fbpx


هندسة الإضطهاد”: عذابات مريضات سرطان فلسطينيات على الحواجز الإسرائيلية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم تعد النساء اللواتي أصبن بسرطان الثدي موضوعاً للكتابة، بل تحولن إلى حقل لإنتاج المعرفة من خلال تصوراتهن عن مرضهن ومعاناتهن.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

 سكن الألم وتوقف عن الصراخ، وظلت الحسرة والوجع حاضرين على وجوههن. في رحلتهن اليائسة للبحث عن علاج،  وحده الاستعمار الكولونيالي الإسرائيلي، هو المنتصر على أجساد نساء أنهكها الورم الخبيث ووقفت تقاوم وجع السرطان وآلامه، ودناءة الاحتلال وقهره. 

إنها سردية البحث عن عذابات نساء فلسطينيات أنهكهن المرض الخبيث، في ظل سردية اضطهاد الاحتلال الإسرائيلي، ناهيك عن حالة عجز المنظومة الصحية الفلسطينية في أن تؤسس نظاماً صحياً شاملا، كاستراتيجية مواجهة ودعم للنساء وأصاب السرطان أجسادهن فأفقدهن  بعضا من كينونتهن الأنثوية. هذا موضوع كتاب “هندسة الاضطهاد – سياسات التحكم بالأجساد الصامتة” للباحثة نور بدر. 

 إنه كتاب من نمط خاص، نمط يحفر في أوجاع النساء اللواتي هشَّم المرض أجسادهن، وحطمت البنية الاستعمارية أحلامهن في العلاج، فكانت صرخاتهن بمثابة الطرق على جدران الخزان، ونور بدر تقوم بإيصال أصواتهن ومعاناتهن.

 لمتابعة رحلة العلاج تضطر هذه الأجساد إلى خوض رحلة شاقة  للحصول على موافقة للعلاج، وتتقن في الوقت نفسه إخفاء أعضاء من جسدها بترها المرض، خوفا من الإقصاء والتهميش ،أو كما تقول المؤلفة، التعامل معها كأجساد مبتورة الأنوثة، والمؤلم أن هذه الأجساد الصامتة تتقن  إخراس الألم بداخلها، وتعرف كيف تقمعه، وهي أدرى الناس به. 

لم تختزل نور في كتابها مرض النساء اللواتي ابتلين بسرطان الثدي ببعده البيولوجي، بل سعت لتفكيك الحالة المشخصة، عبر ربطها بالسياق الاستعماري وسياساته؛ بمعنى أن الكتاب، كما تقول مؤلفته، يعتمد على تفكيك “السياق” لفهم انعكاسات روايات النساء المصابات بسرطان الثدي، وقصدت بالسياق الفكرة الوجودية للمشروع الصهيوني، والتي “استهدفت أجساد الفلسطينيين/ات بأنماط من الإبادة تشكلت ذروتها في مأساة العام 1948، وذلك بوصفها عملية بنيوية مستمرة وليست حدثاً منقطعاً حسب مدرسة الاستعمار الاستيطاني” (ص15). في المقابل ترى المؤلفة أن أجساد النساء الفلسطينيات المصابات بسرطان الثدي جرى استهدافها، عبر استهداف منظومة الصحة  بالتدمير أو الإغلاق والتهميش، أو تفاقم البعد البيروقراطي والفساد سيما بعد نشوء النظام السياسي الفلسطيني. لكن الجديد والملفت  أن المؤلفة سلكت دربا جديداً لتغيير زاوية انتاج المعرفة، فلم تعد النساء اللواتي أصبن بسرطان الثدي موضوعاً للكتابة، بل تحولن  إلى حقل لإنتاج المعرفة من خلال تصوراتهن عن مرضهن ومعاناتهن. وبذلك تحولت ” الفواعل المهمشة” إلى  فواعل فاعلة ترصد تاريخها، معاناتها، سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة.

حاولت المؤلفة في كتابها تتبع فكرة “السياق”، بمعنى البحث عن الحالة ضمن سياقها التاريخي – السياسي، فكان بحثها قائماً على أن السياق هو فكرة المشروع الصهيوني والقائمة على تعدد أنماط إبادة الجسد الفلسطيني، إذ سعت من وراء هذا المنهج إلى تحليل تموضع السياسات الاستعمارية الإسرائيلية على الأجساد خلال محاولتهن الوصول للعلاج في دولة الاحتلال بعد تعذره في الضفة أو القطاع. 

هنا تشدد المؤلفة على أن الأجساد المصابة بسرطان الثدي ليست مستثناة من منطق الإبادة والإزالة والاقتلاع، ففي حال ارتباط المريضة بأحد المقاومين الفلسطينيين/ات، تصبح موضعاً للاضطهاد،  ويتطلب حصولها على العلاج  نضالاً بالغ المشقة، هذا إ ذا تمكنت من الحصول عليه.

إقرأوا أيضاً:

واقع الحال، وكما نعرف، أن الاستعمار الصهيوني لم يكن يستهدف السيطرة على أهل البلاد الأصليين (الفلسطينيين)، بل عمل على اقتلاعهم. و العلاقة بين المستعِمر والمستعمَر ليست علاقة إخضاع الأول للثاني، بل عملية نفي الأول للثاني، فلا يكون للأول وجود ما دام الثاني يقارع الأول، يصارعه، يثبت جدارته السياسية، يثبت حضوره الوجودي، وهنا يمكن القول إن إحدى إشكاليات المشروع الصهيوني، والفكرة الصهيونية، أن المستعمَر(أي الفلسطينين) ما زال مواظباً على الوجود، مادياً ومعنوياً والأهم سياسياً. 

ممارسة فعل الإبادة، أو أنماط الإبادة، لم يتوقف عند نكبة فلسطين في العام 1948، بل يمكن القول إن النساء الفلسطينيات المصابات بسرطان الثدي خضعن لنمط من أنماط الإبادة، من خلال التحكم باعطائهن الموافقة على تلقي العلاج في المستشفيات الإسرائيلية. وهنا تشدد المؤلفة على أن هذه السياسة  تنفذ عبر مجموعة من السياسات الاستعمارية على الأرض “وهي احدى تمظهرات فعل الإبادة للمستعمِر طوال عقود من الصراع معه، يحدث ذلك كله، كما تقول نور بدر، في ظل التفوق العسكري المروع لإسرائيل على الفلسطينيين.

ممارسة فعل الإبادة لا يؤخذ بحرفيته، بل في طرائق تنفيذه، وفي تعدد تمظهراته، وفي الصلف الإسرائيلي عند التعاطي مع الفلسطينيين واعتبارهم أنماطاً ينبغي معاقبتها بالطرد والاقتلاع، والتطويع، والإخضاع. كلها وسائل تهدف إلى دفع الفلسطيني إلى الطاعة، ليكون إما جسداً بلا حياة، أو ليرحل، تطبيقاً للفكرة الصهيونية: أرض أكثر شعب أقل. 

في مسار بحثها، تقدم بدر شهادات فلسطينيات عانين من الإذلال والقهر للوصول إلى المشافي في دولة الاحتلال، وتورد شهادات لمصابات بسرطان الثدي في قطاع غزة والضفة الغربية، حيث تبرز تلك الشهادات حجم المعاناة الكبيرة للحصول على موافقة بغية الوصول إلى المشافي الإسرائيلية لتناول جرعة كيماوية، حيث لا يحق للمريضة أياً تكن حالتها الصحية وعمرها أن يرافقها أحد، ناهيك عن الصعوبات البالغة القسوة عبر الحواجز، إذ يخضعن لعملية تفيتش دقيقة، والانتظار لساعات وساعات عند الحواجز.

لقد أفرزت سياسة القهر الإسرائيلي منطقاً استعمارياً استعلائياً، لا ترى أن من حق الفلسطينية العلاج، إلا في حال كانت “برئية” وفق المنطق الاستعماري الإسرائيلي، أي ليس لها، أو لأي أحد من عائلتها، سجل في مقارعة المحتل. سياسات استعلائية نراها واضحة العيان عبر الحواجز، أو الطرق الالتفافية، باعتبارها أدوات سياسية استعمارية للاحتواء والاقصاء.

المؤلفة عملت على قراءة الواقع الصحي، وفق السياق السابق، أي وفق آليات الاستهداف الإسرائيلي له، عبر القصف (خصوصا في قطاع غزة) أو الاقتحام أو الإغلاق، في الضفة الغربية، وصولاً إلى السياسات النيوليبرالية لإدارة القطاعات الفلسطينية بعد نشوء النظام السياسي الفلسطيني. هنا حاولت المؤلفة تتبع السياسات الإسرائيلية تجاه القطاع الصحي، لكنها عادت بالذاكرة بعيداً، حينما تناولت السياسات الإسرائيلية تجاه المقاومة الفلسطينية في لبنان، ربما كان من الأهمية بمكان لو تم التركيز على السياسات الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، باعتبارها نموذجاً حيا لهندسات اضطهادية تسعى لاحكام سياسات التحكم “بالأجساد الصامتة”.

 كان مهماً جداً أن يبقى اهتمام الباحثة ضمن هذا المسار، وأن يتركز البحث في سياقات السياسات الاستعمارية الاستعلائية ضد الفلسطينيين،  صحيح أنها تناولت القطاع الصحي في الضفة الغربية، لكنه لم يكن تناولاً واسع النطاق، ناهيك عن الصمت إزاء الوضع في قطاع غزة، وتحت سلطة حماس. 

أعتقد أن ما تعرضت له الفلسطينيات المصابات بسرطان الثدي كان هندسات مزدوجة، فثمة محتل إسرائيلي هدفه واضح للعيان، وثمة سلطتان فلسطينيتان، لم تأخذا على عاتقهما دعم المواطن الفلسطيني وتدعيم وجوده، وتعظيم انتمائه الوطني، لا انتمائه الحزبي. هذه السياسات هي التي اجهضت الصمود الفلسطيني، مقابل تعزيز هيمنة الاضطهاد التي يمارسها المستعمِر الإسرائيلي. فقد تتعاظم حالات الفساد والإفساد التي دشنها إقامة كيان السلطة الفلسطينية، فساد تجلت مظاهره في عجز الطاقم الطبي، مهنياً وتقنياً عن التشخيص المبكر لسرطان الثدي، فكانت النساء الفلسطينيات المصابات عرضة لتسلط الاستعمار الإسرائيلي على أجسادهن، سواء بالتضييق أو المنع، أو بانتظار أجلهن بصمت. والوضع في قطاع غزة أكثر مأساوية، تحت ظل حكم حماس، وهنا كان من الضروري أن تبرز المؤلفة السياسات الحمساوية تجاه الملف الصحي المتعلق بهذا الشق تماماً. نعرف أن “أسطوانة” الاحتلال والحصار هي السائدة، لكن لا يوجد أي أفق لإيجاد بدائل، أو لتقديم دعم معنوي لهؤلاء النسوة المعذبات.

المؤلفة حاولت أيضاً إبراز البعد الجندري في هندسة الاضطهاد، من خلال  عرض التحولات في نظرة النساء المصابات بسرطان الثدي لأجسادهن، ونظرة الآخرين لهن، فلم يعد الجسد جسداً مريضاً فحسب، بل جسداً مبتور الأنوثة، بعد فقدان الثدي والشعر. هي  قرأت آلامهن، عذاباتهن، صراعاتهن مع عدو ينهش الجسد والروح، فقد فقدت  الأنا الأنثوية أنثويتها، ولربما تحولت في نظر نفسها إلى كائن لا تعرفه، كما هو حال نظرة الآخرين لها. 

هنا تحاول المؤلفة أن تفكك تصورات الحالة الجندرية، فترى أن المرأة المصابة تتحول من كونها ضحية إلى كونها مشاركة في توليد الاضطهاد الذي تتعرض له، عبر استدخال مفهوم السلطة المجتعمية وعبر إعادة انتاج الهوية الجندرية بصفتها هوية مرتبطة بالبعد المادي. كما أن الاضطهاد يظهر من خلال التصورات التي يعكسها الأفراد على أجساد النساء الفيزيائية، ككيان مهم ظاهر للعيان تمارس عليه تقنيات السلطة. (ص70)

شهادات كثيرة سردتها المؤلفة، تروي وجع النساء اللواتي أصبن بسرطان الثدي، جلّها يتحدث عن القهر والمعاناة المجتمعية، المعاناة في مجتمع ذكوري لم ير في ثديي المرأة إلّا مكملا جنسياً فحسب.  هو القهر ولا شيء غيره يمكن به وصف معاناة النسوة اللواتي تخلى عنهن رجالهن، كما حدث مع نسوة في قطاع غزة. 

إنها هندسة مجتمعية فوضوية لأجساد صامته، متعبة، أنهكها المرض، لكن الأمل يظل حاضراً، فمقاومة المرض أمل، والسعي لاستصدار تصريح للدخول إلى دولة الاحتلال، أمل في حياة حتى ولو كانت لشهور إضافية أخرى، أو لساعات فقط.

إقرأوا أيضاً:

بالفعل أنتج هذا الكتاب فهماً جديداً لما أسمته المؤلفة نور بدر بـ”الأجساد الصامتة”، الأجساد المبتلية بسرطان الثدي، ليس باعتباره مرضاً عضوياً، بل عبر تناوله ضمن سياقه السياسي، أي السياق الاستعماري كسياق يستهدف الأجساد كلها، باعتبارها أجساد فلسطينية، خاضعة لفعل الاستعمار، ولشرطه.

 وفي محاولة النفاذ من هذه السياسات تبدو المأساة على شكل عقاب استعماري بالغ القسوة والوحشية، من خلال التحكم في المنع أو السماح بالوصول للعلاج. ناهيك عن أن الكتاب وثّق شهادات الفلسطينيات المصابات بسرطان الثدي، لينقل لنا ليس فقط معاناتهن، بل ليدون أيضا سرديتهن الشفهية، سردية عنف البنية الاستعمارية الاستيطانية، وصلف العادات والتقاليد المجتمعية الفلسطينية. 

إنها نقلة بالغة الأهمية في تناول موضوع حساس من خلال  بعده السياسي والمجتمعي، لرواية العنف الممارس عليهن، وعلى أجسادهن، عنف الدولة المستعمرة، وقسوة الظرف الاجتماعي وتخلفه وعدم مراعاة حساسية المرض. الدولة المستعمرة تشرعن العقاب تحت ذريعة “الأمن الإسرائيلي”، وتخضع أجساد النساء الفلسطينيات لسلسلة طويلة من الإجراءات المعقدة، بدءاً من الحصول على تصريح، وليس انتهاء بالمعالجة الكيماوية،  وما بينهما من إجراءات التفتيش القاسية، وصولا إلى تعرية الأجساد المريضة والمفتتة.

في المقابل، لم يتعامل النظام السياسي الفلسطيني، بعد إقامة السلطة الفلسطينية، مع الأجساد الصامتة باعتبارها أجساداً بحاجة إلى رعاية خاصة، بل تركها تحت رحمة سلطات الاحتلال.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 30.03.2024

فصائل مسلّحة في سوريا “توظّف” الأطفال كـ”مقاتلين مياومين”

مئات الأطفال شمال غربي سوريا يعملون كمقاتلين لدى الفصائل المسلحة، بأجور يوميّة يُتَّفق عليها مع زعيم المجموعة، يبلغ "أجر" الطفل المقاتل/ المرابط في اليوم بين 3 و6 دولارات، أما الفصائل المتشددة فتدفع 100 دولار في الشهر.