fbpx

محاكمة كوبلنز و”الفرع 251″…
حتى لا تموت القصة ولا ينجو النظام

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“نضالنا هو من أجل بلد ديموقراطي، ومن أجل حماية حقوق الإنسان الأساسية، ومن أجل الكرامة والمساواة والحرية. لن أتوقف عن النضال والكفاح من أجل تلك المبادئ”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في شباط/ فبراير 2019، أُلقي القبض على رجلين سوريين في ألمانيا، هما أنور رسلان وإياد الغريب، للاشتباه في ارتكابهما جرائم ضد الإنسانية. عَمل الرجلان في مركز احتجاز “الخطيب” في دمشق حتى انشقاقهما عن النظام عام 2012. ووجهت لهما المحكمة الفيدرالية الألمانية- بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية- تُهم ارتكاب أعمال تعذيب واعتداءات جنسية وجرائم قتل أو المساعدة في تنفيذها وتسهيلها.

هذه هي المرة الأولى التي يحاكم فيها ضباط سابقون في المخابرات السورية جنائياً بسبب الفظائع التي ارتكبت في عهد نظام بشار الأسد.

بعد فشل محاولات إحالة ملف جرائم الحرب في سوريا للمحكمة الجنائية الدولية، منحت محكمة كوبلنز الفرصة للسوريين لمواجهة الجناة وسرد جرائم النظام الوحشية بالتفصيل. تشهد قصصهم على العنف الواسع والممنهج الذي ارتكب لقمع المعارضة بصورة أساسية. وساعد أعضاء المجتمع المدني والنشطاء والمنظمات الحقوقية في رسم صورة عن الفظائع التي يبررها المجتمع المدني- بل ويمحوها- عندما يُطبِّع مع نظام الأسد.

“تحقيق العدالة أمر مهم للسوريين، من المهم أن تشعر بالرضا، أن تشعر أن هناك أناساً ما زالوا يهتمون بما يحدث لنا، وبقِصصنا، وبِمآسينا”.

قدمت جمانة سيف، المحامية السورية والحقوقية والباحثة الزميلة في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، الدعم النفسي والاجتماعي للشهود الذين اعتقل كثر منهم في فرع “الخطيب” وواجهوا الأوضاع غير الإنسانية هناك. فقد أطلعتهم، منذ بداية المحاكمة في نيسان/ أبريل 2020 على حقوقهم وشرحت لهم الإجراءات القضائية الألمانية بالتعاون مع فريق المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، الذي ساند الشهود خلال استعادتهم ذكريات الزنازين المكتظة والإهمال الطبي والحبس الانفرادي.

تطلع السوريون في مختلف أنحاء العالم لهذه المحاكمة ووعدها بتقديم عملية قضائية عادلة ونزيهة. تأمل جمانة بأن يُحدث الحُكم تغييراً سياسياً حقيقياً في الجهود العامة تجاه سوريا. لكنها تعتقد أيضاً أن الأحكام ليست سوى البداية. إذ لا يزال مصير 130 ألف شخص مجهولاً، ولا يعرف أحد هل هم مختفون قسراً أم محتجزون تعسفياً أم موتى.

“تقدم محاكمة كوبلنز رسالة مطمئنة لكل السوريين، فعلى رغم صعوبة نضالنا، وعلى رغم محدودية نطاقه، لا يزال هناك أمل. سيُمهد هذا الحكم الطريق للأعمال الأخرى، ونأمل أن يرسي أساسات قوية للمستقبل”. 

لم يكن من السهل على جمانة مطالعة هذه القصص الآتية من موطنها مرة أخرى. فوالدها رياض معارض بارز للنظام، وتعرض طوال مسيرته المهنية للتهديد والاعتقال من الحكومة. حضر رياض المحاكمة بوصفه شاهداً، ووصف للمحكمة آلية القمع في سوريا. كانت صور قيصر من بين الأدلة التي قُدمت في المحاكمة. تُظهر الصور الضحايا الذي قتلوا في المعتقل وأصناف التعذيب الوحشي الذي مورس في المنشآت الحكومية. وتحدد الصور القاسية، التي سربها عسكري سوري منشق عن النظام، عدد المحتجزين الذي لاقوا حتفهم وتوضح السبب المفترض للوفاة.

“ما من أحد متورط في هذه المحاكمة، مر ما يقرب من عامين، ولا يزال الوضع كما هو”.

على رغم أهميتها التاريخية، عُقدت جلسات المحكمة باللغة الألمانية فقط. ولم يُسمح بأيّ تسجيلات داخل قاعة المحكمة، وهو ما حال دون توثيق المحاضر والتصريحات والشهادات لاستخدامها مستقبلاً. واضطر المراقبون والصحافيون والنشطاء الناطقون باللغة العربية إلى ترجمة المصطلحات القانونية من تلقاء أنفسهم، لتشجيع المتحدثين بغير الألمانية على متابعة المحاكمة.

زَوَّد بودكاست “الفرع 251: جرائم سورية قيد المحاكمة” المستمعين بمستجدات المحاكمة مرتين شهرياً، وقدم تحليلاً دقيقاً لمجريات المحاكمة ومواضيعها الخلافية والمحظورة. على مدار ثلاثة مواسم، ناقش الخبراء والضيوف الاعتبارات الأخلاقية للمحاكمة، وحثوا المستمعين على التمعن في قيود العدالة والتمثيل والاختيار باعتبارها جزءاً من القيود التي يفرضها النظام السوري. 

يتناول البرنامج الذي يُذاع باللغتين العربية والإنكليزية، بالتفصيل، وجهات النظر التي يستند إليها الرأي العام. تجمع الحلقات بين تقديم تقارير صحافية موجزة والتوثيق الرقمي للقصة ذاتها من خلال الذهاب لما هو أبعد من أحداث الجلسات ونقل التجربة المروعة لِلشهود والناجين.

التزم فريتز شترايف، مؤسس البودكاست والمشارك في تقديمه وتحريره، بتقديم مصدر معلوماتي “مدروس جيداً ومُدقق ومُراجع ومُحقَّق” للجمهور السوري والدولي. يسعى شترايف- المحامي الحقوقي، ومنتج البودكاست المتحمس- إلى تقديم سلسلة موضوعية مُنقحة من المعلومات المضللة والإشاعات، من دون التخلي عن قناعة تامة بأن ما يحدث في سوريا هو عمل إجرامي بالغ.

إقرأوا أيضاً:

“نسمع من زملاء سوريين أن هذا الأمر يُمَكّن السوريين من رواية هذه القصة المؤلمة بأنفسهم فيمسكوا بزمامها، مع عدم السماح للآخرين بسردها بدلاً عنهم، أو بشكلٍ خاطئ، أو تشويهها والافتراء عليها بحملات بروباغاندا من جميع الأطراف المختلفة”.

نجح البرنامج في صوغ التفاصيل والجوانب الفنية للقانون الدولي والجنائي بأسلوب بسيط وتحويلها إلى حلقات سهلة الاستيعاب وذات محتوى شامل متاح للجميع. تُقر نور حمادة، وهي محامية دولية سورية/أميركية انضمت إلى البودكاست في موسمه الثاني، بأن هذا العمل تطلب منها التنحي جانباً والتعلم من الأصوات الأخرى. جعلها البرنامج أيضاً تواجه التحدي المتمثل في التعاطف مع المتهمين، وفهم ولاءاتهم والتزاماتهم في سياق النظام الدكتاتوري الذي يتخلل جميع جوانب المجتمع. 

“كنا انتقائيون في ما يتعلق بالمواضيع التي نرغب في تناولها، وبما هو مقدار المعلومات التي علينا عرضها، والتي من شأنها دعم القصة، دون إرباك المستمع بكثير من التفاصيل الصعبة”. 

يوفر “الفرع 251” مساحةً للضحايا لإثبات صحة تجاربهم وإعادة تعريف أنفسهم في المجتمع باعتبارهم ناجين. عازف عود يحمي يديه من الأذى؛ وابنة محتجَزة مع أمها في اعتصام، تعرَّضتا للاعتداء والتعذيب للحصول على معلومات عن نشطاء شباب آخرين؛ وصانعة أفلام خضعت لعملية جراحية بعدما اغتصبها ضباط؛ وكاتبة وممثلة غائبة يمكنها تذكر ولع رسلان بالفنون؛ إضافة إلى محامٍ حقوقي أمضى خمس سنوات في السجون بسبب معتقداته الصريحة ضد النظام قبل اندلاع النزاع بوقت طويل. هذه القصص، وإن كان من المؤلم تذكرها ولها آثار محزنة في الخيال، لا بد أن نسمعها ممن عاشوا ونجوا ليرووها لنا.

“غرض التطبيع مع نظام الأسد هو محو جميع الجرائم التي وقعت. لذا فإن تأثير هذه التجارب هو الحفاظ على هذه المعرفة حية؛ لإثبات أن هذا قد حدث، ولا يزال يحدث”.

بالنسبة إلى المستمعين، فإن “الفرع 251” يقوم بما يقوم به البودكاست: الإعلام والاستكشاف والمشاركة. يثير الفريق أسئلة حول فرضية المحاكمة، وعواقبها، وحدودها فيما لا يزال الأسد يتولى السلطة. وقد تناول بعض الحلقات قضايا مثل: الإكراه، وتأثير هذه المحاكمة على كسر المحرمات الاجتماعية حول الحياة الجنسية والصحة النفسية، والتاريخ المشترك بين ألمانيا النازية والمخابرات السورية، والتربُّح من الحروب، وأسباب خيانة بعض الأطباء المهنيين المدونةَ الأخلاقية للمهنة.

سليم سلامة، منتج أردني يُقيم في أمستردام، ويصفه زملاؤه بأنه ذو أثر كبير في إيجاد اللغة التي تُترجَم إليها، على أفضل وجه، هذه القصص وموضوعاتها الشاملة إلى البودكاست العربي من البرنامج. وقد أحيت صلتُه الوثيقة بإصدارات البودكاست التي تتناول الحياة الجنسية والمساواة والفنون في الشرق الأوسط اهتمامَ الجمهور باللغة العربية، فنشأت إنشاء منصة يلتقي فيها الإنتاج التقليدي بالعصر الرقمي.

“تقدم محاكمة كوبلنز رسالة مطمئنة لكل السوريين، فعلى رغم صعوبة نضالنا، وعلى رغم محدودية نطاقه، لا يزال هناك أمل. سيُمهد هذا الحكم الطريق للأعمال الأخرى، ونأمل أن يرسي أساسات قوية للمستقبل”. 

“أنظر إلى كل ما أُنتجه باعتباره أرشيفاً. فأنا أرى في البودكاست أداةً لأرشفة القصص والأصوات. حين ننظر إلى الماضي، ستكون هناك مواد لن تُمّحى، ليُعيد الناس النظرَ فيها، والاستماع إليها، والتعلم منها. وهذا النزاع بالذات له أهمية؛ فهو يتعامل مع الثورة والحرب والمحاكم القانونية”.

أدى عمل سلامة مع “الفرع 251” إلى اقترابه أكثر من الدمار الإنساني الناجم عن هذا النزاع. ويوضح توثيق المحاكمة بالعربية أهمية اللغة الأم والثقافة الأصلية في السعي نحو تحقيق العدالة وإيجاد حل نهائي. ومع أن المحاكمة أجريت في ألمانيا، فإن كتابة تقارير عنها بالعربية ستصل إلى الجمهور في سوريا، حيث لا تزال الاتصالات مراقَبة بشكل كبير، ويُقيّد احتكار الدولة لوسائل الإعلام من التدفق الحر للمعلومات. وهي تصل أيضاً إلى المجتمع الأوسع الناطق بالعربية وفي الشرق الأوسط، حيث طغت المخاوف الفورية والمُلحّة للسياسة الخارجية والأزمات الوطنية على ما يحصل في سوريا من فظائع.

“حتى بعد عشر سنوات، أو 11 سنة، لا يزال الأمر مهماً، ولا يزال يحدث”.

وتُثبِت الأحكام النهائية للمحاكمة أهمية الحفاظ على القصص التي وردت من سوريا، وتوضح أن التمسك بالتجارب الحية يُبقي الوعد بالعدالة حياً، وهي نهاية يمكن تحقيقها بعد عقد من عدم اليقين. وفي 19 كانون الثاني/ يناير، بعد أسبوع من الحكم على رسلان، بدأت محاكمة علاء موسى في فرانكفورت؛ وهو طبيب وصل إلى ألمانيا بتأشيرة للعمالة الماهرة، ويُتّهم بـ18 تهمة تعذيب وتهمة قتل واحدة.

ومع أن المحاكمة مبَشرة، يتعاطف شترايف مع أولئك الذين “خرجوا”، مختارِين المضيّ قدماً، نأياً عن حياتهم في سوريا، وسعياً وراء راحة البال. وقد مرّ أيضاً بلحظات أثارته فيها شخصياً حدة النزاع؛ فعند تحليل أدلة الفيديو على وقوع قتلى من الأطفال نتيجة الهجمات الكيماوية في الغوطة، لم يستطع إلا أن يفكر في زوجته التي كان من المتوقع أن تضع مولودهما بعد أسابيع فقط. 

يتضح من تلك الحشود والمتظاهرين في كوبلنز أن أحداً لم ينسَ سوريا بعد. وقد قدم الضحايا صفحَهم، وأبدوا استعداداً للتجاوز والمضي قدماً وإعادة بناء وطنهم. ومع ذلك، فإنهم غير قادرين على القيام بذلك عندما يكون أحباؤهم لا يزالون في عداد المفقودين، ولا تزال قلوبهم تطوف معلَّقة في أرجاء سوريا. وفي تصريحات ختامية، أكد الشهود أنهم لا يريدون مشاهدة رسلان والغريب يُعانيان كما عانوا هم، أو في عزلة وتعذيب وإهمال لاحتياجاتهم الطبية، أو إصابة أسرهم بالقلق. بل على العكس، يريدون أن يُعامَل الرجلان باعتبارهما بشراً، وهو حق حُرموا منه خلال فترة وجودهما في مركز احتجاز “الخطيب”.

قبل إنهاء المكالمة، استذكرت جمانة سيف لحظةً في المحاكمة حركت مشاعرها؛ وذلك حين سأل رئيس المحكمة رسلان بشكل ودود عن كيفية نطق اسم عائلته. كان من اللافت بالنسبة إليها أن تسمع شخصاً ذا منصب يتعامل بلطف واحترام مع رجل متهم بالتعذيب والقتل. 

تمنّت حينها لو امتدت اللياقة واللطف ذاتهما إلى والدها الذي تعرض للاعتقال والتعذيب.

هذا ما تأمل أن يحدث لسوريا.

“نضالنا هو من أجل بلد ديموقراطي، ومن أجل حماية حقوق الإنسان الأساسية، ومن أجل الكرامة والمساواة والحرية. لن أتوقف عن النضال والكفاح من أجل تلك المبادئ”.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!