fbpx

سوريّة في الانتخابات الفرنسية: عندما عثرت على صوتي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

خرجت من المركز يتنازعني شعوران: راحة بسبب إنهاء المهمة بنجاح، وحزن خفيف أشعر به في كل مرة عندما أشارك في أمر في فرنسا كنت أتمنى أن يكون في سوريا. حاولت طرد فكرة المقارنة من رأسي كي لا أفسد يومي بذكريات الألم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أجريت مقابلة الحصول على الجنسية الفرنسية في ظل جائحة “كورونا”، كانت المقابلة صعبة للغاية، لأنني أعتمد كثيراً على قراءة تعابير الوجوه، وكانت الموظفة التي تقابلني ترتدي كمامة طبية ويفصل بيننا حاجز من البلاستيك الشفاف، ما جعلني أعجز عن التقاط أي تفصيل، فلم أعرف إن كانت الموظفة مبتسمة أم مقطبة، والتصقت بالحاجز الزجاجي كي لا تفوتني أي كلمة فأطلب منها تكرار سؤالها، ولم أسترخ في جلستي إلا مع نهاية المقابلة، حين سألتني السؤال الأخير: هل تحبين أن تضيفي شيئاً؟ أخبرتها أنني أتمنى أمنية، وهي أن أصوت للمرة الأولى في حياتي قبل أن أبلغ الأربعين من عمري. عادت الموظفة إلى الصفحات الأولى من ملفي لتتأكد من تاريخ الميلاد، ووجدت أنني أبلغ الثامنة والثلاثين، نظرت إلي مباشرة للمرة الأولى وابتسمت عيناها قليلاً، وقالت: أتمنى لك ذلك، ولكنني لا أعتقد أن الوقت سيكون كافياً لتصوتي في الانتخابات الرئاسية، ربما في التشريعية. 

بعد المقابلة بثمانية أشهر، بدأت بمراقبة الجريدة الرسمية حيث تنشر أسماء الحائزين على الجنسية الفرنسية بمرسوم خاص، وأنا أعد الأشهر للانتخابات الرئاسية، آملة بالحصول على صوتي. تأخر ظهور اسمي بسبب تعقيد إداري، وعندما حصلت على الجنسية في شهر آذار/ مارس، ولم أجد موعداً لطلب الهوية قبل حزيران/ يونيو، فقدت الأمل من التصويت في الانتخابات، ولكنني بقيت مواظبة على حضور البرامج التلفزيونية التحضيرية للانتخابات وعلى معرفة المرشحين وبرامجهم عن قرب.

في الأسبوع السابق للانتخابات، فتحت صندوق البريد فوجدت رسالة من بلدية مدينتي تتضمن بطاقتي الانتخابية، وبدل أن تعتريني السعادة الغامرة كما كنت أتوقع، أصبت بالهلع، ففي ظل اعتقادي بعدم قدرتي على المشاركة، لم أشعر بأنني جاهزة لاتخاذ قرار والإدلاء بصوت، وبدأت بالتحضير للانتخابات كما يحضر طالب البكالوريا في بلادنا للامتحان في الأسبوع الأخير.

كثفت متابعتي لكل المرشحين، قرأت البرامج الانتخابية المتاحة على الانترنت، التقيت بالأصدقاء بهدف النقاش حول المرشحين وبرامجهم، شيئاً فشيئاً بدأت أشعر بأنني سأدلي بصوتي في أحد أسوأ الانتخابات الرئاسية الفرنسية، المرشحون الذين أؤمن بأفكارهم ليست لديهم أدنى فرصة بالتأهل للدور الثاني، المرشح اليساري الوحيد الذي يمكن أن ينافس مرشحي اليمين المعتدل والمتطرف ميلانشون داعم للديكتوريات، دافع عن بشار الأسد، قضى سنوات قبل غزو أوكرانيا بالتغزل بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسياساته، عبر في الماضي عن رغبة في مغادرة الاتحاد الأوروبي. لكنني كلما ناقشت الأصدقاء أكثر، ازددت قناعة بأن الحل المثالي هو التصويت لمرشح الخضر “جادو”، لقناعتي بأن ضرورة إنقاذ الكوكب اليوم تسبق الضرورات الأخرى، إذ في حال فنيت البشرية بالاحتباس الحراري في السنوات العشر المقبلة، لن يعود لأي نقاش سياسي أو اجتماعي أي قيمة. وبرغم معرفتي بعدم إمكانية مرور المرشح الذي اخترته للدور الثاني، إلا أنني اقتنعت أن الرسالة التي يمكن إيصالها من خلال الصوت للخضر، قد تدفع الحزب إلى المزيد من المشاركة وتقوي موقفه في المعارضة والمؤسسات التشريعية، وبهذا حسمت قراري. 

في الليلة التي سبقت الانتخابات في جولتها الأولى، نمت على قلق، استيقظت باكراً على غير عادتي، شربت القهوة شاردة، وبدأت الاستعداد للذهاب إلى مركز الاقتراع، شعرت بالخيبة لأن توتري لم يترك مجالاً للاحتفال بالمناسبة المنتظرة. وصلت إلى مركز الاقتراع، سعدت بانتظار دوري لأن ذلك أوحى لي بأن نسبة الامتناع قليلة في مدينتي. فكرت: كيف لإنسان يمتلك حق التصويت ألا يشارك؟ ألا يعلم المصوتون كم يرغب آخرون بهذا الحق؟ تذكرت كل أصدقائي الذين لم يحصلوا على حق الاقتراع بعد، والذين حملوني مسؤولية كبيرة: “صوتي عنا وعنك”. 

دخلت المركز مرتبكة، وزاد من ارتباكي أن الموظفة لم تجد اسمي فوراً، لأنه أضيف لاحقاً إلى القوائم، وقفت أمام الطاولة التي تحتوي أوراقاً صغيرة طبعت عليها أسماء المرشحين. ارتبكت، سألت حولي عما يجب فعله، شرح لي العمدة الآلية بعدما سألني لمَ أصوت للمرة الأولى، أجبت: لأنني سورية. نظر إلي نظرة تعاطف وبدأ يشرح بهدوء، تابعني بعينيه وابتسامته إلى أن أنهيت التصويت. سحبت الورقة التي اخترتها، ودخلت الغرفة السرية ووضعتها في الظرف. خرجت من الغرفة السرية، وفي طريقي إلى الصندوق، تأكدت مرات عدة من الاسم الذي وضعته، للحظات خشيت أن أكون قد استبدلت الورقة أو أخطأت، وقبل أن أسلم الورقة إلى الصندوق عدت للتأكد من أنني وضعت ورقة واحدة، كي لا يذهب الصوت الذي انتظرته طويلاً هدراً. وضع الموظف الورقة في الصندوق وقال بعدما قرأ رقمي الانتخابي بصوت عال: “a voté” (صوتت). 

خرجت من المركز يتنازعني شعوران: راحة بسبب إنهاء المهمة بنجاح، وحزن خفيف أشعر به في كل مرة عندما أشارك في أمر في فرنسا كنت أتمنى أن يكون في سوريا. حاولت طرد فكرة المقارنة من رأسي كي لا أفسد يومي بذكريات الألم.

جلسنا مع الأصدقاء حول التلفزيون ننتظر النتائج، ظهرت صورة ماكرون ولوبان مع نسبهما كمنتقلين للجولة الثانية، وحصد جادو أقل من خمسة في المئة. لم أشعر بالخيبة كما توقعت، أحسست بالرضا عن تصويتي الأول فقد كان منسجماً مع أفكاري، وفي هذه اللحظة، شعرت بكل المشاعر التي توقعت أن أشعر بها مذ حصلت على حق الانتخاب دفعة واحدة، شعرت بالتأثر والسعادة والفخر أيضاً. ولكنني تأملت للحظة احتمال أن تفوز لوبان في الانتخابات، وخشيت أن أكون حصلت على حق التصويت في أسوأ انتخابات رئاسية في تاريخ فرنسا، لكنني تذكرت أن حق التصويت يعني أيضاً حق المعارضة والمشاركة بفعالية، ما يجعل الدرب طويلاً، لكنه، على الأقل هنا، ممكن.  

إقرأوا أيضاً: