fbpx

تغير المناخ يُهَجِّر المياه 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

باستثناء جيوب صغيرة شمال الجزائر وفي تونس وسوريا والعراق، تقع المنطقة العربية بمشرقها ومغربها في المناطق شبه الاستوائية. ما يعني أنها سوف تعاني من هجرة المياه وتكثيفها في المناطق القطبية جراء سخونة الأرض.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

اعتاد البشر، منذ آلاف السنين، على امتلاء الخزانات والأحواض والمسطحات المائية في الشتاء، ولم يطل الانتظار صيفاً كي تعود الرطوبة والأمطار في الخريف وينتهي معه القحط الموسمي. لقد تكرّست هذه الصور في الوعي العام بآليات عمل دورة النظام الطبيعي، وبذلك بقيت المياه خارج فكرة الندرة لزمن طويل. حين نفكر بشكل تقليدي بالماء ودورته الطبيعية، فإننا نذهب الى انه كمية ثابتة نحصل عليها من خلال الأمطار والثلوج الموسمية، أما إذا تناقصت الكميات المتوفرة على السطح، فنلجأ إلى المياه الجوفية باعتبارها مورداً دائماً ويمكننا استغلاله كما نريد. وبما أن العالم لم يشهد ندرة مائية مماثلة كما يحصل اليوم، لم تتطرق العلوم الطبيعية والبيئية كثيراً الى التحولات التي طرأت على دورة المياه على كوكب الأرض الاّ بعدما أفضت التغيرات المناخية إلى نتائج تشير الى تكثيف المياه العذبة في الأماكن الأكثر رطوبة في العالم وخلو أماكن أخرى منها جراء الاحترار الكوكبي. 

ما يحدث في دورة المياه جراء سخونة الكوكب هو أن ضعف كميات المياه العذبة يهجر ها من المناطق الدافئة نحو قطبي الأرض. وكانت التقديرات السابقة بخصوص تكثيف المياه العذبة تتراوح بين 2 الى 4 في المئة، بينما تشير دراسة علمية جديدة نشرت في مجلة Nature الى هجرة 7.4 في المئة منها إلى المناطق الرطبة. ولا تقتصر دورة الماء على عملية تدوير ثابتة تملأ البحيرات والسدود في الفصول المطرية كما هو متعارف عليها، بل هي عملية متغيرة يحدث فيها التبخر، الارتفاع إلى الغلاف الجوي، والتبريد والتكثيف على شكل الأمطار والثلوج، ومن ثم السقوط أو الهطول مرة أخرى على سطح الأرض. وقد بدأ العلماء منذ فترة طويلة بدراسة أثر ارتفاع درجة الحرارة العالمية على تكثيف دورة المياه مع احتمال أن تصبح المناطق شبه الاستوائية الجافة، أكثر جفافاً جراء هجرة المياه العذبة نحو المناطق الرطبة. ومن شأن ذلك ترك آثار واضحة على النظم البيئية والمجتمعات البشرية. ومع ذلك، فإن قياس التغير التاريخي لدورة المياه أمر صعب بسبب ندرة الملاحظات المباشرة بحسب كُتاب الدراسة، خاصة فوق المحيطات، حيث تحدث 77 في المئة من هطول الأمطار العالمي و85 في المئة من التبخر.

وكما جاء في الدراسة فإن التدفقات الجوية والبحرية للمياه العذبة تؤثر في ملوحة المحيطات، وهذا يعني أن الملوحة تكون أدنى في الأجزاء الأكثر دفئاً وبرودة من المحيط، وتكون أعلى في درجات الحرارة المتوسطة. ويتبع الباحثون اتجاهات الملوحة في الجزء الدافئ والمالح من المحيط لرصد تكثيف المياه العذبة في نظام الأرض في الفترة الواقعة بين 1970-2014. ويقدر العلماء حجم المياه العذبة الزائدة التي انتقلت من المناطق الأكثر دفئاً خلال الفترة ذاتها ما بين 46000 إلى 77000 كيلومتر مكعب.

وبما أن المياه المرتبطة بالدورة الهيدرولوجية تمر عبر المحيط، فإنها تولد علامات على تملح المحيطات وتجديدها، سواء على السطح أو في الداخل. وتوصل العلماء من خلال دراسة دورة المياه على المحيطات إلى أن الأماكن الرطبة تزداد رطوبة فيما تصبح الأماكن الجافة أكثر جفافاً. وتعود أسباب تكثيف دورة المياه وهجرة حركة المياه العذبة نحو قطبي الأرض إلى الاحتباس الحراري العالمي، إذ تصبح مياه المحيطات شبه الاستوائية مالحة بشكل متزايد، بينما تزداد المياه العذبة في قطبي الأرض. 

شكل آخر من تهجير المياه العذبة

يُهَجِّر تغير المناخ المياه العذبة بأشكال أخرى أيضاً، تحديداً في المناطق الساحلية، وقد يؤدي الى نخر المُدن ويفتت البنى التحتية، الأمر الذي يلحق أضرار كبيرة بسكان السواحل وسبل عيشهم. ويتمثل هذا الخطر في ارتفاع مستوى المياه الجوفية، وهي المياه العذبة، ولكن لماذا وكيف؟ 

كان الخوف إلى وقت قريب هو من ارتفاع مستوى سطح البحر، وقد سارعت مدن ساحلية كثيرة في الولايات المتحدة الأمريكية الى بناء “جدران بحرية” لصد ارتفاع المياه وحماية المدن، إنما ظهرت آثار أخرى غير متوقعة بالنسبة للخبراء البيئيين، وهي ارتفاع مستوى المياه الجوفية. يقول المهندس والعالم في في جامعة ستون بروك في أميركا دانيال روزيل، “أحد أهم الأشياء المتعلقة بالمياه الجوفية هو أن ارتفاع مستواها يسبق أي غمر على السطح، بعبارة أخرى، سوف نشهد فيضان المياه الجوفية قبل وقت طويل من ظهور المحيط على بابنا الأمامي”. وجاء ذلك في مقال نشرها موقع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بعنوان: كيف يمكن لارتفاع المياه الجوفية الناجم عن تغير المناخ أن يدمر المجتمعات الساحلية؟ 

لفهم الرابط بين الفيضان الجوفي وارتفاع مستوى سطح البحر الناتجين عن تغير المناخ، من المفيد أن نفهم المياه الجوفية أولاً. فهي موجودة في الرواسب تحت الأرض كمياه سطحية، مثل الأمطار أو الثلوج، ومن ثم تسربت في النهاية إلى أسفل. هناك طبقة من التربة المشبعة تحت الأرض تقع تحت طبقة غير مشبعة. الحد الفاصل بينهما بحسب دانييل روزيل، هو ما يعرف باسم منسوب المياه الجوفية. وفي العديد من المناطق الساحلية، تقع الطبقة المشبعة من التربة، والتي يمكن أن يصل سمكها إلى عدة أمتار، فوق المياه المالحة من المحيط. ومع ارتفاع مستوى سطح البحر، يتم دفع المياه الجوفية العذبة نحو أعلى، ذلك لأن المياه المالحة أكثر كثافة من المياه العذبة. ويشرح روزيل هذه الآلية قائلاً، “تتدفق المياه الجوفية عادة إلى البحر، على طول الساحل، هناك ما يسمونه تصريف المياه الجوفية تحت سطح البحر. وقد تلاحظ ذلك إذا ذهبت إلى الشاطئ عند انخفاض المد. فحين تقف في الماء، تشعر بوجود ماء بارد حقاً على الحافة في الرمال. وهذه هي المياه الجوفية التي تنفد باستمرار في المحيط”.

إقرأوا أيضاً:

وسبق أن نشر الباحثان في جامعة هاواي كولجا روتزل وجيب فليشتر عام 2012 دراسة حول الموضوع ذاته، حيث بيّنا اتصال ارتفاع وانخفاض منسوب المياه مع المد والجزر، أي أن استقرار المياه الجوفية متصل بشكل مباشر مع مستوى سطح البحر. وكتب فليتشر، “بحثنا في سجلات الآبار ووجدنا أن منسوب المياه في المنطقة الساحلية يرتفع وينخفض مع المد والجزر”. ما يعني أن هناك صلة مباشرة بين المحيط ومنسوب المياه الجوفية. ومع ارتفاع مستوى المحيط جراء تغير المناخ، فإن منسوب المياه سوف يرتفع ويغمر الأراضي في النهاية. وقد اتضح أن هذا شكل من أشكال ارتفاع مستوى سطح البحر، ويلحق ضرراً أكثر بمناطق ساحلية، وهو ما يعتقد الناس تقليدياً أنه تدفق المحيط على الساحل والفيضانات بحسب الدراسة. 

وفي الوقت الذي تعمل إدارة المدن الساحلية والسكان على الجدار البحري Seawall بغية الحماية من مياه البحر الزاحفة جراء ذوبان الأنهار الجليدية، من شأن المياه الجوفية الفائضة إلحاق أضرار هائلة بالبنى التحية مثل نظام الصرف الصحي. يضاف الى ذل تأثر المياه الجوفية العذبة التي تعتمدها المجتمعات للحصول على مياه الشرب بأنظمة الصرف الصحي. وعلى رغم أن المدن الحديثة تتميز بأنظمة متطورة وتفصل بناها التحتية مياه الأمطار عن مياه الصرف الصحي عبر أنابيب خاصة لكل واحدة منها، هناك مخاوف من امتلاء الأنابيب المخصصة لتفريغ الأمطار بالمياه الجوفية، وفي هذه الحالة تجد الأمطار منفذ لها، الأمر الذي يؤدي إلى تداخل جميع الشبكات، بما فيها الصرف الصحي. وبما أن المياه الصاعدة تشبع التربة، فليس من المستبعد أن تطفو المواد الملوثة مثل المحروقات والمخلفات الكيميائية الناتجة عن أعمال الشركات، إلى أنظمة الصرف الصحي وتلحق أضراراً كبيرة بالصحة العامة، ناهيك بتعرض الخطوط الكهربائية المدفونة إلى التلف في مناطق معينة. 

المنطقة العربية

باستثناء جيوب صغيرة شمال الجزائر وفي تونس وسوريا والعراق، تقع المنطقة العربية بمشرقها ومغربها في المناطق شبه الاستوائية. ما يعني أنها سوف تعاني من هجرة المياه وتكثيفها في المناطق القطبية جراء سخونة الأرض، بخاصة أن جنوب الحوض المتوسطي، حيث تقع البلدان العربية، يعد من النقاط الساخنة مناخياً. 

من المتوقع أن يرتفع التباين الهيدرولوجي بسبب الاحترار، ما يزيد من مخاطر الجفاف، والإجهاد المائي وحرائق الغابات والفيضانات، وذلك بحسب معهد “ماساتشوستس للتكنولوجيا” و”معهد مكنزي الدولي” في بحثين مستقلين نشرا عام 2020. أما من ناحية ارتفاع مستوى سطح البحر، فتناولت دراسات وأبحاث مستقلة تأثر مناطق عربية بزحف مياه البحر مثل مناطق في جنوب العراق (البصرة، الناصرية، ميسان) ومدينة الإسكندرية في مصر ومناطق ساحلية في لبنان. ولم يتناول أي بحث مستقل الى اليوم تأثير ذلك في المياه الجوفية العذبة. 

قصارى الكلام، تستوجب أي حماية مصممة لمنع ارتفاع منسوب البحار وتقليل الأضرار في المناطق الساحلية، وسائل دفاعية جديدة، مثل منافذ لتفريغ المياه الجوفية قبل أن تطفو إلى شبكات الصرف الصحي وتدمر البنى التحتية. بخاصة أن آثار تغير المناخ تظهر بأشكال جديدة ومختلفة. ويعد الحفاظ على المناطق الرطبة، الغابات الطبيعية والمستنقعات، من السبل الناجعة للحفاظ على المياه وتبريد الحرارة. 

إقرأوا أيضاً: