمجرى حياتنا مهما تطلب ذلك من تضحيات.

أما بناتنا فيعتبرن أن حياتنا مكرّسة لخدمتهن، مهما تطلّب ذلك من تضحيات أيضاً.

أمهاتنا يطلبن منا ممارسة المجاملات الاجتماعية الخاصة بهن التي لم يعد لهنّ القدرة على إنجازها في مناسبات الزواج والموت في العائلة الكبيرة أو ضمن دائرة المعارف. و في المرض يطلبن الخدمات الخاصة التي لا يمكن بحال من الأحوال أن يسمحن لغريبة أن تقوم بها.

أما بناتنا فيطلبن منا مشاركتهن في إدارة منازلهن وحضانة أطفالهن.  

 وهذه الخدمات مجانية وغير مدرجة في جداول الحقوق والواجبات المتبادلة، إنها “واجبات ” فحسب. 

فبينما تعودت الأمهات أن “يرضين ” علينا بلسانهن الرطب ويكافئننا بمجموعة أدعية لطيفة واعدات بالجنة تحت أقدامهنّ، فإن بناتنا يعتبرن أنفسهن وعائلاتهن مصدر سعادتنا الأوحد في هذه الحياة، ويعتبرن إشراكنا في مسؤولياتهن الخاصة هبة من الله لنا.

وبين الالتزام بتعليمات الجيل الماضي وتنفيذ نزوات الجيل المستقبلي، نفقد خصوصية حياتنا وتندر أوقات فراغنا ونهرب إلى صديقات جيلنا لنتبادل همومنا الصغيرة ونضحك منها. أحياناً تفقد إحدانا أمها فنهرع جميعاً لمواساتها ويبدأ ضميرنا بتعذيبنا بإصرار، فنضاعف تضحياتنا على حساب ساعات كانت مخصصة للاسترخاء.

هل نحن المسؤولون عن التخّلي عن خصوصية حياتنا لصالح أولادنا؟ ربّما … التضحية تجري في دمنا ولكن ألا يحقّ لنا التذمّر قليلاً؟

نجتمع ونتبادل قصصنا اليومية فتعود لنا إلفة مجتمعنا القديم. نتبادل همومنا اليومية ونكتشف بعضنا من جديد، نكتشف كم نحن متشابهات وكم وحدّتنا قسوة الحياة.

إقرأوا أيضاً:

 ليس في حياتنا إنجازات خارج بيوتنا وليس لدينا مغامرات خطيرة نتشارك تفاصيلها، لكننا شاهدات على مجتمع لا ننتمي إليه حالياً ويتطلب منا التسامح والتعاضد لنتقبّله معاً.

ففي مدينتنا انتشرت تقليعات وعادات وأخلاق لا تشبهنا. 

في الشوارع تتحرك جموع من النساء بأزياء لم يتعوّد عليها نظرنا من المعاطف التي تستعمل صيفاً بغرض الحشمة، وشتاء بغرض التدفئة، والمزينة بربطات تشبه مشدات القرون الوسطى من الوراء أو ياقات تتدلى إلى الخلف أو سحابات وأزرار ملونة في أماكن غريبة.

 إلى أغطية الرأس التي ترتفع طابقين أو أكثر فوق مستوى الجبين. والشرائط والعقد الملونة والتطريز اللامع على الصدر أو الظهر أو الساق.

 إلى الحقائب المجهزة بأقفال وعلامات تجارية مزيفة وتطريزات برّاقة. إلى الأحذية التي تتنوع بين أبواط رياضية عجائبية بألوانها وتصاميمها وأبواط تصل إلى فوق الركبة وكلها مجهّزة بالمعدّات التي سبق ذكرها مسامير وأقفال وبرّاق ملون.

بالنسبة للشابّات فقد اختلطت عليهن الأمور تماماً، فبينما حافظن على غطاء الرأس الطابقي فقد استغنين عن معطف الحشمة. وها هي السراويل الملاصقة للقسم السفلي من الجسد تُعرض بكل الألوان واعتُمدت كموضة ثابتة لا تتغير على مدى السنين تعلوها بلوزات مزينة بالكشاكش والفتحات المغطاة بطبقة داخلية تستر الجسد، إذا كانت بلا أكمام أو إذا كان طولها لا يسترالبطن.   

لا يمكن فصل ذوق اللباس عن الذوق العام. ولست أدري من أين يأتي عبق هذا الطراز المترّدي في كل شيء حولنا. أهي الحرب؟ أم قانون قيصر؟ أم الوضع الاقتصادي المتردّي؟

ما هي ماهية هذا التطور الرجعي؟ هذا الأذى البصري؟

من المسؤول عن ضبط صرعات الموضة السورية في الأزياء؟  

تظهر أحياناً سيدة مرتدية لباسها الكلاسيكي الذي غالباً ما يكون قديماً لكنّه نظيف حاملة حقيبة يد بلون أسود أوبني ومنتعلة حذاء يتناسب مع خطواتها المتأنية بسبب وعورة الطريق وتراكم السنين. فأتابعها بنظري وسط كرنفال الألوان في الشارع، لا بدّ أنني أعرفها، زميلة دراسة؟ جارة قديمة؟

أين تبخّر ذوق جيلنا؟ والأهم: أين تبخرّت أخلاقه؟

ألتجىء إلى صديقاتي وأسألهن نفس السؤال عادة. ويكون جوابهنّ بنظرات مليئة بتاريخنا المشترك، بأحلامنا السابقة، بواقعنا الحالي. 

هذه النظرات التي نهديها لبعضنا وتتيح لنا أن نستمّر في حياتنا متأملين بتغيير قادم.

هذه النظرات التي تعني أننا نعي كيف تنهار المدن بانهيار المعايير الأساسية قبل انهيار اقتصادها بزمن طويل.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.