fbpx

النظرية المنسية للأحلام التي ألهمت فلاديمير نابوكوف

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

عندما كنت في السادسة عشر، قرأت رواية “الحب الأول”، للكاتب والروائي فلاديمير نابوكوف. وهو يصف رحلة على متن قطار نورد إكسبريس، المتجه من مدينة سانت بطرسبرغ إلى مدينة باريس. يقول نابوكوف، “اعتدت أن أخلد للنوم بمجرد أن أشعر بالتوافق مع سائق القطار. ثمّ يأتيني حلم. أثناء نومي، كنت أرى شيئاً مختلفاً تماماً – كرة زجاجية تتدحرج أسفل بيانو كبير أو محرك لعبة مُلقى على جانبه بينما عجلاته لا تزال تعمل ببراعة”. تلك الكرة الزجاجية التي تتدحرج أسفل البيانو الكبير، هي ما جعلني أريد أن أصبح كاتباً…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عندما كنت في السادسة عشر، قرأت رواية “الحب الأول”، للكاتب والروائي فلاديمير نابوكوف. وهو يصف رحلة على متن قطار نورد إكسبريس، المتجه من مدينة سانت بطرسبرغ إلى مدينة باريس. يقول نابوكوف، “اعتدت أن أخلد للنوم بمجرد أن أشعر بالتوافق مع سائق القطار. ثمّ يأتيني حلم. أثناء نومي، كنت أرى شيئاً مختلفاً تماماً – كرة زجاجية تتدحرج أسفل بيانو كبير أو محرك لعبة مُلقى على جانبه بينما عجلاته لا تزال تعمل ببراعة”. تلك الكرة الزجاجية التي تتدحرج أسفل البيانو الكبير، هي ما جعلني أريد أن أصبح كاتباً.
يُعد نابوكوف واحداً من الحالمين العظام في القرن العشرين، القادرين على إعادة أَسْرْ الوقت الضائع. وأعتقد أن سيرته الذاتية “الكلام والذاكرة Speak, Memory” التي ظهر فيها الممر الرخامي في شكل كتاب، تعتبر من أروع أعماله الفنية. ينتهي أحد فصول هذا الكتاب الذي حمل عنوان “صورة لعمي Portrait of My Uncle، بنهاية جميلة مثيرة للدهشة، قال فيها “تفيض المرآة بالسطوع. بينما تدخل نحلة إلى الغرفة وتصطدم برفق بالسقف. كل شيء يبدو كما ينبغي أن يكون، ولن يتغير شيء أبداً، ولن يموت أحد أبداً”. هكذا كان نابوكوف في أفضل حالاته: مليء بالحب والأسى، وليس متعجرفاً ورافضاً بشكلٍ مقتضب، ولا يصب جل تركيزه -كما كان يفعل أحياناً- على الشوائب الجلدية (الزوائد الدهنية، الثآليل، والشامات المشعرة). وعلى الرغم من أنه فقد وطنه، فقد كان يعيد إنشائه الآن كما لو كان في نزهة في حديقة تطل على منزل العائلة بالقرب من مدينة سانت بطرسبرغ، فقد أضفى وصفاً واقعياً فائق الدقة على المشهد وعبر من خلاله عن الأشياء التي تنتمي لطفولته عندما كان لا يزال يعيش في روسيا مثل ملاعق الحساء والمغارف المصقولة حديثاً، وكأنه يرسم من خلال كلماته “أرض الأحلام”، حيث لا يزال يظهر غروب الشمس عبر النوافذ الزجاجية وممرات الحديقة المغطاة بأشجار البَتُولا، والتي ستظل موجودة دائماً، وكأن الاضطرابات الرهيبة الناتجة جراء العنف الشمولي غير ذات صلة بالموضوع.
قال نابوكوف في سيرته الذاتية “لقد بحثت في أحلامي القديمة عن المفاتيح والقرائن”، وفي سبيل ذلك نجد أن في الفقرات الطويلة من كتاب “الكلام والذاكرة”، كل وميض مفعم ينعكس على مرآة تضيء إلى الأبد، كما لو أن الجسيمات الدقيقة المتصاعدة من حياة المرء لن تضيع أبداً. وأضاف “أعترف أنني لا أؤمن بالوقت. فأنا أحب أن أطوي بساطي السحري، بعد استخدامه، على نحو يجعل كل جزء منه يتوافق مع الجزء الآخر”.
ومن الأشياء المُثيرة للضحك المتعلقة بتلك المذكرات. أنها قد كتبت بطريقة تجعلها تبدو وكأنها متأثرة بكتابات الجندي البريطاني، ومهندس الطيران والفيلسوف المحب لصيد الأسماك، جون وليم دان. في بداية العشرينيات من القرن الماضي، أثار دان اللغط في العالم الأدبي بسبب نظرية الأحلام المنسية تقريباً في الوقت الحالي، والتي وصفها بالنظرية “التسلسلية”. في الواقع، تنطوي النظرية التسلسلية على ثلاثة نظريات مجتمعة في نظرية واحدة كبيرة، يمكن وصفها بأنها نظرية من تنتمي للعلوم الزائفة المتعلقة بعلم النفس المختص بدراسة الظواهر الخارقة للطبيعة، نظرية عن الزمن، والخلود، نظرية تفترض بأنه يُمكن التنبؤ بالمستقبل أثناء الأحلام. نُشر كتاب دان “تجربة مع الزمن An Experiment With Time”، في عام 1927، وقد صدرت منه عدة طبعات.
يقول الروائي هربرت جورج ويلز في مقال ضخم نشر في صحيفة “نيويورك تايمز”، “لقد وجدت هذا الكتاب مُثيراً للاهتمام بشكلٍ خيالي. بينما فكر الشاعر ويليام بتلر ييتس، والكاتب جيمس جويس، والشاعر ولتر دولامار، ملياً في الآثار المترتبة عليه، وقد أعادت دار النشر العريقة “فابر Faber” التي امتلكها الشاعر الحائز على جائزة نوبل في الأدب، ت. س. إليوت، طبع هذا الكتاب في عام 1934، في نفس الوقت حينما كان إليوت يكتب كتاب “برنت نورتون Burnt Norton” الذي تدور فكرته الرئيسية حول كيفية احتواء الوقت الحاضر في الماضي والمستقبل، والعكس بالعكس.
ويبدو أن تجربة دان أصبحت واحدة من الينابيع السرية، أو أحد الثقوب الدودية التخيلية الموجودة داخل الثقوب السوداء، في الأدب خلال القرن العشرين. يعتقد الروائي جيه. بي بريستلي أن كتاب “تجربة مع الزمن” يُعد “واحداً من أكثر الكتب المثيرة للفضول وربما الأكثر أهمية في ذلك العصر”، وقد كتب العديد من المسرحيات التي تدور أفكارها حول هذا الكتاب. وقال الفيلسوف سي. إي. إم. جود، الذي يُعد من أبرز الشخصيات الإذاعية في زمن الحرب، عن هذا الكتاب “بأنه يُمكن أن يوصى جميع من يرغبون في تعلم كيفية توقع مستقبلهم بقراءة هذا الكتاب”. وكتب سي. إس. لويس قصة قصيرة بعنوان “برج الظلام The Dark Tower”، مستوحاة من أفكار دان. وقد وجد الكاتب جون آر. تولكين أن الكتاب مفيد إذ أنه كان يتصور الأرض الوسطى التي يعيش فيها الجن وفقاً لنظرية “زمن الحلم dreamtime” التي تستخدم المفاهيم الأصولية عن الحياة في زمن خارج نطاق الوقت الحاضر أثناء الأحلام. وكتبت أغاثا كريستي أن هذا الكتاب منحها “معرفة حقيقية ومتعمقة عن الصفاء أكثر مما استطاعت تعلمه في أي وقت مضى من قبل”.
وقال كاتب عمود في صحيفة عام 1935 “إن الجميع في إنجلترا يتحدثون عن الكاتب جون وليم دان، الرجل الذي أكسب الأحلام شعبية”، على الرغم من أنه حذر من أن المخططات الهندسية التي لا تعد ولا تحصى من شأنها أن تدفع القارئ إلى “الجنون”. واستشهد الكاتب روبرت أنسون هاينلاين بنظرية دان في روايته “إلس وِن” (الزمكان) التي تناولت السفر عبر الزمن والعوالم الموازية في عام 1941. وفي عام 1940، استعرض الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس الكتاب. وكتب قائلاً “يؤكد دان أننا أثناء الموت سنتعلم أخيراً كيفية التعامل مع الأبدية”. وأضاف “كما أنه يؤكد أن المستقبل، بتفاصيله وتقلباته، موجود بالفعل”. أصدر دان العديد من الكتب التي تبعت كتاب “تجربة مع الزمن”. ونشر أحدهم في عام 1940، وحمل عنواناً لا ينسى “لا شيء يموت”.
لا شيء يموت، ولا أحد يموت، ولن يموت أحد أبداً. وفقاً لبريستلي فإن دان، ذلك الرجل البسيط ذو “الرأس الجيد الضخم”، اعتقد أن كل شيء قد حدث بالفعل، وأن الجميع خالدون، وصور الوقت باعتباره جنة مع بعض الشيء القليل من التزامن الإسفنجي (ذي القدرة على استيعاب الأشياء) و(الذي) يمكن الوصول إليه، على الرغم من أن هذا التصور معيب بشكل ما، وهو ما يكتشفه المرء عن كثب، صباح كل يوم، عقب الاستيقاظ من الأحلام.
طور هذا الفيلسوف المُتخصص في الظواهر الخارقة للطبيعة نظريته ببطء، على مدى عقود. في عام 1899، وهو العام الذي ولد فيه نابوكوف، رأي دان حلماً أنه كان يجادل نادلاً حول ما إذا كان الوقت هو الرابعة والنصف في فترة ما بعد الظهر. وعندما استيقظ، اكتشف أن ساعته توقفت في نفس الوقت الذي رأي في الحلم أنها توقفت عنده، عند الساعة الرابعة والنصف. هل كان ذلك حالة من الاستبصار؟ لم يكن متأكداً. وقد رأى في حلم آخر، أنه التقى بثلاثة رجال يبدو عليهم آثار الطقس، ويرتدون ملابس خشنة باللون الكاكي المميز لملابس الجنود؛ وقال له أحدهم إنه كاد أن يموت بعد أن أصيب بالحمى الصفراء في السودان. وفي صباح ذلك اليوم نفسه، قرأ في صحيفة “ديلي تلغراف” أن ثلاثة رجال لقوا مصرعهم في بعثة استطلاعية وصلت للتو إلى الخرطوم. يبدو ذلك أمراً غريباً.
وفي عام 1902، حلم دان بجزيرة كانت تنفث البخار. قال دان لنفسه في الحلم “يا إلهي، المكان بأكمله على وشك الانفجار!”. وفي صباح اليوم التالي عندما فتح صحيفة “ديلي تلغراف”، رأى خبر انفجار مونت بيليه وهو بركان طبقي في جزر المارتينيك. وقد تلا ذلك رؤيته للكثير من الأحلام شبه التنبؤية، التي قد بلغ عددها الكلي حوالي 20 حلماً. في عام 1913، رأى في أحد الأحلام أن قطاراً خرج عن مساره بالقرب من نهر فورث في اسكتلندا. وبعد بضعة أشهر، قفز قطار “ذا فلاينغ سكوتسمان” عن مساره على بعد 15 ميلاً إلى الشمال من جسر نهر فورث. قال دان “لقد كنت أعاني من خطأ ما غير عادي في علاقتي بالواقع، شيئاً ما خاطئ بشكلٍ متفرد للغاية، دفعني على فترات زمنية متباعدة، إلى إدراك أجزاء كبيرة بطريقة ما من تجربة شخصية طبيعية تماماً مبتعدة عن موقعها المناسب في الوقت”. لقد اعتقد دان أنه كان يحلم بالمستقبل.
في عام 1924، أصدر كتاباً عن صنع طعوم شبه شفافة لصيد الأسماك، طعوم قد تبدو للأسماك كما لو كانت الشمس تشع بجاذبية من خلالها. ثم في عام 1927 أصدر كتابه “تجربة مع الزمن” الذي كان بمثابة مفاجئة مذهلة، وقد احتوى الكتاب على العشرات من أوصاف الأحلام المفصلة، بالإضافة إلى تفسير معقد للغاية وغير المفهوم في معظمه، تناول ذلك التفسير ما ادعى أنه كان يحدث داخل رأسه الجيد الضخم، مصحوباً بعدد من الرسومات التخطيطية المفصلة. وقد أصر على أن النبوءات التي رآها في الأحلام لم تكن، نتيجة لسماعه أصوات الموتى أو حالة من التواصل بعالم الغيبيات الغامض أو التنجيم. بل كانت أحلامه أمثلة على حالة من تسلسل “الاستبصار” الحقيقي، الناجمة عن وجوده كروح خالدة بوصفها نقطة وعي في زمن متعدد الأبعاد، يتخطى مفاهيم النسبية، وبطريقة ما تتميز بارتداها و / أو نشاطها العاطفي وكأنها مجال من الزمن يتمثل في مجموعة من الصناديق الصينية ذات أحجام تدريجية بحيث يوضع كل صندوق في داخل الصندوق الأكبر منه. (في عالم دان دائماً ما تُميز كلمة الوقت (Time) بحرف (T) الكبير). ونستعرض فيما يلي عينة من الهندسة الزمنية لدان:
نختتم المرحلة الثانية من خلال وضع رأس سهم على الزمن 2 في مؤشر الأبعاد في الشكل 8، من أجل إظهار أن GHـ هو مجال العرض الذي يتحرك صعوداً عبر الزمن 2. يتم الآن استعادة حركة الحقل الأول عبر الزمن 1. مع تحرك GHـ إلى أعلى الرسم التخطيطي، تتحرك النقطة O، وهي نقطة تقاطع GHـ مع O’ O”، على طول GHـ نحو Hـ، وبالتالي تقابل الحالات الدماغية واحدة تلو الأخرى على التوالي من اليسار إلى اليمين.
اشتريت نسخة مستعملة من طبعة فابر الحمراء من “تجربة مع الزمن” An Experiment With Time في عام 1991، من مكتبة أباكس في شارع غريغوري في روتشستر، نيويورك. ومنذ ذلك الحين انتقلت أباكس إلى شارع مونرو، ولكن وفقاً لنظرية دان، لا تزال المكتبة موجودة في موقعها القديم داخل واحدة من الطبقات المتداخلة من الزمن الكلي، ولا تزال نسخة لم تشترى من كتابه تنتظر على الرف. لم أقرأ كثيراً في الكتاب. كتب دان، عن نظريته: “إن نظرية التسلسل تكشف عن وجود نوع معقول من الروح- روح فردية لها بداية محددة في الزمن المطلق، روح لا يتصادم خلودها، في أبعاد أخرى من الزمن، مع نهاية واضحة للفرد في البعد الزمني الفسيولوجي”. حيرتني النبوءات التي تراءت له في المنام، و “العقول الخارقة” و “الأجسام الخارقة” التي تحدث عنها، تبدو وكأنها وسيلة أكثر تنميقاً للحديث عن العرافّات والملائكة والتسلسل الهرمي للسماء. وبدت لي الرسوم شبه الهندسية، التي تذكرنا بالرسوم في شروح نظرية أينشتاين، نوعاً من الجنون.
في مكان ما على طول مسار ملتو في القرن العشرين، تعرف فلاديمير نابوكوف، الحالم البارع، على نظريات دان عن الرؤى التي تتحقق، ومن الواضح أنها كانت ملهمة بالنسبة له. من الصعب معرفة متى حدث ذلك، لكن من الواضح أن الجميع كانوا يتحدثون عن تجربة دان بحلول ثلاثينيات القرن العشرين. في رواية “الملك والملكة والخائن” (1928)، كتب نابوكوف عن الاستيقاظ الكاذب في الأحلام المتداخلة، “كما لو كنت ترتفع من طبقة إلى طبقة ولكنك لم تصل إلى السطح، لم تخرج إلى واقع.” في “الهدية” (1938)، يصف الحرية غير المحدودة للأحلام، التي تتجلط مثل الدم في لحظة الاستيقاظ. في روايته “دعوة لحضور تنفيذ حكم إعدام” التي كتبها عام 1935، يقول الراوي: “ما نسميه بالحلم، ما هو إلا شبه واقع، أو واقع مرتقب، أو نفحة منه؛ أي أنها تحتوي، بطريقة غامضة جداً ومخففة، على حقيقة أكثر واقعية من حياة اليقظة التي نعيشها، والتي هي بدورها شبه نوم، نعاس شرير تخترقه، في  تمويه منفر، أصوات ومشاهد من العالم الحقيقي ، الذي ينساب خارج محيط العقل”. في روايته الأولى باللغة الإنجليزية، “الحياة الحقيقية لسيباستيان نايت” (1941)، تعبر امرأة عن نفاد صبرها في سماع سيباستيان يكرر رواية أحلامه، “والأحلام التي في أحلامه، والأحلام التي في أحلام أحلامه”.
في عام 1955، في صحيفة “التايمز”، صدم غراهام غرين لندن عن طريق اختيار رواية نابوكوف “لوليتا”، التي كانت قد نشرت للتو في باريس، باعتبارها واحدة من أهم ثلاثة كتب لهذا العام، وبالتالي حماها من الملاحقة المحتملة بموجب قوانين الفحش. حققت الرواية نجاحاً ساحقاً، وغادر فلاديمير وفيرا الولايات المتحدة متوجهين إلى أوروبا، بعد أن تدفقت أموال الفيلم من ستانلي كوبريك، التقى نابوكوف غراهام غرين في لندن وتبادلا الرسائل. في تشرين الأول / أكتوبر 1964، بدأ كلا الروائيين – في مصادفة قد تكون أو لا تكون مذهلة (ربما كان ذلك ببساطة نتيجة لتجربة علمية متفق عليها بشكل مشترك؟) – في تسجيل أحلامهم الليلية بطريقة تتبع عن كثب طريقة جون دان في التدوين في الصباح التالي للحلم.
نشرت مذكرات أحلام غرين، التي احتفظ بها لسنوات، في عام 1994. “عالمي الخاص” كتاب رائع وكاشف، في إشارة عابرة فقط لتجربة دان. لكن ما دونه نابوكوف عن أحلامه، التي كتبها ” لتوضيح مبدأ الذاكرة العكسية” بالقلم الرصاص على بطاقات على مدى عدة أشهر، وأشار فيها إلى كتاب دان عدة مرات، لم تنشر في حياته. الآن فقط نشرت ليقرأها الجميع، مع التعليقات والحواشي والتحليل السياقي، في كتاب بعنوان “أحلام الأرق: تجارب فلاديمير نابوكوف على الزمن”، من إعداد جينادي بارابتارلو، ناقد ومترجم يدرس في جامعة ميسوري.
يبذل بارابتارلو قصارى جهده لتوضيح أفكار دان، على الرغم من اعتراضه على العديد من “الصيغ الجبرية التطبيقية”، ويتضمن الجزء الرابع من الكتاب، نسيج رائع من الفقرات ذات الألوان المتعددة، التي اختارها من دراسة نابوكوف لظاهرة الأحلام وتفسير الأحلام. هناك، على سبيل المثال، حلم من “الحياة الحقيقية من سيباستيان نايت” الذي يخلع فيه سيباستيان قفازه، “حين خلع القفاز، انسكبت محتوياته – عدد من الأيدي الصغيرة، مثل أقدام الفأر، وردية وناعمة- على الأرض”، ثم بدأت فتاة ترتدي ثوباً أسود في جمعها ووضعها في طبق. يقول نابوكوف في إحدى رواياته الأخيرة بعنوان “الأشياء الشفافة”: “جميع الأحلام جناس للواقع النهاري”. كلمة “حالمة” تظهر عشر مرات في رواية لوليتا.
لكن أساس كتاب بارابتارلو، ذي التصميم الأنيق من مطابع جامعة برينستون، مع وسادة فندقية على الغلاف، هو سلسلة من ثلاث إلى خمس بطاقات أحلام من عام 1964. نابوكوف، الذي كان يستخدم الحبوب المنومة طوال حياته، وكان مدمناً لها، وكان اعتلال البروستاتا يجبره على الاستيقاظ كثيراً، تمكن رغم ذلك من أن يحلم بشكل جميل بالمشاكل التي تتعلق بكونه كاتب تنشر أعماله على مستوى العالم، كما في ديسمبر 1964، في حين كان يراجع النسخة الفرنسية من “النار الباهتة”: “في الليلة الثانية هنا (في فندق دو توري ذي الحديقة الصنوبرية الكبيرة) في نصف حلم مشؤوم رأيت شعاع ضوء متناثر يمر من بين أخشاب النافذة، بينما تُترجم فقرة لم أتمكن من تحديدها إلى الفرنسية. ” الليلة التالية جلبت صورة فظيعة أخرى، تبدو وكأنها اقتطفت من قصة لمونتغيو رودز جيمس: “ظهرت أرزة سوداء ضخمة، تتظاهر بأنها شجرة عيد الميلاد تمّ تجريدها تماماً من زينتها، وأضوائها، ووقفت بمظهرها القاسي وكأنها شعار للذوبان الدائم”.
في الليلة التالية، يحلم نابوكوف بالبحث عن قلم رصاص لتصحيح أوراق طالب، وفي نفس الوقت كانت تزعجه قضية “سخيفة ومعقدة”، فقد كان على علاقة بامرأة متزوجة، زوجها رجل قصير صاخب يثير الجلبة. “في حالة من الغضب أخذته وألقيت به تجاه الباب الدوار، فأخذ يدور مع الباب على ارتفاع من الأرض”. هل مات الزوج في الحلم؟ “لا، فقد تمكن من النهوض وترنح مبتعداً. نعود إلى أوراق الامتحانات”. في 30 ديسمبر/ كانون الأول، حلم نابوكوف بأنه يرتدي سروال داكن وملابس نوم لونها أخضر شاحب. كانت هناك فتاة ترتدي ثياباً زرقاء وتركب الدراجة. مرحى! ولكن نابوكوف يبحث عن جواربه، بينما “يمر المندوبون السوفيت على الطريق”.
كانت فيرا نابوكوف تحكي أحلامها لزوجها أيضاً، وهو يقوم بتدوينها مع تدوينات أحلامه. في أحدها، رأت “يرقات كبيرة بيضاء ذات وجوه سوداء، عارية، تزحف على الأثاث”. في وقت مبكر، اعتقد نابوكوف خطأً أنه وجد دليلاً لا جدال فيه أن أطروحة دان عن “الذاكرة العكسية” صحيحة. فقد رأى في منامه متحفاً، وبعد ثلاثة أيام شاهد فيلماً عن متحف يبدو مألوفاً. استنتج أن حلمه لا بد وأنه مستوحى من ذكرى الفيلم قبل أن يشاهده. يشير بارابتارلو بحق إلى أنه في الحلم كان نابوكوف يتذكر قصته القصيرة التي كتبها قبل سنوات، “زيارة إلى المتحف”.
هذا الكتاب معقدٌ زمنياً، مليء بهذا النوع من التعقيد الساخر الزاهي الذي تتميز به أعمال فلاديمير نابوكوف. في النهاية، جميع نظريات التنبؤ عن طريق الرؤى المنامية، ما هي إلا نظريات زائفة. قصص نابوكوف ورواياته ومقالات السيرة الذاتية التي كتبها، هي أحلام عكسية حقيقية، حيث يمر الزمن إلى المستقبل، وتتقاطع الأزمنة، ويلمع الماضي، تماماً مثل شِراك الصيد الشفافة التي وصفها جون دان.
*نيكولسون بيكر
هذا الموضوع تم اعداده وترجمته عن موقع New Republic لمراجعة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي.
[video_player link=””][/video_player]

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!