fbpx

اليوم ليس حقيقيّاً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كتبتُ على الجدار فوق سريري بخطّ عريض عبارة “اليوم ليس حقيقيّاً”، كي تكون أوّل ما أراه حين أستيقظ صباحاً وأتصرّف على أساسه. صرت أتعامل مع يومي كأنّه افتراض يوم وليس يوماً حقيقيّاً. بمعنى آخر، تحوّل يومي إلى اختبار، ماذا كنت ستفعل يا “بو” لو كان اليوم بهذه السورياليّة والفظاظة؟ 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مرّت سنة تقريباً على آخر مقال نشرته، ومن حينها كلّما قاربت على الانتهاء من  موضوع ما، أمحوه بكبسة زر وأخرج. ليس الأمر نفاد إلهام ولا ما يسمّيه علم النفس “قفلة الكاتب” أو “متلازمة الصفحة الفارغة”. المشكلة ليست في فعل الكتابة نفسه بل في بشاعة ما نعيشه، ولأكون أكثر دقّة، وقاحة ما نعيشه اليوم ممّا لا يمكن للغات العالم لو اجتمعت أن تضيف أي قيمة له أو معنى.

ما الجديد الذي سأضيفه إن أشرت إلى عشرين مجزرة إضافيّة في سوريا وموت أربعين معتقلاً هناك تحت التعذيب؟ لقد طوى العالم الأوّل صفحة سوريا المملّة التي تحوي آلاف المجازر والمعتقلين ونقل اهتمامه إلى بلاد بائسة أخرى يصرف فائض ذخيرته ومرتزقته فيها. أيّ فضيحة فساد في لبنان سأكتب عنها؟ أيّ كلمات ستصف هول ما يحدث هناك حيث يحرق ناس دواليب سيّاراتهم ودرف خزائنهم للحصول على قسط ساعتين من الدفء فقط؟ أيّ كلام غاضب أبلغ من هذا الفعل نفسه؟ أيّ استعارات مقاومة سأكتب بها عن فلسطين والنهر والبحر إن صارت إسرائيل موجودة في كلّ بيت، بل في كلّ غرفة، دون الحاجة إلى غزو برّي ومحاربات أف 16 تدمّر البيوت فوق رؤوسنا؟ أيّ حنين للبنان سأكتب عنه إن كانت آخر ذكرى لي هناك موت أبي بين أيدينا بينما كنّا نركض بائسين بين الصيدليّات والسوق السوداء، لتأمين حبّة دواء واحدة تخفّف ألم أيّامه الأخيرة؟ لقد استعاروا منّا الحفاضات في واحدة من أهمّ مستشفيات بيروت قبل وفاته، ويوم دفنه تخلّفت عن الجنازة لأنّي كنت عالقاً في طابور أنتظر دوري للحصول على ربع تنكة بنزين. هل يحمل واقعاً هائلاً كهذا أي استعارات ومقاربات وتحليل من أيّ منظور أو مدرسة فكريّة؟

أنا لم أعلن هزيمتي ولم أستسلم للأمر الواقع إن كان في ما سبق ما يوحي بذلك، كلّ ما في الأمر أنّ عقلي عالق في معضلة من سؤالين، أوّلهما هل هذه السورياليّة والجنون المطبق، هما الواقع؟ الواقع المُعاش فعلاً أعني وليس ضرباً من ضروب أحلامي الغبيّة. أحتاج تأكيداً بهذا الخصوص قبل الشروع بأيّ فعل آخر والانتقال إلى السؤال الثاني الذي يحمل طرحه افتراض أن الإجابة على الأوّل هي نعم. “كيف يمكنني هضم هذا الجنون- الواقع- والتطبيع معه، أساس كي أستطيع لاحقاً طرح أيّ سؤال أو استنتاج بخصوصه؟” الرجاء ترك الإجابة في التعليقات (كما يقول صنّاع محتوى موقع “يوتيوب” متحايلين على خوارزميّات النشر). 

على سبيل المثال لا الحصر، سأذكر بضعة أحداث واقعية عشناها فعلاً في هذه السنة التي عزفت فيها عن الكتابة: أتمّت المصارف اللبنانيّة بفضل الله وحزبه سرقة أموال المودعين بالكامل. قيمة الدولار الواحد وصلت إلى الثلاثين ألف ليرة لبنانيّة. اعتزل سعد الحريري السياسة ورحل باكياً. الرئيس نبيه برّي لم يمت بعد. اشتعلت أزمة ديبلوماسيّة شرسة بين لبنان ودول الخليج بسبب جملة قالها الوزير جورج قرداحي، الوزير جورج قرداحي نعم. روّج جمهور “حزب الله” بعد اغتيال لقمان سليم جديّاً أن أخته آكلة لحوم بشر. اختار البرلمان اللبناني نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة لإنقاذ البلد. 

دعنا من لبنان فهو أساساً بلد العجائب، ويفترض أن نكون قد اعتدنا على جنونه. انسحبت الولايات المتحدّة من أفغانستان. حوّل تنظيم “طالبان” موقع تماثيل بوذا إلى مزار سياحي سعر تذكرة دخوله خمسة دولارات أميركيّة. اقتحم مواطنون أميركيّون مبنى الكابيتول الأميركي أحدهم يلبس زي شامان وبيده رمح. وفي الضفة الأخرى من العالم اشترط الرئيس في تركمانستان على شعبه القسم على القرآن بأنّهم لن يسيئوا استعمال شبكة الانترنت كشرط لتوصيلها إلى منازلهم. في الهند نزح سكّان قرية جميعاً بعد الحرب المستعرة بين القرود والكلاب على خلفية مقتل قرد صغير وقتل 250 كلباً دفعة واحدة، في عملية ثأر نفّذتها عشيرته. سجّلت حفلات التكنو حضوراً هائلاً في السعوديّة. جمهوريّة مصر العربيّة ستبدأ قريباً محاكمة من يفشل في محاولة انتحاره. ظهر نبيّ جديد على “فيسبوك”، فسارع دار الفتوى إلى تكذيبه. يتم بيع قوارير الريح “الضراط” على NFT مع حفظ حقوق مطلقيها. انتهى هلع “كورونا” في العالم، أكرّر: هلع كورونا العالميّ انتهى. سأتوقّف عن التعداد وأغمض عيني محاولاً تذكّر هول ما عشناه فترة الوباء والسنة الكاملة التي عشتها كالقنفذ مختبئاً في بيتي مرعوباً من لمس أي شيء، من التواصل مع أي شخص، ومن حاجز الشرطة في الشارع المقابل، لقد كانت تجربة فحسب.

يدعوني أخي إلى العودة إلى الإيمان ليطمئنّ قلبي وأتوقّف عن المبالغة، أشعر أحياناً في لحظة تخلٍّ بأنّه محقّ وينتابني حسد لكلّ المؤمنين في هذا العالم بغضّ النظر عمّا يؤمنون به. يضعون عقلهم في باب البرّاد وينسون أمره، لا وجع رأس بعد اليوم طالما أن ما يحدث هو “أكبر منّي ومنّك”.

أمضيت أشهراً في محاولة تطوير هذه الفكرة الكسولة في رأسي إلى أن أتت اللحظة، “يوريكا” كما قال العمّ أرخميدس. كتبتُ على الجدار فوق سريري بخطّ عريض عبارة “اليوم ليس حقيقيّاً”، كي تكون أوّل ما أراه حين أستيقظ صباحاً وأتصرّف على أساسه. صرت أتعامل مع يومي كأنّه افتراض يوم وليس يوماً حقيقيّاً. بمعنى آخر، تحوّل يومي إلى اختبار، ماذا كنت ستفعل يا “بو” لو كان اليوم بهذه السورياليّة والفظاظة؟ 

اصطدت بهذه الطريقة دولارين بليرة واحدة، حافظت من جهة على شكوكي بأنّ هذا السيناريو التافه واقع يحدث فعلاً، ومن جهة أخرى حافظت لنفسي على خطّ رجعة إن كان شكّي ليس بمكانه كي لا ينتهي بي الأمر عدميّاً مستسلماً ينتظر أن تشرح له “نيتفلكس” أسرار المؤامرة الكبرى وهو جالس في صالونه.

يبدو الأمر ساذجاً بداية الأمر، لكنّ الطريقة هذه نفعتني بشكل لا يصدّق والدليل على ذلك وفي هذه اللحظة تحديداً، أنني أكتب السطر الأخير من المقال الأوّل لي بعد صمت سنة كاملة، وبرغم الفظائع التي يحويها النصّ، لم أستعمل علامة تعجّب واحدة فيه. ولم العجب من أيّ شيء أصلاً؟ 

اليوم ليس حقيقيّاً.

إقرأوا أيضاً: