fbpx

المقاهي الشعبية: من “جامعات للفقراء”
إلى تجمّعات للعاطلين من العمل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كانت بداية غير موفّقة للتعرف إلى ما يسمّى “المقهى” وظلّت هذه الصورة السلبيّة عن المقاهي، عالقة في رأسي، إلى أن انتقلت إلى دمشق، لبدء الدّراسة في الجامعة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قبل أكثر من 20 عاماً، اتصل بي أحد الأصدقاء، حيث كنا نعيش في قرية صغيرة ونائية، ليخبرني أنّ الحاج هولو، وهو أحد كبار القرية، افتتح “مقهى صغيراً” قريباً من الساحة العامّة. ثمّ سألني إن كنت أرغب في الذهاب إلى هناك لنجتمع ببقيّة الأصدقاء. 

في الحقيقة كانت تلك أوّل مرّة أسمع فيها بكلمة “مقهى” ورغبت جدّاً في اكتشاف ما تعنيه. لا أقصد الذّهاب إلى هناك وحسب، إنّما أن أسأل والدي، ما هو “المقهى” ولماذا هذا الاسم تحديداً.

كان جواب والدي مختصراّ جدّاً، أنّ الاسم جاء من ” القهوة” ثمّ حذّرني من الذهاب إليه، بقوله “مكان كلو دخان وزعران”. لم أقتنع بكلامه، بحكم أنّني في سن المراهقة، ما جعلني أغافله وأذهب دون علمه. كان المقهى كبيراً وواسعاً، تتوزع فيه طاولات قليلة، تكاد لا ترى شيئاً من كثافة الدخان الناجم عن النراجيل والسجائر، ولا تسمع من يحدّثك، بسبب الصراخ والشتائم ولعب الورق.

كانت بداية غير موفّقة للتعرف إلى ما يسمّى “المقهى” وظلّت هذه الصورة السلبيّة عن المقاهي، عالقة في رأسي، إلى أن انتقلت إلى دمشق، لبدء الدّراسة في الجامعة.

وضمن الحديث عن دمشق، فإنّ أوّل ما يقوم به زوّارها الوافدون من محافظات أخرى، أو حتّى من خارج سوريا، هو الذهاب إلى سوق الحميديّة، ثم عبوره وصولاً إلى “الجامع الأمويّ”، ثمّ بعدها التقاط الصور أمام “مقهى النوفرة”. وبالتأكيد، عندما رأيت ذلك المقهى، عدت بذاكرتي إلى مقهى القرية، وأرعبني الفارق الشّاسع بينهما، ثمّ أدركت أن للمقاهي تاريخاً، لا أنا ولا حتّى والدي، كنّا نعرف شيئاً عنه.

المقاهي في دمشق، كانت تتركز في المدينة القديمة، وبعض الحارات المحيطة بها والقريبة منها، بينما في بيروت ثمة ما يُسمّى “القهوة البحريّة”. هذا النوع من المقاهي ينتشر بشكل كثيف على طول الشريط الساحلي من مدينة جبيل وصولاً إلى مدينة صور جنوباً.

 حُجّة والدي “الدخان والزعران”، حُجّة أهل الدّين  والسياسة أنّ ” القهوة حرام”

بعدما اكتُشفت القهوة في اليمن، على يد رجل صوفي “علي بن عمر بن إبراهيم الشاذلي” عام 828 للهجرة، تم تحريم شربها لأكثر من 400 عام، واختلفت أسباب التحريم، إما باعتبار القهوة “خمرة مسكرة”  أو لأنّ طريقة تقديمها وشربها، تشبه طريقة تقديم الخمر، ما دفع مريديها إلى شربها في السر، وكانت تلك البدايات الأولى، على ما أعتقد، لظهور فكرة “المقهى” حيث يجتمع الرجال والنساء في مكان محدد، ليشربوا القهوة بشكل جماعي. 

انتقلت القهوة إلى مصر والشام من طريق الحجيج والتجّارة، وكان أوّل ظهور لها في دمشق خلال النصف الأوّل من القرن السادس عشر، وروي أنّ الشيخ سعد الدين علي بن محمّد العرّاق هو أوّل من أدخل القهوة إلى دمشق عام 1540، حيث أفتى مُفتي دمشق قطب الدين محمد بن سلطان الحنفي بتحريمها، وظلّت كذلك حتّى بدايات النصف الثاني من القرن ذاته، إذ يذكر لنا المؤرّخ نجم الدّين الغزّي أنّ أول من أَشهَرَ شُرب القهوة على العلن هو علي بن محمد الشامي 1555، حيث جاء في ترجمته أنّه “أشهَرَ شرب القهوة بدمشق فاقتدى به الناس، ومن يومها كثرت حوانيتها”.

وبالعودة قليلاً، من خلال ما قرأته عن أسباب منع شرب القهوة وتحريمها، والبحث عن القاسم المشترك، الخفي، وراء تلك  الفتاوى والقرارات، سنجد حتماً، أنّ الخوف هو المحرّك الرئيس لتلك الأسباب، بدءاً بخوف والدي من الانخراط في جوّ الزعران، الّذين سأتعلّم منهم “التدخين والألفاظ البذيئة وتضييع الوقت”، كما كان يظنّ. وصولاً إلى خوف الولاة وحكّام البلاد من وجود مكان جامع للناس، قد يكون مصدر ريبة وخطر عليهم، فلطالما كانت المقاهي، مراكزَ انطلاقٍ للكثير من الثورات في أوروبا وحول العالم، ونشوء أولى الحركات الثوريّة. كانت المقاهي بمثابة “فيسبوك واقعي” إن صح التشبيه، ما دفع السلطة إلى توظيف تابعين لهم (مُخبرين) ينخرطون بين الناس في المقاهي، كعيون للحاكم، مزروعة بجوار كل طاولة. وظلّت هذه الظاهرة مستمرّة في بلادنا حتّى يومنا هذا. من منّا يجلس في مقهى شعبيّ أو حتى ذي طراز حديث، ولا يتلفّت حوله أو يُخفض صوته أثناء حديث يخوض في السّياسة؟

بين بيروت ودمشق: تاريخ تحدّثنا به المقاهي

تنقّلت خلال الفترة التي أقمت فيها في دمشق، بين معظم المقاهي القديمة، من النوفرة إلى الكمال وصولاً إلى الهافانا والروضة. كان التاريخ هو القاسم المشترك بينها، تراه في شكل الطاولات ونوع خشبها، في ثياب الموظّفين، وشكل الفناجين المزخرفة، في المساحات الشاسعة وكثرة الروّاد. لكنّ أمراً لايخفى على أحد، يزداد وضوحاً مع مرور الأيّام والسنين، وهو تراجع رغبة الناس في ارتياد تلك المقاهي. لا أقصد كلّ الناس طبعاً، إنّما ظهور أجيالٍ جديدة، صار طموحها وأكبر تطلّعاتها، إمّا السّفر أو الهجرة، حيث فقدت تلك المقاهي حيويّتها، لدرجة أنك إذا دخلت أحدها، تجد أنّ أصغر زبون فيها، لا يقل عمره عن الخمسين سنة.  كما أنّ دخول الحرب السورية منذ بدايات عام 2011 جعل معظم تلك المقاهي تغلق أبوابها، واستُثمر الكثير منها في مصالح أخرى، فبعضها تحوّل إلى مراكز لبيع الألبسة، وبعضها الآخر لم يبق منه سوى البناء الخارجي، تستطيع من النوافذ، أن تشاهد أكواماً من الكراسي الخشب، مرميّة في ساحة المقهى. وذلك من أكثر المشاهدات المثيرة للأسف.

انتقلت في بدايات عام 2017 من دمشق إلى بيروت، حالي كحال الشباب السوريين جميعاً، هرباً من الحرب، إذ كانت بيروت هي المحطة الأقرب الأكثر أماناً. وبما أن خروج الإنسان من وطنه مجبراً، يعتبر من أكثر الأمور صعوبة، تلك الّتي يمكن أن يواجهها، كنت أحاول قدر المستطاع خلال الأشهر الأولى في بيروت، أن أبحث عن أكبر عدد من الأمور المشتركة بين هاتين المدينتين، كي لا أشعر بالغربة الموحشة، وكانت عبارة “بيروت بنت عم الشام” هي من أكثر العبارات الّتي ردّدتها خلال تجوالي ورحلة البحث، التي لم تسفر سوى عن اكتشاف وحيد، هو المقاهي، هي الشيء المشترك، الّذي لا تكاد تميّزه بين دمشق وبيروت، وهنا تحديداً، أتحدث عن المقاهي الشعبية القديمة. الفوارق التي لاحظتها، كانت تتمثّل في نواحٍ عدة، لفتت انتباهي بشكل غريب، أبرزها أن المقاهي في دمشق، كانت تتركز في المدينة القديمة، وبعض الحارات المحيطة بها والقريبة منها، بينما في بيروت ثمة ما يُسمّى “القهوة البحريّة”. هذا النوع من المقاهي ينتشر بشكل كثيف على طول الشريط الساحلي من مدينة جبيل وصولاً إلى مدينة صور جنوباً. 

هذا الأمر صنع فارقاً في نوع الطلبات الّتي يتم تقديمها للزبائن، ففي مقاهي دمشق لا يتم تقديم المشروبات الرّوحية والمأكولات البحريّة. إذ تقتصر على تقديم الشاي والقهوة والنراجيل. وهناك فرق أيضاً في النمط العام للزبائن. ففي بيروت معظم زبائن المقاهي البحرية هم من البحّارة والعتّالين، والقليل من السيّاح، أمّا في دمشق، فمعظمهم من المسنّين والعاطلين من العمل، وبعض المثقفين، والّذين ينتظرون أقرب فرصة للسفر.

إقرأوا أيضاً:

الحطام السّوري: نموذجٌ دسم للترويج 

لا بدّ لي، طالما أنّ الحديث عن المقاهي، ان أستدرك بعض مظاهر استغلال المعاناة والحرب في سوريا، في ما يتعلق بموضوعها، إذ انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، خلال عام 2020، الكثير من الصور لعدد من المقاهي والمطاعم في الصين. كان هدفها الأساسي الترويج لنفسها، على ظهر المعاناة في سوريا، وأطلق مؤثرون اسم “النمط السوري” على تلك المقاهي. تتجلّى لنا في تلك الصور، أبرز العلامات الّتي تدلّ على أن حرباً مرت بالمكان، أو أنّ المكان تعرض لقصف ما أو تفجير. واعتمدت التصاميم على استخدام اللون الرّمادي الداكن لطلي الطاولات والكراسي، إضافة إلى جعل الجدران تبدو كأنّ الرّصاص اخترقها. إلى جانب وجود طاولات على شكل براميل قديمة، وأثاث شبه مُحطّم.

من المؤسف جدّاً في نهاية الأمر، أن نصبح نموذجاً يدل على الحرب، ليس فقط في ما يتعلق بالمقاهي والمطاعم، بل في كل شيء، فكم من متسوّل في أوروبا وتركيا، يمشي في الشوارع، يمدّ يده للناس طلباً للمساعدة، متذرّعاً بأنّه سوري، بينما هو في الحقيقة من جنسية أخرى! 

وأيضاً، ثمّة ما هو أكثر إثارة للحزن والخيبة، إذ لم يستطع المخرج العالمي “جوناثان نولان” أن يجد صورة للتعبير عن نهاية العالم في الجزء الخامس من مسلسله Westworld سوى صورة حقيقة أخذت من الجو لمدينة حمص السوريّة الّتي لحق بها دمار شبه كامل بسبب الحرب. 

ومن المفارقات الغريبة جدّاً، هو أنّني أكتب عن كلّ ذلك، بينما أجلس في مقهى “ستاربكس” القريب من صخرة الروشة في بيروت، تحاصرني الـamerican coffee والكثير من المشاريب الّتي لم اسمع باسمها من قبل، إضافة إلى القليل من الزّبائن، الّذين يدفنون وجوههم في شاشات هواتفهم.

إقرأوا أيضاً: