fbpx

من حسين مروة إلى لقمان سليم:
سيرة القتلة وفخاخ الموت المتواصل 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سيرة الاغتيالات الدموية في لبنان، على تنوعاتها، والتي تكاد تصبح جزءاً من يومياته العادية، تبرز تاريخاً معقداً من التدخلات الخارجية وانعكاساتها على الواقع المحلي، السياسي والمجتمعي والطائفي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منتصف حزيران/ يونيو عام 1959، وبينما كانت الوحدة المصرية السورية قد أتمت عامها الأول، صعدت حمى الخلافات بين الشيوعيين العرب والرئيس جمال عبد الناصر بخصوص صيغة الوحدة الاندماجية بين القاهرة ودمشق، وعبر هؤلاء عن موقفهم بأن تضحي المسألة عبارة عن اتحاد فيدرالي، يقضي بالتئام القوات المسلحة والسياسة الخارجية، في حين يظل لكل إقليم حكومته وبرلمانه. 

التناقض الذي خلف معارضة قوية ومحتدمة بين الطرفين، نجم عنه أثر مباشر وفوري، عندما تصدعت بنية “الحزب الشيوعي السوري اللبناني”، فعاود الفرع السوري إلى مواقعه السرية تحت وطأة حلّ الأحزاب السورية في أعقاب الوحدة، شباط/ فبراير 1958، لجهة تدشين تنظيم سياسي موحد، هو الاتحاد القومي. 

وفي هذا التاريخ الصعب والغامض وفي ظل ندرة الوثائق والمعلومات، وقع فرج الله الحلو، القيادي الشيوعي اللبناني، في قبضة الأمن السوري، بعد التسلل عبر الحدود ضمن محاولاته إعادة وحدة التنظيم. لكن وقائع أخرى سريعة ودموية حصلت، إثر تعذيب نازي أفضى إلى قتله، ثم تذويب جسده بالأسيد. وبعد أسابيع من الجريمة التي استدعت استقطاباً حاداً بين صحف وإذاعات دول المنظومة الاشتراكية ومثيلاتها في مصر، تفككت دولة الوحدة.

سيرة الاغتيالات الدموية في لبنان، على تنوعاتها، والتي تكاد تصبح جزءاً من يومياته العادية، تبرز تاريخاً معقداً من التدخلات الخارجية وانعكاساتها على الواقع المحلي، السياسي والمجتمعي والطائفي، والأخير تم تفخيخه ليصير بمثابة أداة تدميرية لمن يخرج عن طاعة الجماعات المتخيلة. تعبئة المجتمع اللبناني المستمرة لدرجة تتلاشى فيها الحدود بين العدالة والسياسة، فتغيب الأولى قسراً لحساب الثانية، وما تفرضه من واقع، تجعل المسافة قريبة للغاية، تماماً مثل حال المصائر المشتركة، بين كل من خلدتهم جداريات الموت. لا يختلف في ذلك ما حصل مع كامل مروة وغيره من معارضي عبد الناصر، مروراً بآخرين لم تتحمل السلطات المختلفة ووكلاؤها مقاومتهم، من بينهم حسين حمدان (مهدي عامل) وسمير قصير، وحتى لقمان سليم. 

فقوى الأمر الواقع، على اختلاف مواقعهم وتسمياتهم عبر التاريخ، لا يتعرض أي منهم للمساءلة أو المحاسبة. وسواء كان العدوان بكاتم الصوت أو بانفجار مدو تهتز له الأرض والأبدان، يظل القتلة، “معلومين مجهولين” بتعبير الباحثة اللبنانية، منى فياض، دونما قدرة على تحويل اعترافاتهم الشفاهية (رئيس فرع المعلومات في القوات السورية، في لبنان، غازي كنعان، يقول لقيادة الحزب الشيوعي، إثر اغتيال مهدي عامل: “هل كان ضرورياً أن تدفعوا هذا الثمن؟”، أو حملاتهم الدعائية المضادة (شيعة السفارة)، إلى وثيقة إدانة تنهي اشتهاء القتل. 

مع الذكرى الخامسة والثلاثين لاغتيال المفكر اللبناني، حسين مروة، تبدو البنية السياسية التي خلقت سرديات عدة، من بينها اعتبار لبنان “خاصرة سوريا الرخوة”، بينما تخفي أسفلها طبقة سميكة من التحالفات والمصالح الاستراتيجية والمناورات التكتيكية، لا تزال قادرة على الصمود والتفاعل وتقديم الإغراءات لاستمرار تقسيم العمل (القتل) بين القوى وبعضها منذ ما بعد الاستقلال وحتى الطائف. 

لذا، تزامنت ذكرى اغتيال مروة مع الذكرى الأولى لمقتل لقمان سليم من القوى ذاتها، في استعادة هزلية للتاريخ، وبالدرجة التي تفقد أي بلاغة سياسية قدرتها على التعبير، بينما تبقى عبارة جورج حاوي، الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، أثناء تأبين مهدي عامل، تؤكد راهنيتها، عندما قال: “أصبح المشهد مملاً، أليس كذلك يا رفاق؟”.

ومثلما فرض مقتل رفيق الحريري واقعاً سياسياً مغايراً، وانسحب الوجود السوري من بيروت، بكل تبعاته اللاحقة، كان مقتل مروة الثمانيني له سياقه، المحلي والإقليمي، هو الآخر، على خلفية احتدام الصراع الذي قاده كل من الثنائي الشيعي (“حركة أمل” و”حزب الله”)، خلال الحرب على المخيمات الفلسطينية في بيروت وصيدا. والهدف هو إضعاف المعسكر “العرفاتي” المنافس الإقليمي لحافظ الأسد.

وقد مثّل صاحب: “تراثنا… كيف نعرفه؟”، تهديداً مباشراً على “القوى الظلامية” المتهمة باغتياله، والتي وجدت في نشاطه الفكري والنظري، وكذا تأثيراته على الحراك السياسي والممارسة الديموقراطية، عملاً يهز الأرض تحت أقدامها. القوى الجديدة والناشئة، وقتذاك، أي “حزب الله”، والذي كان يكنى بتلك الصفة (ومعه حركة أمل)، اتهمت عناصرهما الميلشياوية بتنفيذ الحادثة الدموية. وعدّ جورج مارشيه، الأمين العام لـ”الحزب الشيوعي الفرنسي” أنّ “اغتيال حسين مروة يبيِّن الأبعاد الخطيرة للقوى الظلامية التي تعارض، وبكل الوسائل، الحل الوطني الديموقراطي في لبنان”.

اغتيال مروة ثم تلميذه المفكر الماركسي مهدي عامل، في غضون ثلاثة أشهر، لم يكن أمراً عفوياً، إنما عملية مقصودة ومتعمدة، تهدف إلى تصفية أي مقاربة واقعية بين الفكر والممارسة. ومقاومة كل محاولة جادة لبناء وعي مغاير يقوم على نزع الأسطرة عن التاريخ، ورفض تحييد المفكر عن الواقع، ثم عزله خارج أي أطر حركية وتنظيمية. فتظل صورة المفكر “المنحاز صوب العقيدة والفعل التقليدي على حساب العقل والفعل الاستراتجي” بتعبير الأكاديمي والمفكر الأردني، هشام غضيب. وبالتالي، تم تطويق هذا العقل النظري من جانب “قوى الثورة المضادة ولا عقلها اللاهوتي”، ما أدى إلى بقاء الذوات الاجتماعية مجرد كتل سكونية بدون إرادة أو فعالية تاريخية.   

مذ عاد مروة إلى لبنان، انخرط في “الحزب الشيوعي اللبناني”، بينما ظهرت كتاباته في مجلة “الثقافة الوطنية”، عام 1951، وقد شارك في تحريرها مع محمد دكروب تحت إشراف فرج الله الحلو. وانتقل من المجلة للحزب. وعنى خلال هذه المرحلة بتأويل جديد للتراث يتناسب والشروط الثقافية والعلمية التي كان يهدف إلى تحقيقها، لجهة إحداث انعطافة في الوعي والتاريخ بعيداً من هيمنة العقل الماضوي والسلفي وملحقاته من ثقافة الأحزاب البرجوازية والنخبوية. ومن ثم، طلب الحزب منه إنجاز “تقريره” عن التراث العربي الإسلامي والذي جاء بعنوان: “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”. 

إقرأوا أيضاً:

ولم يكن مهدي عامل هو الآخر بعيداً من تلك المحاولة، إذ انخرط في جدل محموم حول الواقع العربي، بنيوياً، وتحليل أنماط إنتاجه، وكذا البنى السياسية والأيدولوجية. فـ”الحضارة” بالنسبة إلى عامل ليست عبارة عن مفهوم مجرد وروحي متعالي، إنما تتصل بشرطها المادي التاريخي في بنية المجتمع. 

وكما حاول مروة إرباك الصورة المتوهمة عن المقدس والمتخيل الديني في التاريخ العربي والإسلامي، والكشف عن عناصره المادية والعلمية المغيبة، حفر عامل أسفل الطبقة التي حاولت تمييز هوية لبنان في الطائفية، مثلاً، ووقف على النقيض من دعايتها السياسية، فيما اعتبر أن الطائفية لا تنتسب إلى الحيز أو المجال الديني، ولا تعدو كونها أكثر من أداة هيمنة لإدارة مصالح فئوية وطبقية، وقد كانت “أداة أيديولوجية” للتعمية عن تلك الأهداف والمصالح في الحرب الأهلية (وبعدها).

ويقول عامل: “كيف تكون الحرب طائفية حين يكون الموقف من إسرائيل، مثلاً، محوراً للصراع فيها؟ وكيف تكون طائفية حين يحتدم فيها الصراع بين القوى الرجعية (الطائفية)، وهي من مختلف الطوائف والقوى الوطنية الديموقراطية، وهي أيضاً من طوائف متعددة؟”.

ولذلك، اتفق مروة مع عامل على الاستعانة بالمنهج المادي، بقوانينه الثلاثة، في قراءة التاريخ، ونفي جوهره الميتافيزيقي، حيث يقول في مقدمة كتابه: “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”، إن “المنهج المادي التاريخي وحده القادر على كشف تلك العلاقة ورؤية التراث في حركيته التاريخية، واستيعاب قيمه النسبية، وتحديد ما لا يزال يحتفظ منها بضرورة بقائه وحضوره في عصرنا كشاهد على أصالة العلاقة الموضوعية بين العناصر التقدمية والديموقراطية من تراثنا الثقافي، وبين العناصر التقدمية والديمقراطية من ثقافتنا القومية في الحاضر”.

وعليه، فإن مسألة إعادة النظر في هذا التراث ليست جديدة، وإنما هي وجه تحولي جديد لمسألة بدأت منذ أكثر من قرن، بدأها فريق من المفكرين والمثقفين العرب برزوا كطلائع لتلك الحركة المسماة “النهضة العربية” الحديثة، ومعبرين بعفوية في المجال الفكري عن بداية التخلخل، موضوعياً، في علاقة البنى الاجتماعية الإقطاعية العربية بسيطرة الإقطاعية العسكرية الحاكمة في دولة الخلافة العثمانية التركية، إلى جانب عامل التخلخل في علاقة البنى الاجتماعية العربية بسيطرة الحكم الإقطاعي العسكري العثماني المتخلف والمنحل تاريخياً، وفق مروة. 

ويردف: “إذا كان الفكر البرجوازي العربي يحاول في مناخ التحولات النوعية الثورية داخل حركة التحرر الوطني العربي أن يحل المشكلة وفقاً لمواقفه الأيديولوجية، فقد حان الوقت كذلك للفكر العربي الثوري أن يقدم الحلول لها أيضاً وفقاً لأيديولوجيته الثورية، أيديولوجية الطبقات والفئات الاجتماعية التي تقف في المعسكر المواجه لمعسكر البرجوازية اليمينية الرجعية”.

شرط التناقض الذي اقترب (مهدي عامل وحسين مروة) من البحث عنه في التاريخ، كضرورة للتقدم وإنهاء الإذعان الثقافي، فضلاً عن سيطرة طبقة بلغتها وقيمها المادية والعلمية، كانت مهمة صعبة، اصطدمت بقوى صلبة وعنيدة، تحتمي بالخطاب الوعظي والأخلاقي المتشنج لحماية وجودها التاريخي وامتلاكها السلطة ووسائل الإنتاج. ولم يكن اغتيال أيا منهما سوى صداماً بين الحرية ضد الهيمنة والحركة ضد السكونية والشعبية ضد البرجوازية.

إقرأوا أيضاً: