fbpx

أنا أمُّ طفلة حلب التي نهشت الجرذان وجهها

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

من سيقف إلى جانب طفلة حلب؟ من سيمنع الأطفال الآخرين من التنمر عليها والسخرية من وجهها؟ كيف ستكبر من دون أن يقول لها أحد “تماسكي، أنا بقربك؟”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لو كان بإمكاني تبنّي طفلة لتبنيت طفلةَ حلب، التي نهشت الجرذان وجهها، بعدما رُميت في الطريق، ليتم إسعافها إلى مستشفى “الجامعة” وتخضع لعمليات جراحية لترميم ما فعلته الجرذان بها.

بات ترك الرضّع في الشوارع وأمام الجوامع والمستشفيات أمراً عادياً في سوريا، لكن الجديد هذه المرة أن تأتي الجرذان وتنهش وجه طفلةٍ وحيدة وسط البرد، لم تمر سوى أشهر قليلة على مجيئها إلى العالم. أتخيل صراخها والألم الذي شعرت به، لمجرد أنها ولدت في مكان قاسٍ، يُترك فيه الأطفال للحيوانات والمجهول. 

تعلمت خلال السنوات القاسية في سوريا أن العالم ليس مكاناً جيداً لإنجاب الأطفال، قد تبدو الفكرة متطرفة، إلّا أنك حين تشاهد الكثير من الأطفال في مراكز الإيواء وتجمعات النازحين وعلى الطرق، تدرك أننا نتحامل على جعل العالم وردياً، لذلك نقدم المساعدات الإنسانية، رغبة في غدٍ أجمل، لماذا نأتي بالمزيد من الأطفال بدل مساعدة من أتوا بالفعل ويعيشون بتعاسة!

في لقاءات مع أطفال أيتام من مختلف الأعمار وآخرين يعيشون في مدارس فُتِحت لإيواء اللاجئين، راقبت على الدوام وجوههم ترنو إليّ كأنني من كوكب آخر، أنا التي تسكن بعيداً منهم ببضع كيلومترات وحسب. بسبب فارق يكاد لا يظهر، فارق الحظ والحياة الأفضل وفرصة الحصول على منزل، بدوتُ من عالم آخر، فقط لأنني أعيش حياةً معقولة. رائحة أجسادهم الكريهة لنقص الرعاية لم تكن سبباً لأبعدهم… إنهم الكائنات التي يخجلك شعورك بالقرف حين يتعلق الأمر بهم، ولا يخيفك القمل  الذي يمشي في شعورهم لأن أحداً لم يمنحهم حقهم في الاستحمام والنظافة. 

ذات مرة، حملتُ طفلة صغيرة تتعثر بشحاطة مهترئة وركضتُ بها لعلها تجرب معنى الانتصار متجاوزة رفاقها. الأمومة أحياناً هي أن أتحول إلى قدمين لذلك الجسد الصغير، تركضان به نحو المقدمة والسعادة.

تلك المواقف الصغيرة، أوصلتني إلى التفكير مرة أخرى بجدوى إنجاب طفل. مرراً تمنيت لو كنت أمّاً لعشرات الأطفال المتروكين و”غير الشرعيين”، ولمن ضاعوا من عائلاتهم، أردت أن أكون أمّاً حتى لطفلين أوصلتُهما بيدي إلى مركز خاص برعاية الأيتام، فهذا كان جزءاً من عملي. أوصيت المسؤول هناك بهما كأنني أسلّمه طفليّ، فانتفض المسؤول في وجهي مؤكداً أنهم في المركز يعاملون الأطفال بطريقة جيدة! 

أفكر بأن العالم لا يحتاج فعلاً إلى إنجاب المزيد من الأطفال بقدر حاجته إلى أمهات وآباء جيدين، لم ينجبوا بالضرورة، لكنهم قادرون على الحب وتربية أطفالٍ وحيدين ومتروكين. حين يسألني أحدهم عن الزواج والإنجاب أردد ساخرة: “العالم يعج بالأطفال الأيتام، ألا يمكن ببساطة تبني أحدهم؟”، لماذا إنجاب المزيد، ما دام كثيرون حولنا بحاجة إلى الرعاية والحماية والإنقاذ؟

أريد طفلة حلب لأنني أنتمي إلى أولئك الضعفاء، والمتروكين، الذين لن يرغب أحد بهم، وسيسخر رفاقهم من أشكالهم، أنتمي إلى طفلة حلب، حتى أستطيع لمس وجهها بينما أخبرها أنها قادرة على مواجهة هذا كله، وأنها جميلة وأن الفتيات يستطعن أن يكن قويات حتى لو أكلت الجرذان وجوههن، فالجرذان أيضاً نهشت أرواحنا وأحلامنا والسنوات التي اعتقدنا أننا سنعيشها بطمأنينة، لا بأس يا صغيرتي لكلّ منّا جرذ نهش جزءاً منه.

إقرأوا أيضاً:

من سيقف إلى جانب طفلة حلب؟ من سيمنع الأطفال الآخرين من التنمر عليها والسخرية من وجهها؟ كيف ستكبر من دون أن يقول لها أحد “تماسكي، أنا بقربك؟”. أتذكر طفلاً يتيماً حضنني مرة، كان عنيفاً وصعب المراس، لكنه حضنني برفق، حتى شعرت بأنني سأكون أمّاً جيدة لأولئك الأطفال الذين جعلتهم الحرب عنيفين وخائفين. ما زلت أحاول تذكر اسمه، أفشل، لا أتذكر سوى أن في اسمه حرف السين، إلى طفلي “حرف السين” أعتقد أنك الآن في الحادية عشرة من العمر، حين التقيتك كنتَ لا تزال في الخامسة، في المرة الأولى دفعتني بعيداً، في المرة الثانية غنيتَ معي وحين صفقّتُ لك جريتَ لعناقي.

لا يهزّنا أولئك الذين يخشون على نساءٍ لن يصبحن أمهات، الذين ينظرون بشفقة إلينا، إذ قررنا بكامل وعينا وأمومتنا الفائضة ألّا ننجب طفلاً آخر إلى الحياة حتى لو رغبنا مرة في ذلك، لأننا ندرك تكلفة الحروب والقسوة. كم يبدو محزناً وهزلياً في آن، أن يسعى أحدهم لإنجاب طفل بينما يُرمى رضيعٌ آخر في شارع ما، وسط عالم لا يبدو جيداً بما يكفي لنترك جزءاً منّا يصارع فيه. 

من المضحك الاعتقاد بأن الأمومة هي قدرنا الذي لو تجاهلناه لأسأنا لأنفسنا، أين هي الإساءة تحديداً؟ هل عدم إنجاب طفل فيه انتقاص من أنفسنا؟ وهل تبقى النساء أقل من المتوقع وأقل من المطلوب، طالما أنهن لم يصبحن أمهات؟ 

أتذكر كلّ الأطفال الذين لو كنت في زمان آخر لتبنيتهم حتماً، أتذكر طفل السرطان الذي أصرّ على أن أحمله حتى يقبلني، أتذكر طفلة السنتين التي حملتها لأن الجميع أخبرني أن ابتعد منها، بسبب رائحتها المقززة، أتذكر وجوههم المندهشة بقرف، وأعلم أن الأمومة قد تمرّ في كل الأوقات، وأننا نتحول لأمهات من دون أطفال، أمهات يتمنين امتلاك فرصة لتبني طفلة نهشت الجرذان وجهها.

أضع صورة طفلة حلب جانبي بينما أكتب عنها، أنظر إلى عينيها الواسعتين، أفكر في اسم يليق بها، قد يكون rêve. “ريڤ” ربما تقرأين يوماً ما كتبته عنكِ، ربما تجمعنا مصادفة ما، وستعرفين أنني المرأة التي رغبت في أن تكون أمك، امرأة تمنّت لو أنها تصل إليكِ لتهمس في أذنك: “أنا هنا”.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.