fbpx

أنا كاتبٌ صحفي أعترض على تسعيرة المئة دولار

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

رؤساء التّحرير قادرون على الخروج على ما شئت من قواعد، إلّا “قاعدة المئة دولار المقدسة” كما باتت تعرف منذ ذلك التّاريخ، وأصبحت جزءاً من العرف الإنسانيّ في عالم الإعلام العربيّ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في لحظة تاريخيّة غامضة يرجّح أنّها تعود إلى منتصف التّسعينيّات من القرن الماضي، وفي مكان ما زالت الأخبار عنه شحيحة إلى يومنا هذا، يقال إنّه كان هناك غرفة معتمة ورطبة تتوسّطها طاولة وثلاث كراسٍ ويتدلّى من سقفها ضوء ضعيف راقص، وخالية من أي قطع أثاث أخرى. في إحدى زواياها غير الظّاهرة صنبور بحاجة إلى إصلاح وتغيير جلدة، تنساب منه المياه نقطة تلو نقطة، بينما صوت فأرين صغيرين يبحثان عن بقايا طعام في زاوية ثانية مسموع بشكل غير واضح. في هذا  المكان وفي ذلك التاريخ على الأرجح، وبناء على نقاش بين ثلاثة رجال يدخّنون بشراهة، أحدهم يعتمر قبعة من نوع “فيدورا” تظلّل نصف وجهه العلوي، وثانيهم يضع نظّارة سوداء كبيرة وسميكة على الرغم من الظلام المخيم على المكان، ولا يظهر، بسبب هذه النظارة، في أي اتجاه يحدّق وما هو لون عينيه، وما إذا كان قد “زبّط” حاجبيه  بالخيط عند الحلّاق. 

أما الثّالث فكان بلا أي شيء على وجهه أو رأسه أو حتى رقبته، بما في ذلك شعره وشعر حاجبيه ورموشه وشاربيه ولحيته، الّذي تساقط على ما يبدو  بسبب جرعات العلاج الكيماوي المكثّف والّتي يتلقاها بشكل منتظم، لكن مع وجود ندبة جرح ضخم على وجهه يمتدّ من منتصف جبينه من جهة اليمين نزولاً إلى أسفل الخدّ الأيمن مروراً بعينه الّتي  فقدها نتيجة ضربة سكين أبقت هذه النّدبة الهائلة على الوجه وندبة أكبر غير مرئيّة في الرّوح. 

وبعد نقاش حام ومحتدم لم يغب عنه صراخ أجفل الفأرين المسكينين الّذين توارى صوتهما الضنين حتّى نهاية هذه الجلسة العاصفة، وبعد أن تمّ التّذكير خلال الجدل بمختلف التّجارب الإنسانيّة للتّوثيق بدءاً من  محاولاتٍ أولى لإنسان النياندرتال لإبقاء أثر ما على جدران الكهوف بأعماق أفريقيا، وصولاً إلى منشورات حزب العمل الشيوعيّ السوريّ المعارض، مروراً بمعلّقات الشّعر العربيّ الجاهلي بغضّ النّظر عن رأي طه حسين بتاريخ كتابتها، ورسائل كافكا لميلينا، ومدوّنات القانون خلال عهد سلالة مينغ في الإمبراطوريّة الصّينيّة مترامية الأطراف، وأقدم نوتة موسيقيّة مسجّلة على حجر في حضارة أوغاريت في السّاحل السوريّ والتي قدّم منها نسخة ريمكس الموسيقار الوسيم صاحب الحضور الكاريزميّ الطّاغي وابن المتروبول والمدينيّة السوريّة بأبهى صورها مالك جندلي، وبنود مارتن لوثر الخمسة وتسعين المعترضة على السّلطات المطلقة للكنيسة ورجال الدّين الكاثوليك وصكوك الغفران، وليس انتهاء بهذه الصّكوك نفسها، وُضعت تسعيرة 100 دولار أميركي للصّحافيين المستقلّين مقابل مقال الرأي أو القصّة الإخباريّة الّتي واظبت على نشرها صفحتا مجتمع وشباب الأسبوعيّتان في جريدة “الحياة” اللندنيّة الصادرة باللّغة العربيّة.

 ومنذ ذاك التّاريخ، عُمّم هذا السعر كمنارة اقتصادية هائلة وعملاقة تسترشد بنورها الوهّاج قوارب الوسائل الإعلاميّة العربيّة الناشئة بعد “الحياة” في ظلّ عواصف وأمواج بحر الإعلام المتلاطم. لم يجرؤ، أو لم يرغب، أي رئيس تحرير أن يكسر قواعد ذلك الاجتماع الثلاثيّ المؤسّس الغامض. 

رؤساء التّحرير قادرون على الخروج على  ما شئت من قواعد، إلّا “قاعدة المئة دولار المقدسة” كما باتت تعرف منذ ذلك التّاريخ، وأصبحت جزءاً من العرف الإنسانيّ في عالم الإعلام العربيّ، وتداخلت مع حكايا الجدّات وحِكم الأولين وقصص الأولياء الصوفيّين، ونُسجت عنها الأساطير، حتّى قيل إن هذه التّسعيرة لا تعود إلى ذاك الاجتماع وشخصيّاته الثّلاثة المجهولة  غريبة الأطوار، بل إلى زمن أعمق في تاريخ الكتابة والتدوين الإنسانيّين، بينما تجدّد الجدل إثر العثور على أحافير في سهوب سيبيريا لقبر ضم بقايا عظام وأشياء تدلّ على أنّ صاحبه كان، على ما يبدو بحسب العلماء، مسؤولاً عن تدوين قصص القبيلة وزعيمها وغزواتها وصيحاتها الأولى، وكان اللافت العثور على حجر مربّع الشكل أشبه بلوح مكتوب، وإلى جانبه تسعون قطعة صدف يُعتقد أنّها كانت تستخدم كأحد أشكال النّقود في ذلك الزمان، وكان من الواضح وجود صدع كبير في جمجمة هذا الكاتب المفترض، وبحسب نظريّة علماء الآثار أنفسهم فإن هذا الصّدع هو نتيجة ضربة تلقّاها الكاتب على رأسه وكانت سبب مقتله، أما وجود الحجر المربّع وقطع الصّدف التّسعون مدفونة إلى جانبه فيرجّح المنقّبون أنّها دليل على أنّ الضّربة كانت بعد خلافه مع زعيم القبيلة لأنّ الأخير منحه تسعين قطعة صدف بدلاً من تسعيرة المئة صدفة المتفّق عليها، عندما دوّن صاحب العظام كيف نزع زعيم القبيلة فروة رؤوس ثلاثة مقاتلين أعداء بأسنانه العارية ومن دون استخدام أيّ حجر حاد.

قد يجرؤ رؤساء التّحرير اليوم على استكتاب بعض الأميّين، أو على التّجريب بالنّصوص، أو عرض مواد بوسائط متعددة، أو الكتابة بالعاميّة، أو تغيير ضمير المخاطب في الموادّ المنشورة، أو خرق التاّبوهات، أو بناء جدران تابوهات جديدة، أو الكتابة ضد الأنظمة القمعيّة، أو لصالحها، أو إفساح المجال لخصوم سياسيين، وأقلام يافعة، أو تحويل الوسيلة الإعلاميّة إلى مساحة للرأيّ الواحد المتطابق، قد يزيدون من مخصّصاتهم كرؤساء تحرير، بل قد يذهبون إلى حدّ تخصيص بعض من الميزانية إلى نشاطات ترفيهية لفريق العمل. وحدها “قاعدة المئة دولار المقدسة” (أو قاعدة المئة يورو لوسائل الإعلام النّشطة في دول الاتحاد الأوروبيّ) تتحول إلى صنم يُعبد، لا يهمّ بالنسبة إلى هؤلاء أن التسعينيّات ولّت منذ أكثر من عقدين، وأن ما كانت تشتريه الدولارات المائة في ذاك الزمن الغابر لم تعد تكفيه مئة وخمسون من دولارات اليوم، وأن مئة دولار في بلد عالم ثالثيّ تختلف في فعلها وتأثيرها عما تفعله الورقة نفسها في بلد عالم أول.

 أما محطّمو الأصنام في ثقافتنا فليتهم ما حطّموا ولا أتعبوا أنفسهم، ذاك أنهم عندما كسروا “قاعدة المئة دولار المقدسة”، إنما فعلوا ذلك لبناء طواطم جديدة من أنواع أردأ واقل استحقاقا للتقديس: “قاعدة الخمسة وسبعين دولارا” و”قاعدة الستين دولارا”، بل ذهب البعض للإساءة إلى مفهوم الأصنام نفسه، عبر بناء صنم صغير بالكاد مرئيّ أسموه “قاعدة الخمسين دولارا”.

وأنت عزيزي رئيس التّحرير، فيما تقرأ اعتراضي هذا وتفكّر إن كنت ليبرالياً كفاية لتنشره (والجملة الأخيرة محاولة وقحة لإحراجك كي لا تتذرّع برداءة الاعتراض أو عدم وجاهته للامتناع عن نشره)، أرجو أن تمنحني بدل هذا المقال رقماً مختلفاً عن المئة دولار، لا يهم إن كانت 99.99 دولاراً كما تفعل إعلانات المحالّ التّجاريّة خلال تقديمها تنزيلات على أسعار القمصان التي ولّت موضتها وما عادت تجذب المشترين.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!