fbpx

أنا متأهّبة للمعركة… دائماً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حذّرتنا “أبلة غادة” ذاتَ مرّة بأن علينا الانتباه حين نخرج من باب المدرسة من الازدحام، لأنه إذا مرّ شخصٌ غريب وتنشّق عطر واحدةٍ منّا، فهذه خطيئة تعادل “الزنا”. لم تقل لنا المعلّمة إن كان سيصيب الرجل الذي تنشّق عبيرنا أيُّ مكروه، بل كلّ البلاء سيقع علينا نحن… أرعبتني الفكرة، وبدأت أعيش هذا الصراع مع حقيقة أني أنثى

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أذكر أنني كنتُ صغيرة، في الحادية عشرة ربما، حين باغتتني دماء البلوغ…

لم أكن جاهزة لمغادرة حقبة الطفولة، وغابت عن ذهني التحوّلات المنتظرة لجسمي، فالفكرة التي سيطرت عليّ لحظتها هي أن كائنين غير مرئيّين، باتا لصيقَين بي، واحدٌ على يميني وآخر على يساري، وأنهما سيسجّلان لي خطاياي وحسناتي. هكذا قالوا لنا، أنه ما أن نبلغ حتى يبدأ الله عبر جيش غفير من المحتسبين، في ترصّد ما نقول ونفعل ونلبس ونأكل. تخيّلتُهما يحملان دفترين وقد باشرا بكتابة الصفحة الأولى عنّي وعن أفعالي.

قبل هذه اللحظة كنت حرّة ولا أخضع للحساب، لكن ليس بعد الآن…

سرقني من أفكاري حينها قرعُ جرس باب البيت، ولمّا فتحته، طالعني رجلٌ لم تعلق ملامحه في رأسي. لعلّه كان يجلب حاجيات للمنزل. لقد كان رجلاً وكفى، وهذا الرجل رآني بملابسي المنزلية العادية، ومن دون غطاءٍ للرأس. تلك كانت أولى خطاياي، وها قد بدأ الكائنان المرعبان بترصّد ما أقول وأفعل. شعرتُ بانقباض لحظتها، وثابرتُ على مدى يومين في احتساب ما ارتكبت، لجهة كم شخص رآني من دون حجاب، لكن بعدها أصابني التعب، وغلب شغفي بالعيش هواجسي، فتوقّفتُ عن تعداد ما اقترفتُ من “آثام”.

لم يكن الحجاب شائعاً. صحيح أننا كنا مقيمين في السعودية حيث كان يعمل والدي، وكان الاحتشام وغطاء الرأس أمر منتظر من النساء والفتيات، لكن لم يكن هذا حجاباً، بل أمراً مارسته أنا وفتيات محيطي بصفته قدراً وأسلوب عيش، أما الحجاب فهذا قرارٌ آخر.

يومياً كنا نخضع لدروس الدّين الكثيرة، ودرسُ الدين كان مبرمجاً على جرعات مكثّفة تكاد توازي دروس العلوم واللّغات والرياضيات.

“لا أشعر أنني أستطيع التساهل مع من يشهر في وجهي أو في وجه أي امرأة أو فتاة سلاح الحلال والحرام”

الآن وبعد كل هذه السنوات، ما زالت مخيّلتي تحفظ الكثير ممّا كنّا نُلقّن بصفته حلالاً وحراماً، فيما أن الأمر يختلف في حقول الرياضيات والكيمياء والفيزياء، بحيث أشعر أن عقلي ذاكرة بيضاء نقيّة من أيّ علم…

هل كان الخوف وحده ما جعلني أحفظ دروس الدّين في مقابل تلاشي كل المواد الأخرى التي كنا نتعلّمها؟؟

عشتُ مشاعر متناقضة، ما بين الخوف الدائم من أن مجرّد رؤيتي من قبل شخص غريب هو ذنب، وما بين رغبتي في أن أمارس أموراً عادية، كالرقص الذي كنت أعشقه، والخروج من دون قيود، والاختلاط والحب وسماع الموسيقى والانتشاء بها وارتداء ما يحلو لي من ملابس…

حاولت معلمةُ الدّين إقناعنا بأن الحجاب حمايةٌ للفتاة ودرءٌ للفتنة. نحن الفتيات مسؤولات عن الفتنة. أزعجتني الفكرة لكن لم أناقشها كثيراً، وكدتُ فعلاً أن أستسلم لخوفي من أن تأكلني النيران لأني أطلق لشعري العنان، ولا ألبس ما يغطي كامل جسمي، لكن لسببٍ ما لم أفعل. حذّرتنا “أبلة غادة” ذاتَ مرّة بأن علينا الانتباه حين نخرج من باب المدرسة من الازدحام، لأنه إذا مرّ شخصٌ غريب وتنشّق عطر واحدةٍ منّا، فهذه خطيئة تعادل “الزنا”. لم تقل لنا المعلّمة إن كان سيصيب الرجل الذي تنشّق عبيرنا أيُّ مكروه، بل كلّ البلاء سيقع علينا نحن…

أرعبتني الفكرة، وبدأت أعيش هذا الصراع مع حقيقة أني أنثى، وبأن ما ألبسه وأقوله وما أشعر به يجب أن يخضع لتفسيرات وقيود صارمة، وإلا كان مصيري الاحتراق التام في النار. وكم ارتعبت من فكرة النار التي كان مُقدّراً لي أن تلتهمني لأنني غنيتُ بصوتٍِ عالٍ أو رقصت أو اختلطت بشبّان…

على الرغم من صغر سني، استطعتُ التقاط الكثير من مشاهد التناقض تجاهي وتجاه الفتيات والنساء، في مقابل حرّية وسلطة يتمتّع بها ذكور عائلتي، بل والذكور عموماً.

كنتُ أعشق الرسم وتحديداً رسم البورتريه، وحين جلبتُ لوحةً صغيرةً رسمتها بقلم الرصاص لفتاة تجلس في حديقة إلى معلّمة الفنّون، نظرت إليّ بإشفاق وقالت، “حلوة يا ديانا بس حرام”، وذلك لأننا كنّا نتعلّم أن رسم الوجوه فيه تقليد للخالق فهو حرام…

هذه الذكريات لا تزال حيّةً في نفسي، ولكنّها غافلة، أتذكّرها بابتسام أحياناً خصوصاً تجاه من يهاجمني بسبب “قلّة ديني”. لكن أكثر ما يوقظ تلك الحكايات حين تصادفني نقاشات وتعليقات كما حصل مثلاً مؤخّراً لجهة هجوم تعرّضتُ له لأنني أبديتُ تأييدي لاقتراح قانون المساواة بالإرث بين المرأة والرجل… يا لهول الردود وصفاقتها لجهة اعتبار أن تلك المساواة أمر شيطاني. إنها ومضاتُ الماضي تعيش في داخلي كحديقة خلفيّة أستعيدها مع كل قصة وحكاية وحادثة تعيدني للمربّع الأول…

اليوم وبعد كل هذه السنوات، ولأنني عشت حياةً دينيةً تقليدية مبكرةً، لا أشعر أنني أستطيع التساهل مع من يشهر في وجهي أو في وجه أي امرأة أو فتاة سلاح الحلال والحرام. نعم، أشعرُ بنفور هائل من كل هذا الثقل الذي رافق مراهقتي وبداية شبابي.

كم أنا ممتنّة لسنوات عملي في الصحافة التي جعلتني أسافر وألتقي بنساء وفتيات من أفغانستان وباكستان واليمن والجزائر وإيران والكويت والسعودية والأردن وطبعاً لبنان…

إنّهنّ هؤلاء النساء اللواتي التقيت بهنّ من أخرجني من تردّدي وحيرتي

كانت دموع مريم الأفغانية التي فرضت عليها حركة طالبان تزويج ابنتيها الصغيرتين لرجال غرباء لأن زواج الصغيرات أمر مرغوب…

إنها محنة آمنة الجزائرية التي اغتصبها متشدّدون أمام أولادها لأن أشقائها يعملون في الجيش فلم تجد سوى الإنكار والإهمال..

إنها صرخة مكتومة لأم محمد الأردنية التي فُرضَ عليها قبول قتل ابنها لابنتها لأنها حملت من دون زواج…

إنها لطيفة اللبنانية التي رفض القاضي تطليقها من زوجها العنيف لأن العنف لا يبرّر الطلاق، وبعد أن حصلت على الطلاق تتبّعها زوجها السابق وقتلها…

إنها شيرين عبادي الإيرانية التي التقيتها في طهران عام 1999 حيث كانت تدافع عن حقوق نساء إيرانيات انتهكت باسم الدّين فكان أن تم تخوينها واجبارها على ترك بلدها…

هؤلاء وغيرهنّ كثيرات ساهمن في خروجي من هذا الوهم الذي أثقل علي سنوات طويلة.

أنا اليوم، امرأة متأهّبة دائماً للمعركة…