fbpx

بين “ضياع الجنس” و”جنسانية أم كلثوم”:
هل السؤال عن “مثلية” الست ممنوع؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“تعلّمت أن الأنوثة عار فعشت أجمل سنوات العمر متنكّرة في عقال بدوي ومعطف أزرق وحزام يشد البطن حتى أبدو للجميع رجلاً من ظهر رجل فتتجنّب عائلتي فضيحة أن لديها ابنة تغني”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في متحف أم كلثوم في القاهرة، فيما كنا نتأمّل فساتين “كوكب الشرق” التي لبستها خلال حفلاتها موضوعة في واجهة زجاجية، سجلت صديقتي إليانا ملاحظة بدت لي ملفتة في سياق التنميط الذي لاحق ويلاحق الشكل الخارجي لسيدة الغناء العربي. قالت إليانا إن الفساتين المعروضة تبدو مصمّمة لجسد نحيف، وأنّها لو كانت فعلاً لأم كلثوم (وهي طبعاً كذلك) فهذا يعني أنّ “الست” لم تكن ممتلئة كما تبدو لنا عبر الشاشة في بعض حفلاتها المصورة، ولا كما يصفها من كتبوا سيرتها أو كتبوا في سيرتها. والتنميط الذي لاحق السيدة أم كلثوم ارتبط أولاً وبشكل أساسي بطفولتها، حيث اضطرت، حتى تستطيع الغناء مع والدها الشيخ ابراهيم بلتاجي في جولاته على الموالد والأعراس، أن تلبس ثياب الصبيان وتتنكّر في هيئة صبي كي لا تصطدم ببيئتها. كانت تلبس “بالطو” أزرق وجلابية وتضع على رأسها “عقال”. 

وحينما انتقلت للغناء في القاهرة، اضطرت بعد فترة “ممانعة” إلى فعل العكس تماماً، أي انها خضعت لمتطلّبات البيئة الجديدة والانتقال إلى لبس الفساتين وإن كانت قد حافظت طوال مسيرتها على فساتين بأكمام طويلة و”محتشمة” بالمعيار الاجتماعي المصري المحافظ. وعند بدايات ظهورها الفني على نطاق وطني، كان خصومها ومديرو المغنيات الأخريات يتساءلون “هل هي بنت أو ولد؟”، وأطلق عليها بعض هؤلاء “السيد أم كلثوم” كما تنقل سير وروايات، وكانت مع والدها مرتاحين إلى هذا اللقب “الذي يحمل طابع الوقار”، كما يقول حازم صاغية في كتابه “الهوى دون أهله- أم كلثوم سيرة ونصاً” (دار الجديد- 1991).

 لكن تهمة “قلة الأنوثة” ظلّت تلاحق الست، وتعرضت لتنمّر يتعلق بأنوثتها خلال حياتها، وبعد وفاتها، لكنها مع ذلك، “في غضون حياتها الفنية والشخصية كلها، لم تحاول تبديد هذا الغموض الجنسي أو استعادة الجنسية المغيّبة”، بحسب صاغية.

في مطلع كتابه المثير للجدل “جنسانية أم كلثوم”، الذي يتناول “الخصائص الجنسية البيولوجية والنوع الاجتماعي والأدوار الاجتماعية والايروسية، المتعة والحميمية، والإنجابية”(وهو تعريف منظمة الصحة العالمية للجنسانية) لـ”كوكب الشرق”، ينقل موسى الشديدي سؤال المطربة أسمهان لأمها وأخيها فريد(الأطرش) لدى وصولهم إلى القاهرة أول مرة عن إعلان رأته في الشارع لأم كلثوم: “من تلك المرأة اللابسة حطة الرجل الدرزي؟”، وهي إشارة واضحة إلى أن أم كلثوم كانت في بداياتها في القاهرة تحافظ على مظهر “رجّالي” في معايير ذلك الزمان. 

حينما سألتُ عن كتاب الشديدي في إحدى مكتبات شارع الزمالك، ارتسم شيء من الاستنكار والاستغراب الممزوجين بابتسامة معاتبة على وجه بائع الكتب، وقال إن الكتاب مقطوع من السوق. لاحقاً سألت صديقاً مصرياً عن سبب امتعاض البائع من السؤال عن هذا الكتاب بالذات، فقال لي إنك تسأل عن كتاب يمسّ بـ”تابوهين” إثنين في المجتمع المصري: الـ”تابو” الأول هو الجنس والثاني هو أم كلثوم، “الهرم الرابع”، وأحد المقدّسات لدى غالبية المصريين، والكتاب في عنوانه يجمع هذين الـ”تابوهين”: “الجنسانية” و”أم كلثوم”. ولما كان الكتاب مفقوداً في المكتبات، لجأت إلى نسخة الكترونية منه، وهو عجالة (40 صفحة فقط) يحاول من خلالها الكاتب أن يعرض لإشارات ودلائل على اضطراب نظرة جمهور الست ومتابعيها ونقادها، من المريدين والكارهين، إلى هويتها الجنسية. ويحاول الكتاب أن ينصف الست في مواجهة تنميط ذكوري يريد لها أن تكون أنثى بالمعايير الذكورية، خصوصاً صوتها وملبسها “الرجالي”، ويقرأ الكاتب في النصوص الصحافية والروائية والسير الذاتية التي تناولت أنوثة أم كلثوم واعتبرتها منقوصة، خصوصاً لدى مقارنتها من ذكوريين كثر من ذلك الزمان بمنافستها في بداياتها منيرة المهدية التي كانت توصف بأنها مثيرة ومغرية.   

إقرأوا أيضاً:

في روايته المستندة إلى وقائع وأحداث حقيقية، يروي محمد بركة في “حانة الست”(دار “أقلام عربية للنشر والتوزيع”- 2021) عندما قام زوجها الأخير الطبيب حسن الحفناوي بصفعها بعد أن وبّخته لاقتحامه غرفة البروفات في منزلها حينما كانت تجري بروفا مع فرقتها، فانهارت بالبكاء واتصلت بالرئيس جمال عبد الناصر الذي حضر شخصياً إلى بيتها بمفرده وطيّب خاطرها، وقال لحفناوي إنه يتفهم أن يكون هناك خلافات بين الأزواج في البيوت، لكنه نبّهه إلى أنه متزوج من مصر شخصياً. وبهذا المعنى فهو بصفعه أم كلثوم فإنما يصفع مصر. 

عندما قرأت الرواية، ووصلت إلى هذا الجزء تحديداً، فهمت لماذا رمقني بائع الكتب بنظرة مستنكرة لدى سؤالي عن كتاب “جنسانية أم كلثوم”. وتذكرت كلام الصديق المصري عن المسّ بالمقدّس لدى أي مسّ بصورة أم كلثوم التي يحافظ عليها غالبية المصريين في مخيالهم الشعبي على انها رمز وطني شامخ وصارم، إلى درجة أن النشيد الوطني المصري لفترة طويلة (1961- 1971) كان بصوت أم كلثوم (والله زمان يا سلاحي- ألحان كمال الطويل- كلمات صلاح جاهين)، وفي هذا توكيد على الترابط الذي جعله عبد الناصر متيناً بين “الست” ومصر. فهي، على ما يقول صاغية “مثلها مثل “الله” أو “العائلة” أو “الأمة” ممّا يتم تقديمه متسامياً على الانشقاق والفوارق”.

من هنا يبدو السؤال عن ميول أم كلثوم الجنسية، وما إذا كانت تفضّل النساء على الرجال، نوعاً من الـ”تابو” الذي انتظر طويلاً بعد وفاتها، حتى تجرأت قلّة على التداول به، خصوصاً بعد ظهور مواقع التواصل الإجتماعي التي فتحت الباب أمام طرح الأسئلة المحرّمة، ومن بينها هذا السؤال الذي يطرحه كتاب موسى الشديدي بوضوح، ويحاول أن يجيب عنه من دون الانزلاق إلى المنطق الذكوري الذي يشهر السؤال كسوط لجلد “الست” والتنمّر عليها وعلى خصوصياتها. 

محمد بركة في “حانة الست” يجيب على هذا السؤال بكلام متخيّل على لسان أم كلثوم، بعد ان تحدّثنا عن علاقتها بالأنوثة: “تعلّمت أن الأنوثة عار فعشت أجمل سنوات العمر متنكّرة في عقال بدوي ومعطف أزرق وحزام يشد البطن حتى أبدو للجميع رجلاً من ظهر رجل فتتجنّب عائلتي فضيحة أن لديها ابنة تغني”. ثم تأتي إلى السؤال المتخيّل الذي يطرحه بركة عبر روايته، والمستند إلى أسئلة واقعية متداولة: “هل يعني هذا أنني عشت أعاني خطباً ما؟ اضطراب غامض في الميول والرغبات؟”، ثم تجيب “الست” كما يريد لها بركة أن تفعل، استناداً إلى مجموعة كبيرة من الوقائع والمعطيات والمراجع: “وصلت الجرأة بأحدهم إلى حد القول: كانت تعشق النساء ولا تمرّ من تحت يدها شابة جميلة. سعاد حسني هربت منها بأعجوبة. اللعنة عليكم جميعاً!”. 

ثم يلعب بركة لعبة “الخبث” الروائية، فيضع على لسان أم كلثوم جواباً “لعوباً”: “نعم، أحببت النساء حباً رقيقاً ناعماً له ملمس الحرير، لكنه ليس ذلك الحب الشرير”. ثم تقول، دائماً بتخيلات بركة المحبوكة استناداً إلى وقائع، وكأنها تدفع عنها “التهمة” وتثبتها في آن: “لي أكثر من صورة وأنا أتبادل قبلات في الفم مع بعض السيدات، أكون غالباً في الإستراحة وتأتيني إحدى المعجبات في الكواليس لتمنحني شيئاً حاراً من روحها. تبادلت القبلات الفموية، شديدة العذوبة، مع سيدات تحت سمع وبصر الصحافة”. وبعض هذه الصور متداولة على الإنترنت ويمكن بسهولة العثور عليها، وهي “تفتح شهية” الروائي، كما الباحث في حالة الشديدي، على طرح أسئلة عن “جنسانية أم كلثوم”، ليكون الجواب المتخيل في رواية “حانة الست”: “تظنون أن شيئاً آخر كان يحدث وراء الأبواب المغلقة وتنسون أنه كان أمراً غير مستهجن في زماني أن تقبّل سيدة امرأة أخرى في شفتيها”. وهذا التبرير الأخير المتخيل يبدو بوضوح ساخراً إلى أقصى الحدود، خصوصاً أن الحديث عن أن تقبيل السيدات لبعضهم في الشفتين كان أمراً شائعاً وغير مستهجن في زمان أم كلثوم، يستدعي بالضرورة، على ما يقول صديقي المصري، إخراج صور شبيهة بصور أم كلثوم وهي تقبّل النساء في الفم، لنساء أخريات من تلك الفترة الزمنية، وهو ما لا يمكن العثور عليه بسهولة.

أما الجواب الذي حاول أن يعثر عليه الشديدي للسؤال حول مثلية “الست”، فيتحدث عن نوعين من “الأدبيات النادرة التي لمّحت لحب أم كلثوم للنساء”: الأول “يحاول النيل منها معتبراً هذا الحب لاأخلاقي… والجنسانية اللامعيارية سبباً للإحتقار والنبذ”، أما النوع الثاني من الأدبيات، يتابع الشديدي، “فقد عرضت الموضوع بتسامح واحترام كبيرين”، ويستشهد بما كتبه إدوارد سعيد في إحدى مقالاته التي حملت عنوان “تحية إلى راقصة شرقية”، يقول فيها: “خلال حياتها كان هناك سجال ما اذا كانت أم كلثوم أو لم تكن مثلية الجنس، لكن يبدو أن قوة وسحر أدائها جعل الجمهور يتجاهل ذلك”. وينتهي الشديدي إلى أن مجرّد طرحه لجنسانية أم كلثوم، قبل نشره كتابه بسنوات، في مقالة تحت عنوان “الست في القضية الجندرية” كان كفيلاً بإثارة الهلع، لأن فيها “تطاولاً على الكبار”، مؤكداً أن هذا الهلع هو أداة قمعية، تنزع الصفة البشرية عن أم كلثوم، وتحيلها إلى “رمز وملك عاماً لهم”. 

في “الهوى دون أهله” خصص حازم صاغية فصلاً لجنسانية الست حمل عنوان “ضياع الجنس”، ولم يتطرق فيه أبداً إلى فرضية أن تكون أم كلثوم مثلية الجنس، لكنه انتقد الظاهرة الكلثومية بوصفها “محاولة إنزال الرجال إلى سوية النساء كما هي في المجتمعات الشرقية”، بدل أن تساهم “في رفع النساء إلى موقع الرجال”. كما أخذ على “الكلثومية” انها “لم تطالب بإضافة قيم أو علاقات تفوق القيم والعلاقات الذكرية السائدة تحرراً”، ليبقى الكلام التحرري المنسوب إلى الظاهرة الكلثومية، بحسب صاغية، “لغواً ما دامت المتكلّمة تكتم صوتها النسائي والموقع الجنسي الذي تصدر عنه”. وهذا يعزز من الـ”تابو” الذي صارته أم كلثوم، ليضاف إلى “تابوهات” أخرى كثيرة لا تزال إلى اليوم تكبّل المجتمع المصري، ليس أقلها الحديث عن المثلية الجنسية عموماً، فكيف الحال بالحديث عن مثلية “الهرم الرابع”؟!

إقرأوا أيضاً: