fbpx

تونس: استقالة “المرأة القوية”
في الديوان الرئاسي وصراع الأجنحة في القصر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كان سعيد يستشيرها في كل كبيرة وصغيرة وهي فعلياً كاتمة أسراره، كما نجحت عكاشة في وضع طوق حوله، بحيث كانت تُفلتر المعلومات التي تصله وتفتح البريد الرئاسي وتطّلع عليه قبل تحويله للرئيس.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أثارت استقالة مديرة الديوان الرئاسي نادية عكاشة، زلزالاً في تونس، فالمرأة القوية الأولى في البلد وأقرب الناس إلى الرئيس قيس سعيد، أعلنت انسحابها من العمل معه، وفي ذلك دلالات كثيرة، أهمها وجود صراع داخلي في القصر بين أجنحة متعددة تتنازع السلطة، لترجح الكفة أخيراً لفائدة الجناح الذي تمثله عائلة الرئيس وبذلك لا تخرج تونس عن المثال الكلاسيكي لإدارة السلطة في البلدان النامية.

فوجئ التونسيون بتداول تدوينة على وسائل التواصل الاجتماعي من حساب نادية عكاشة مديرة الديوان الرئاسي، تعلن فيها استقالتها لوجود “اختلافات جوهرية في وجهات النظر المتعلقة بالمصلحة الفضلى للوطن” بينها وبين الرئيس قيس سعيد، وهو ما كان لا يمكن تصوره لوقت قليل مضى بينهما، وهي التي كانت “حارسة أسراره” و”صندوقه الأسود” كما سماها البعض. انتشر الخبر بسرعة ولكن بقي هناك تشكيك في صحته، نظراً لوقع المفاجأة. بعدها بقليل ظهرت على وسائل التواصل الإجتماعي صورة لورقة تحمل نص الاستقالة مكتوبة بخط اليد وموقعة من عكاشة نفسها. بدأت الصورة تتضح أكثر وتواردت المعلومات عن صحة الخبر، لتنطلق مرحلة من الأسئلة والشكوك، أولاً عن أسباب هذه الاستقالة غير المتوقعة، وثانياً عما يحصل حقيقة داخل قصر قرطاج، بخاصة في ظل ما درجت عليه الرئاسة من تكتم حول قراراتها ورفضها التواصل مع وسائل الإعلام مذ اعتلى قيس سعيد منصب الرئيس.

وفي غياب معلومات مؤكدة كما عودتنا الرئاسة، بدأت التخمينات حول الأسباب الحقيقة لهذه الاستقالة وما تخفيه، تخمينات تتقاطع غالباً في أمر جوهري وهو وجود صراع أجنحة داخل القصر تتصارع على النفوذ والسلطة، ويحاول كل منها جذب قيس سعيد إلى جانبه والتأثير في قراره. هذا الصراع تحددت ملامحه بعد قرارات 25 تموز/ يوليو، بعد إعلان الرئيس تجميد البرلمان وإقالة رئيس الحكومة والتفرد بجميع السلطات، بموجب الفصل 80 من الدستور.

صلاحيات واسعة وسلطة مطلقة

قبل هذا التاريخ، كانت نادية عكاشة أقرب شخص إلى سعيد وموضع ثقته التامة، فهي الطالبة النجيبة التي درست عنده القانون الدستوري قبل أن تصبح أستاذة فيه على غراره، والتي جلبها معه إلى القصر لتتدرج بسرعة في السلم الوظيفي من مكلفة بالشؤون القانونية في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 إلى مديرة الديوان الرئاسي، ولكن بصلاحيات أكبر من ذلك بكثير، إذ كانت تتدخل في كل أمور الدولة وتحضر معه اجتماعات مجلس الأمن القومي واجتماعاته مع رؤساء الدول والحكومات وتتدخل في التعيينات السياسية والحكومية والأمنية. فهي من اختارت رئيس الحكومة السابق، هشام المشيشي، كما كانت وراء إقالات كثيرة لإطارات عليا في الدولة، منها سفير تونس السابق لدى الأمم المتحدة قيس القبطني، الذي “يحمّلها إلى اليوم مسؤولية ذلك” كما يقول لـ”درج”. 

كان سعيد يستشيرها في كل كبيرة وصغيرة وهي فعلياً كاتمة أسراره، كما نجحت عكاشة في وضع طوق حوله، بحيث كانت تُفلتر المعلومات التي تصله وتفتح البريد الرئاسي وتطّلع عليه قبل تحويله للرئيس، ومن هنا جاءت حكاية الظرف المسموم التي حصلت في كانون الثاني/ يناير 2021، حين قالت عكاشة إنه يحتوي على مادة سامة وتسبب لها بالإغماء عند فتحه وادعت أنه كان موجهاً لسعيّد لاغتياله، ليثبت أخيراً بعد التحقيقات الأمنية أنه لم يكن يحتوي على أي مواد سامة. استطاعت مديرة الديوان الرئاسي أن تخلق الفراغ حول الرئيس بالتسبب في موجة من الاستقالات في الرئاسة، ابتداء من مدير الديوان السابق، طارق بالطيب، إلى مستشاري الرئيس كعبد الرؤوف بالطبيب ومستشار الأمن القومي الجنرال محمد الحامدي، مروراً بالفريق الإعلامي للرئاسة، ممثلا في رشيدة النيفر وريم قاسم. بالتالي، أصبح الرئيس سعيّد يعيش في عزلة تامة لتصبح عكاشة المتحكمة الأولى قرارته. 

لكن الدور الأكبر الذي لعبته هذه المرأة القوية ذات الـ41 سنة، والحاصلة على دكتوراه في القانون العام، اختصاص قانون دستوري، والتي لم تكن لها أي تجربة سياسية سابقاً، هو هندسة “الانقلاب الدستوري” الذي قام به سعيّد لتنحية الإسلاميين من الحكم، فمن مكتبها تسربت الوثيقة التي نشرها الموقع البريطاني “ميدل ايست اي” في أيار/ مايو 2021 حول مخطط القيام بهذا “الانقلاب” وهي التي دعمت الرئيس لأخذ خطوة 25 تموز، وكانت وراء وضع مجموعة من الشخصيات السياسية والعامة في الإقامة الجبرية. وكانت تنوي بحسب بعض التسريبات وضع شخصيات وازنة من “حركة النهضة” في الإقامة الجبرية بينهم راشد الغنوشي رئيس الحركة نفسه.

إقرأوا أيضاً:

نادية عكاشة أصبحت تمثل أقلية

بعد قرارات 25 تموز واستفراد سعيد بالسلطات، دخلت أطراف أخرى على الخط داخل القصر الرئاسي، أطراف مدعومة أساساً من عائلة الرئيس وأهمها وزير الداخلية الحالي، توفيق شرف الدين الذي كان مُرشّحاً بقوة ليُصبح رئيس الحكومة. لم تعد نادية عكاشة، مديرة الديوان الرئاسي هي صاحبة السلطة المطلقة على الرئيس وإنما أصبحت تجد مزاحمة من شق العائلة الممثل بحسب بعض التسريبات، في زوجة الرئيس، القاضية إشراف شبيل وأختها المحامية عاتكة شبيل وزوج هذه الأخيرة، إضافة إلى أخ الرئيس، نوفل الذي كان موجوداً إلى جانبه منذ توليه الرئاسة، يفسر خطاباته في كل مرة على صفحته في “فايسبوك”. أصبح نفوذ هذا الشق العائلي يكبر يوماً بعد يوم ويتدخل أكثر في التعيينات السياسية والأمنية. ويُنسب له اختيار رئيسة الحكومة الحالية، نجلاء بودن، في حين انتشرت أخبار تفيد بأن سعيّد كان وعد سابقاً نادية عكاشة بأن تكون في هذا المنصب كأول رئيسة حكومة في تاريخ تونس والعالم العربي، لكنه سرعان ما غيّر رأيه، تحت تأثير العائلة. 

بدأت نادية عكاشة تستشعر انحسار نفوذها شيئاً فشيئاً، بخاصة مع عجزها عن فرض بعض الأسماء الأمنية التي قام وزير الداخلية بإحالتها على التقاعد الوجوبي وهي ست شخصيات أمنية رفيعة المستوى، من ضمنها مدير استخبارات سابق. شخصيات كانت مساندة لعكاشة وللرئيس في إنفاذ قرارات 25 تموز. لم تكن عكاشة مساندة للقوة المفرطة التي استخدمتها وزارة الداخلية ضد المتظاهرين في 14 كانون الثاني الماضي، وعبرت عن ذلك أمام بعثات ديبلوماسية أجنبية استنكرت ذلك. يبدو أن كل هذه الأحداث سارعت في إحداث القطيعة بين المرأة القوية وعرّابها قيس سعيد، الذي قطع كل تواصل معها، بحسب ما تسرّب للرأي العام، قبل استقالتها بأيام، ما هيّأ لإبعادها نهائياً من القصر. وهنا يعتبر متابعون أنها استبقت هذه الخطوة بتقديم استقالتها قبل أن يُنشر في اليوم التالي أمر رئاسي بإنهاء مهماتها رسمياً. ولم يصدر إلى اليوم أي تعليق من رئاسة الجمهورية على ذلك.

وحول “التعارض في وجهات النظر” الذي تحدثت عنه نادية عكاشة في نص استقالتها، يرى بعض المحللين السياسيين ومنهم الكاتب السياسي عدنان بلحاج عمر أن “الخلاف الجوهري بين مديرة الديوان الرئاسي ورئيس الدولة يكمن في رد الفعل تجاه الإسلاميين بُعيد 25 تموز، ففي حين كانت هي تحثه على اتخاذ قرارات حاسمة ضد قيادات النهضة بمحاكتهم ووضعهم في السجون أو في الإقامة الجبرية للاستعجال باستئصالهم من المشهد السياسي، كان هو متردداً وخائفاً من رد الفعل الدولي إذا أقدم على هذه الخطوات”. وقد حظي بدعم عائلته في هذا الاتجاه لتجد عكاشة نفسها أقلية في موقفها، عدا أن عائلة الرئيس كانت تحاول جاهدة تقليص نفوذها وتهميشها. وهو ما نجحت فيه أخيراً من خلال دفعها إلى الاستقالة.

التدخل العائلي في شؤون السلطة… قدر محتوم؟

يبقى السؤال الأخطر هنا حول الدور الرئيسي الذي أصبحت تلعبه العائلة في إدارة شؤون البلاد، في غياب أي قوة مضادة، سواء من قبل مستشاري الرئيس أو من القوى السياسية أو المدنية في البلاد، فالمستشارون استقالوا كلهم تقريباً أو دُفعوا إلى ذلك، أما الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية ومنظمات المجتمع المدني فسعيّد يرفض التعامل معها. بالتالي، فإن هذا الفراغ حوله لا يمكن إلا أن يستثمره أفراد عائلته لفائدتهم. فهل أصبحت الدولة التونسية مُرتهنة لأهواء عائلة الرئيس؟ ثم ألا يذكرنا هذا بما حصل في الأمس القريب والبعيد عندما وقع الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي تحت تأثير عائلته وابنه الذي دمر “حزب نداء تونس” وتسبب في خراب المشهد السياسي، وقبله عائلة زين العابدين بن علي التي أحكمت قبضتها على مفاصل الدولة لتنتج عن ذلك ثورة شعبية أطاحت بالحكم الدكتاتوري، وقبل ذلك تدخل زوجة الزعيم الحبيب بورقيبة بقوة في سياسته إضافة إلى ابنة أخته سعيدة ساسي، ما مهد لإزاحته من السلطة من قبل خلفه بن علي؟  

“من المؤسف أن نظام سعيد لا يختلف عن سابقيه في تغليب النفوذ العائلي على مصلحة البلاد، مع الفرق أن الذين سبقوه كان لديهم على الأقل مستشارون مقربون يحاولون تنسيب هذا النفوذ، أما سعيّد فوحيد ولا يستمع لأحد وهو بذلك يرتهن مستقبل البلاد لآراء محيطه العائلي. وكما أثبتت التجارب السابقة، قد تكون تلك هي بداية النهاية لحكمه”، يستنتج عدنان بلحاج عمر.

المحلل السياسي، محمد صالح العبيدي يرى أن الرئيس الحالي هو بصدد إعادة إنتاج هندسة الحكم في تونس والتي تقوم على صراع الأجنحة داخل القصر لا على أساس رؤية واضحة للبلاد وإنما على أساس التحكم في السلطة. كما أن هناك دائما تقاطعاً بين الذاتي (العائلي) والمصلحي”.

وفي ما يخص تعدد الاستقالات والإقالات في محيط الرئيس، يرى العبيدي أن هذا “مؤشر على قلة الخبرة السياسية لدى الرجل، فقد أمضى معظم حياته أستاذاً جامعياً، لم يحتك بالدوائر السياسية والنقابية ولم يُمارس العمل السياسي والجمعياتي، وبالتالي أنه غير قادر على فهم تشعب العلاقات بين الأفراد وإدارة دواليب الدولة، وهو ما ينعكس على اختياره من يعملون معه وإسراعه إلى استبدالهم في كل مرة”، ما يخلق مناخاً من عدم الاستقرار السياسي.

من هو الرابح من كل هذا؟

 لا شك في أنها “حركة النهضة” التي لا تنفك تستثمر في فشل الرئيس في إدارة الدولة وعدم قدرته على إحاطة نفسه برجال دولة ومستشارين ينصحونه ويساعدونه في مهماته، فالاستقالات والإقالات المتكررة التي وصلت إلى حد إبعاد مديرة الديوان الرئاسي، تُشير إلى تخبط نظام سعيّد وهو ما أعاد الأمل إلى “النهضة” بإمكانية إزاحته والعودة إلى الحكم. ولا أدلَّ على ذلك من دعوة راشد الغنوشي منذ أيام قليلة النواب في البرلمان المجمد عبر ارسالية قصيرة للاحتفال بالذكرى الثامنة لختم الدستور في كانون الثاني 2014، وذلك خلال اجتماع افتراضي. 

كذلك لا مجال إلا لأن تكون “حركة النهضة” مسرورة بإزاحة غريم ذي وزن في نظام سعيدّ، وهي نادية عكاشة التي كانت وراء إعلان قرارات 25 تموز. وبذلك أصبح الرئيس أكثر عزلة وأكثر هشاشة… في انتظار أن تنقض الحركة عليه.   

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.