fbpx

الدعاوى القضائيّة ضد المصارف اللبنانية:
آخر أدوات الضغط لاسترداد حقوق المودعين
تعرقلها حسابات السياسة والانتخابات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

باتت الدعاوى القضائية المسألة الوحيدة التي يمكن وضعها كأداة ضغط على القطاع المصرفي، للشروع بمسار الخطّة التي يمكن أن تفضي إلى رد أموال المودعين، وتحييدهم عن مسار معالجة الخسائر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان يمكن أن يكون الطريق لاستعادة أموال المودعين، كما يُفترض أن يكون الحال في النكبات المصرفيّة الشاملة، خطّة ماليّة واضحة المعالم: تبدأ بتحديد المسؤوليّات ومصادر الخسائر، وتنتهي بتحديد آليّات لمعالجة الفجوة الموجودة في الميزانيّات، مع قانون لـ”الكابيتال كونترول”، يسمح بالحفاظ على السيولة الموجودة في النظام المصرفي ويمنع الاستنسابيّة في التعامل مع المودعين. وكان يفترض أن يكون توزيع المسؤوليّات ومصدر الخسائر، المعيار الذي يمكن الركون إليه لتحديد الفئة التي تتحمّل الخسائر، بما يحيّد أصحاب المدخرات الصغيرة والمتوسّطة عن أي اقتصاص من قيمة ودائعهم.

لكن كما بات واضحًا، وبعد أكثر من سنتين وأربعة أشهر من حصول الانهيار المالي، لم يظهر حتّى اللحظة ما يبشّر بقرب ولادة هذا النوع من المسارات. فالتدقيق الجنائي، يفترض أن يكون أداة تحديد المسؤوليّات، مازال معلّقًا بانتظار تسوية ما تفضي إلى التخلّص من شبحه، الذي يقلق الكثير من مراكز النفوذ في النظامين المالي والسياسي. أمّا الخطّة الماليّة، فحوّلتها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي إلى خطّة تصفية شاملة للودائع، عبر تحميل المودعين الخسائر المصرفيّة ودفع الودائع بالليرة، بعد الاقتصاص من قيمتها، ما عرقل موافقة صندوق النقد الذي تحفّظ على التوسّع بخلق النقد بهذا الشكل. وفي خلاصة الأمر، لم تبصر الخطّة الماليّة بصيغتها النهائيّة النور حتّى اللحظة. وفي المقابل، تحوّلت فكرة الكابيتال كونترول المقترح إلى أداة لتشريع حبس الودائع، بدل أن تكون وسيلة لتنظيم استخدام سيولة النظام المصرفي بشكل مرحلي، على طريق التعافي المالي ورد حقوق المودعين.

كل ما سبق، لم يكن سوى لتأكيد أن الدعاوى القضائيّة، وإن لن تفلح في رد أموال جميع المودعين بسبب حجم الخسائر الكبيرة المتراكمة كأمر واقع، لكنها باتت آخر الأسلحة التي يمكن استخدامها لتثبيت حق المودع في أمواله قانونيًّا، والحؤول دون تطبيع الوضع الراهن، بعد أن حال تعنّت النافذين في القطاع المالي والنظام السياسي دون استرداد هذه الأموال عبر خطّة ماليّة عادلة بالنسبة للمودعين. بل من الناحية العمليّة، باتت الدعاوى القضائية المسألة الوحيدة التي يمكن وضعها كأداة ضغط على القطاع المصرفي، للشروع بمسار الخطّة التي يمكن أن تفضي إلى رد أموال المودعين، وتحييدهم عن مسار معالجة الخسائر. ولعلّ ذكر هذه النقطة بالتحديد يكتسب اليوم أهميّة استثنائيّة، للرد على حجّة المصارف التي تشير إلى عدم جدوى المسارات القضائيّة، بالنظر إلى عدم امتلاك المصارف السيولة الكافية لسداد جميع الودائع، حتّى لو أنصفت المحاكم المودعين في أحكامها.

ولتأكيد جدوى هذه الدعوى من ناحية قدرتها على الضغط، تكفي الإشارة إلى الارتباك الذي تخلقه اليوم جميع هذه الأحكام القضائيّة في الأوساط المصرفيّة، سواء تلك المتعلّقة بالدعاوى المحليّة وما ينتج عنها من حجوزات على موجودات المصارف، أو في ما يخص الدعاوى في المحاكم الأوروبيّة التي تهدد موجودات المصارف اللبنانيّة في الخارج. 

إقرأوا أيضاً:

الحجز على “فرنسبنك”… السلطة في خدمة المصرف

آخر فصول هذه المسارات القضائيّة، كان ما شهده مصرف فرنسبنك من حجز تنفيذي على موجوداته وأسهمه. فبعد أن تبلّغ المصرف في البداية الإنذار التنفيذي القاضي بفرض سداد وديعة المواطن عيّاد إبراهيم، وبعد أن فشلت محاولات المصرف الطعن قضائيًّا بهذا القرار، تمنّع المصرف عن الاستجابة للإنذار وسداد الوديعة كما تقضي الأصول القانونيّة، وهو ما دفع رئيسة دائرة التنفيذ في بيروت القاضية مريانا عناني إلى إصدار قرار الحجز. مع الإشارة إلى أن إشارات الحجز التنفيذي التي تم وضعها تمنع المصرف من بيع أو رهن هذه الموجودات، لتبقى بمثابة ضمانة للمودع إلى حين سداد قيمة الوديعة، والتي تبلغ نحو 60 ألف دولار أميركي وفقاً للمصرف نفسه. 

فور صدور القرار، كان من الواضح أنّ “فرنسبنك” قرّر الذهاب باتجاه عمليّة ابتزاز منظّمة للضغط باتجاه فك الحجز التنفيذي، عبر التوقّف عن تقديم الخدمات المصرفيّة بشكل تام، والتمنّع عن دفع رواتب موظّفي القطاعين العام والخاص الموطّنة لديه. وبرغم قيام القاضية بحصر الإجراءات بفرعين فقط، ورغم تحييدها ماكينات الصرف الآلي وصناديق دفع الأموال في الفرعين عن هذا القرار، أصرّ المصرف- من خلال “مصادره”- على إبلاغ الوسائل الإعلاميّة اتجاهه إلى تعليق عمليّات دفع الرواتب عبر جميع فروعه دون استثناء، في محاولة للإيحاء بكارثيّة القرار القضائي المتخذ بحقّه. وللذهاب بالاتجاه نفسه، سرعان ما باشرت جمعيّة المصارف في وقت لاحق بتسريب أنباء عن توجهها لإعلان إضراب مصرفي شامل، يفضي إلى شلّ الحركة الماليّة في البلاد، احتجاجًا على قرار القاضية عناني. 

مساء اليوم نفسه، بدا أن الحكومة نفسها تجنّدت للدفاع عن المصرف، من خلال البيان الصادر عن اجتماعها، والذي وصف الإجراءات القضائيّة بالاستعراضيّة والبوليسيّة، والتي من “شأنها تقويض ما تبقى من ثقة بالنظام المصرفي”، وصولاً إلى التحذير من تدفيع المودعين ثمن هذه الإجراءات. وفي النتيجة، كان من الواضح أن مجلس الوزراء قرر الذهاب نحو لي ذراع القضاء اللبناني ودفعه للتراجع عن هذه القرارات، من خلال تكليف وزير العدل بوضع المعالجات “على السكّة الصحيحة”. مع الإشارة إلى أنّ هذا النوع من القرارات الصادرة عن السلطة التنفيذيّة يعارض مبدأ فصل السلطات، الذي يفترض أن يكفل عدم تدخّل الحكومة في المسارات القضائيّة.

وفي سياق اعتماد سياسة التهويل والابتزاز، ذهب البيان الرسمي لجمعيّة المصارف بنفس الاتجاه، عبر التحذير من تداعيات هذا النوع من القرارات على علاقة المصارف اللبنانيّة بالمصارف المُراسلة، في تلويح بإمكانيّة انقطاع علاقة لبنان بالنظام المالي العالمي نتيجة الإجراءات القضائيّة. وفي خلاصة البيان، حذّرت الجمعيّة من اتخاذها “الإجراءات التي تراها مناسبة”، وهو ما بدا كتأكيد مبطّن لما سرّبته أوساطها في وقت سابق، لجهة إمكانيّة الوصول إلى مرحلة “الإضراب المصرفي الشامل” احتجاجاً على القرارات القضائيّة المتخذة ضد المصارف.  

تحقيقات القاضية غادة عون

على خط موازٍ، كانت تطوّرات التحقيقات القضائيّة التي تجريها القاضية غادة عون تتفاعل بوتيرة متسارعة. في الأصل، ترتبط هذه التحقيقات بقروض تتجاوز قيمتها الـ8 مليارات دولار، حصلت عليها المصارف اللبنانيّة في بدايات الأزمة المصرفيّة بالدولار الطازج، وقامت بتحويلها إلى الخارج، فيما قامت المصارف لاحقاً بسدادها لاحقاً من حساباتها لدى المصرف المركزي (أي بدولارات محليّة). بمعنى آخر، كانت المصارف تتحايل في تلك المرحلة لتهريب ما تبقى من ودائعها في مصرف لبنان إلى حساباتها في الخارج، فيما كانت تمتنع عن سداد مستحقاتها للمودعين. وهذه التحقيقات التي تدين المصارف من جهة، تدين مصرف لبنان من ناحية أخرى، بوصفه جهة متواطئة في عمليّة تهريب الأموال.

حتّى اللحظة، شملت إجراءات القاضية الحجز على عقارات خمسة مصارف شملتها التحقيقات، إضافة إلى إصدار قرارات بمنع رؤساء مجالس إدارة هذه المصارف، وصولاً إلى وضع إشارات منع تصرّف على عقارات وسيّارات وأسهم رئيس مجلس إدارة بنك الاعتماد طارق خليفة. وجميع هذه الإجراءات، مرشّحة للتصاعد خلال الأيّام المقبلة، نظرّا لشمول التحقيقات 13 مصرفّا تقوم القاضية عون بالتدقيق في ميزانيّاتها، وهو ما يمكن أن يفضي إلى توسيع نطاق قرارات منع السفر والحجز على الأصول العقاريّة. مع الإشارة إلى أنّ هذه القضيّة بالتحديد كانت أبرز الملفّات التي دفعت القاضية عون إلى إصدار مذكّرات الإحضار ومنع السفر بحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بعدما تمنّع عن حضور جلسات التحقيق، من دون أن تتمكّن عون من تنفيذ مذكّرة الإحضار حتّى هذه اللحظة.  

حسابات السياسة

في واقع الأمر، لا يمكن فصل حسابات السياسة عن كل ما يحصل في هذا الملف. فخوض القاضية غادة عون، التي تمثّل أبرز أذرع العهد في النظام القضائي، في ملف التحقيقات المتعلّقة بقروض المصارف، يأتي في توقيت حسّاس قبيل الانتخابات النيابيّة، في ظل حاجة “التيّار الوطني الحرّ” الماسّة إلى تسجيل بعض الإنجازات أمام الرأي العام. وفي الوقت نفسه، يأتي هذا الملف كعامل ضغط إضافي من جهة العهد على حاكم مصرف لبنان، الذي يرغب رئيس “التيّار الوطني الحر” جبران باسيل باستبعاده قبل نهاية ولاية رئيس الجمهوريّة، للتمكّن من استبداله بحاكم مقرّب من التيّار. وبذلك، يكون باسيل قد تمكّن من الاستفادة من صلاحيّات رئيس الجمهوريّة، التي تفرض توقيع الرئيس على مرسوم تعيين الحاكم، للحصول على أحد أقوى “المراكز المارونيّة” لولاية كاملة من 6 سنوات. ولعلّ “البصمات العونيّة” على قرارات القاضية عون، تبرز في تحييدها حتّى اللحظة مصرف “سيدروس بنك”، المحسوب على العهد، عن جميع الإجراءات التي اتخذتها حتّى اللحظة.

ومع ذلك، وبرغم كل ما يحيط بتحقيقات غادة عون من حسابات سياسيّة ترتبط بصراعات النفوذ داخل النظام، يمكن القول إن التحقيقات كشفت الكثير من جهة الارتكابات التي أفضت إلى تهريب أموال المودعين في بدايات الأزمة، وخصوصاً في ملف القروض المصرفيّة التي تم تحويل سيولتها إلى الخارج. كما نجحت هذه الحقيقات حتّى اللحظة في كشف بعض صفقات وخبايا المصرف المركزي، والتي أفضت حتّى اللحظة إلى توقيف شقيق حاكم مصرف لبنان رجا سلامة، على خلفيّة ملف صفقة “مكتب باريس” الذي تم تحميل كلفة إيجاره إلى ميزانيّة مصرف لبنان. بهذه الطريقة، فتحت تناقضات النظام نفسها الباب أمام معرفة المودعين ببعض الحقائق، المتعلّقة بالانهيار المالي وما حصل من عمليّات احتياليّة على هامشه.

أمّا في ما يخص سائر الدعاوى والقرارات القضائيّة، كتلك التي أفضت إلى الحجز التنفيذي على عقارات وموجودات “فرنسبنك”، فستبقى حتّى إشعارٍ آخر وسيلة ضغط باتجاه إيجاد الحل النهائي والشامل لأزمة المودعين، والذي لن يبصر النور إلّا بخطة ماليّة عادلة تكفل معالجة الخسائر واستعادة الانتظام في العمل المصرفي، من دون تحميل أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسّطة كلفة هذا التصحيح المالي. 

كما ستبقى هذه الدعاوى أداة المودعين لرفض الأمر الواقع الذي تفرضه المصارف والسلطة السياسيّة اليوم، من خلال حبس الودائع وفرض سدادها بأساليب تنطوي على اقتصاص صريح من قيمتها. 

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.