fbpx

السلطة اللبنانية تُروّج لهدم الأهراءات: قفز فوق الجريمة وخطر بيئي كبير

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يعني هدم مبنى الأهراءات محواً فعلياً للجريمة، التي لم تؤدِ نتائج تحقيقاتها إلى أي محاسبة جدّية للمتورطين، وذلك عبر إزالة ركن أساسي من مسرح الحدث، إضافةً إلى أن هدم الأهراءات سيُشكّل خطراً بيئياً ضخماً على سكان بيروت.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“أكياس نايلون، قطع ثياب، نفايات… هذا كلّه يمكن أن يعلق في صنّارتي… ذات مرّة اصطاد صديقي حذاء! هذا عدا مياه الصرف الصحي والمواد الكيماوية التي تتسرب من المصانع والمستشفيات والبواخر، وتصبّ في البحر”، تقول مريم وهي ترفع صنارتها من مياه البحر العكرة. “ليكي إيديّ كيف صاروا زيت… هيدا كله بسبب البواخر”، تُضيف وهي تفتح كفّيها المشوّهتين، ثم تمسح الزيت الأسود بملابسها، وتضع طعماً جديداً في الصنارة، لعلّها تلتقط قوت يومها. 

مريم أول امرأة صيّادة في لبنان، امتلكت ما يكفي من الجرأة لتكسر صورة نمطية عن عمل النساء في مهنةٍ يفرض الذكور هيمنتهم عليها. منذ 17 سنة، تُمارس مريم الصيد صباحاً، وتقضي يومها بجانب البحر حتى تبيع ما جمعته من سمك. ثم تخلد إلى النوم قرب الشاطئ. هكذا أمضت الصّيادة حياتها قرب بحر بيروت، حتى بات لقبها “ملكة البحر”. 

خلال تلك السنوات، كانت مريم شاهدةً على مراحل تلوّث بحر بيروت وثروته السمكية، التي يقتات منها مئات اللبنانيين. “البحر زمان كان ملوّث بس مش قد السنوات الأخيرة… اليوم السمك صار طعمه مازوت… بمنطقة زيتونة باي ببيروت فيه سمك كتير… بس غير صالح للأكل، طعمته مازوت ولون لحمه أسود”، تقول مريم شارحةً حجم الضرر الذي لحق بالثروة السمكية، لا سيما أن جزءاً كبيراً من اللبنانيين يعتمدون على سمك بحر بيروت كغذاء أساسي، خصوصاً بعد زيادة الأسعار بشكلٍ جنوني، ما جعل اللحوم ترفاً لا يملكه كل اللبنانيين.  

أزمة عمّقها انفجار المرفأ…

على رغم أن أزمة تلوّث مياه البحر ليست جديدة، إلا أن السنوات الأخيرة كانت كفيلةً بمضاعفة تلك الأزمة، لا سيما بعد انفجار مرفأ بيروت. إذ لا تزال التداعيات البيئية للجريمة التي هزّت العاصمة اللبنانية في الرابع من آب/ أغسطس 2020 تتواصل. 

“خلّف الانفجار نحو 800 ألف طن من مخلفات البناء والهدم، التي تحتوي على الأرجح على مواد كيميائية خطيرة نظراً لأنواع المواد المعروفة بتخزينها هناك عادة، كمبيدات الآفات والمنتجات الصيدلانية والمواد الكيميائية الصناعية ورصاص السيارات وأنواع مختلفة من المعادن الثقيلة”، وفق مديرة برنامج البيئة والطاقة في “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” في لبنان جيهان سعود. وقدّر برنامج “الأمم المتحدة الإنمائي” تكلفة تنظيف التدهور البيئي الناجم عن الانفجار بأكثر من 100 مليون دولار، يُضاف ذلك إلى تكاليف التنظيف البيئي الحالية في لبنان، التي قدّرها البرنامج عام 2018 بنحو 2.35 مليار دولار. علماً أن آثار الانفجار تُعتبر من العوامل غير المناخية (نتيجة لعمل إنساني) التي تؤثر في البيئة والنظام البيئي البحري وتنوعه الأحيائي، كما على الصحة وجودة الهواء. 

السلطات اللبنانية لم تُبدِ أي استعداد للحدّ من الضرر البيئي الذي أصاب المياه والهواء في المنطقة المحيطة بالمرفأ، كما أن الجهات المعنية لم تجرِ أي دراسات عينية على المياه في محيط الانفجار، وفق ما أكّده مدير عام الهيئة الوطنية للطاقة الذرية بلال نصولي. من جهة أخرى، ذكرت المتحدّثة الإعلامية لـ”البنك الدولي” زينة الخليل في حديثها مع “درج”، أن “خطة مرفأ بيروت التي يجري تطويرها حالياً ستتضمن تقييماً بيئياً يضمن أن جميع الأنشطة المخطط لها تخضع لفحص بيئي صارم بما يتماشى مع أفضل المعايير البيئية”. علماً أن الأمم المتحدة تعمل مشروع لتنظيف المنطقة المتضررة المحيطة بمرفأ بيروت، بمساعدة تقنية من “البنك الدولي”.

المفارقة، أن السلطات اللبنانية تحاول طمس الجريمة وذكراها، ولو كلّف ذلك ضراراً بيئياً مُضاعفاً على المدينة وأهلها. إذ أعلن وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام بدء استدراج العروض لمناقصة تنفيذ مشروع هدم أهراءات القمح واختيار الشركة التي ستتوّلى التنفيذ. ليعود ويتراجع عن قراراه مؤكداً أنه “لن يتخذ قرار الهدم قبل صدور رأي قضائي مختص”. إلا أن سياسيين كثراً ما زالوا يُروّجون لهدم الأهراءات، بذريعة أنه “لم يعد من داعٍ للمحافظة عليها” أو أنها “آيلة للسقوط ويمكن أن تنهار إذا هبّت عاصفة قوية”، ومنهم وزير الثقافة محمد مرتضى، ووزير الأشغال علي حمية الذي اعتبر في تصريحٍ لقناة “الجديد” أنه “لم يعد من داعٍ للمحافظة على ما تبقّى من أهراءات القمح بالنظر للمرحلة التي قطعها التحقيق العدلي”. 

يعني هدم مبنى الأهراءات محواً فعلياً للجريمة، التي لم تؤدِ نتائج تحقيقاتها إلى أي محاسبة جدّية للمتورطين، وذلك عبر إزالة ركن أساسي من مسرح الحدث، إضافةً إلى أن هدم الأهراءات سيُشكّل خطراً بيئياً ضخماً على سكان بيروت، وفق ما أكّده خبراء لـ”درج”. إذ إن أهراءات القمح مصنوعة بشكل أساسي من مادة الإسبستوس المُسرطنة. وهي مادة تُستخدم في مجال البناء وتسقيف المنازل والعوازل الداخلية والخارجية وأنابيب صرف المياه والأدخنة والتهوية، كونها تحتوي على شعيرات تُقاوم الحرارة والتآكل، كما أنها تُدمج مع مادة الإسمنت لتعطي البناء صلابة البناء، وهو ما يُفسّر صمود الأهراءات أمام انفجار 2750 طناً من مادة نيترات الأمونيوم، ما أدّى إلى تصنيفه كواحدٍ من أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ. هذا عدا أن مبنى الأهراءات حمى عشرات الآلاف من السكان ومنع سقوط آلاف المباني في جنوب العاصمة.

“تحدثت تقارير عدة عن خطورة هذه المادة والضرر الناتج عنها بحال الهدم”، يقول الخبير الكيميائي والباحث في تلوث الهواء أديب كفوري لـ”درج”، مؤكداً أن “خطورة مادة الإسبستوس تكمن في نوع المواد المعدنية والشعيرات الموجودة فيه”. وفق كفوري، تعتمد التأثيرات الصحية لهذه المادة على المدة الزمنية التي يتعرّض فيها الإنسان لغبار أليافها، وكذلك على عدد الألياف وطولها ومتانتها. 

كفوري، الذي أجرى دراسة عن مادة الإسبستوس ومخاطرها، يوكّد أن مخاطر التعرّض لغبارها قد يظهر بعد 10 سنوات وصولاً إلى 40 سنة، وقد يؤدي إلى سرطان الغشاء النووي، وهو سرطان نادر جداً مرتبط فعلياً بالإسبستوس، يظهر مع مراحل متقدّمة جداً والموت محتّم عند الإصابة به. ذكرت “الوكالة العالمية للأبحاث عن المواد المسرطنة” خطر مادة الإسبتسوس صراحةً في تقريرٍ لها، مشيرةً إلى أن “لا نسبة تعرّض آمنة من هذه المادة”. هذا إضافة إلى الخطورة التي يواجهها العمال المكلّفون بتكسير تلك الأهراءات، فبناءً على المعايير التي حدّدتها “منظمة الصحة العالمية”، يجب ألا توجد ألياف الأسبستوس في أماكن العمل عن بعد 17 متر. الأمر الذي يطرح أسئلة حول مدى التزام السلطات اللبنانية المعنية ببروتوكول حماية العمّال أثناء الهدم من ارتداء بدلات وأقنعة خاصة، وصولاً إلى اتّباع طريقة محترفة لتكسير الأهراءات، وهو ما يعتبر “الهاجس الأكبر”، وفق كفوري. 

الخطر البيئي الذي يُهدّد بيروت لا يقف هنا، إذ إن السؤال الأهم إلى أين ستُنقل تلك الكميات الهائلة من الإسبستوس بعد الهدم؟ علماً أنها يُفترض أن تُنقل إلى أماكن نائية وآمنة على المدى الطويل، وفق خبراء. فضلاً عن الحاجة لمعرفة المواد المخزّنة في المرفأ قبل الهدم، فقد يحوي المكان على مواد كيميائية مركّزة تشكّل خطراً بحال تسرّبها إلى مياه البحر. كما ستؤثّر في الأنواع البيئية والمياه الجوفية في المكان الذي ستُطمر فيه تلك المخلفات. 

مخلّفات الانفجار ترسو في قاع البحر…

في الرابع من آب/ أغسطس، كانت سفينة “أورينت كوين” السياحية التابعة لمجموعة “أبو مرعي لاينز”، ترسو في مرفأ بيروت. لحظة وقوع الانفجار، غرقت الباخرة بالكامل وسقط قتيلان وسبعة جرحى من طاقمها. بعد مرور أكثر من عام ونصف العام على الانفجار، لا تزال السفينة تقبع في قعر بحر بيروت مع كل ما تبثّه من غازات وانبعاثات سامّة. إدارة السفينة تقول إن كلفة نشلها من القعر عالية جداً، فيما ترفض شركة التأمين تكبّد أي تكاليف لإزالتها، ما يفاقم خطر تلوّث مياه البحر والثروة السمكية.  

السفينة هي واحدة من المخلّفات التي طرحها انفجار مرفأ بيروت في مياه البحر. وفق المدير العام لـ”المركز الوطني لعلوم البحار” ميلاد فخري، “لم تُجرَ دراسات على نوعية المياه والأثر البيئي الذي لحق بالكائنات الحية في محيط منطقة المرفأ بعد الانفجار، إلا أن هذه المنطقة ملوّثة أساساً”. في سياقٍ متّصل، ذكر “المركز الوطني لعلوم البحار” في تقريره الأخير الصادر عام 2020، أن حالة المياه البكتيريولوجية “ملوثة جداً”، ومعدّل نسبة التلوث البكتيري فيها 100 ملل للعقديات البرازية/ 10000 مستعمرة، كما أشارت إلى وجود 3 مصبات كبيرة لمياه الصرف الصحي من شمال الشاطئ حتى جنوبه، عدا مخلّفات المصانع والنفط المتسرّب من السفن.  

“هذا ما تبقّى لنا من بيروت… البحر هو فسحتنا المجانيّة الوحيدة، لكنها باتت تُشكّل خطراً على حياتنا”، تقول مريم بحسرةٍ وهي تنظر إلى البحر الذي اقترب لونه من الرماديّ، وعلى موجهِ تطفو نفايات. 

تم إعداد هذا التحقيق ضمن مبادرة MediaLab Environment، مشروع للوكالة الفرنسية لتنمية الإعلام CFI

إقرأوا أيضاً: