fbpx

أرحامنا كمعسكر للتجنيد والحرب…
من بن غوريون إلى هتلر وأوكرانيا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يُبنى الاقتصاد العالمي على عمل النساء الذي يقدمنه بلا مقابل تحت مسمى الأمومة أو الأنوثة، كالتعليم والتربية والطبخ والتنظيف والتمريض والقيادة التي تشكل عملاً من دوام كامل بلا مقابل. لكن، هل يصمد الاقتصاد إن اعترف العالم بجهد الأم كعمل وليس كوظيفة جندرية؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يصفق العالم لبسالة الثلاثين ألف جندية اوكرانية بالدفاع عن وطنهن. لكن النساء لم يكن دوماً حاضرات كمسلحات في ساحة الحرب بل حضرن على جبهات وفي معتركات تغييرات طبيعية تأججت تدريجياً لتشكل علامة فارقة في ساحة الحرب الفعلية التي استغلتها النساء لانتزاع حقوقهن باستخدام فارق جسدي استخدم ضدهن: الرحم. 

يرجع أصحاب نظرية تقسيم الأدوار الجندرية أسس نظريتهم إلى أسباب إنثروبولوجية: مذ كنا سكان كهوف، تنجب النساء فيحتجن لمن يحميهن وأطفالهن خلال فترة المخاض وبعده لتوفير الماء والكلأ. لذا، يعتبر الإنجاب سبباً بيولوجياً يدفع النساء للاتكاء على الرجال إذا لم يردن محاربة شهوتهن الجنسية والغريزة الإنسانية بالتكاثر. ولأن الإنجاب أنقذ الإنسان من الوحدة والانقراض والخوف، توجب على الرجل أن يعطي وعلى النساء أن ينجبن. 

انقلبت المعادلة في العصر الحديث ليصبح الرحم مصدر صلابة تتكئ عليها الأمم بدل أن يكون مصدر وهن يضع حياة حاملته في خطر إن ما وجدت من ينصرها ريثما تؤدي “الواجب الذي أعطته الطبيعة لها”. أصبح الرحم آخر ذخيرة لخاسر في الحرب فيخوض معارك وجوده على جبهة أخرى تذكر الرابح بأن الانتصار بالحرب لا يلغي الخصوم إن كثرت أعدادهم. يعول على الإنجاب من يتهيأ لخوض حرب جديدة فيقوي جماعة ضد أخرى بزيادة عدد مقاتليها. وينجب أجيالاً هي إثبات على فشل “الأقوى” بإلغاء خصومه إذ تنجب نسوة أطفالاً قادرين على إحياء قضايا الأجداد. 

عام 2018، نشب خلاف في الكنيست الإسرائيلي لرفض عدد من النواب تقريراً أعده الجيش الإسرائيلي يظهر ازدياد أعداد الفلسطينيين القاطنين في الأراضي الفلسطينية مقارنة بأعداد الإسرائيليين. أظهر التقرير أن عدد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية يبلغ 5 ملايين. أما سكان الداخل فيبلغ عددهم 1.8 مليون من حاملي الجنسية الإسرائيلية، عدا عن سكان القدس الشرقية مقارنة مع 6.5 مليون من اليهود. رفض بعض النواب الارقام واعتبروها مبالغة، لأن ارتفاع أعداد الفلسطينيين مقارنة بالإسرائيليين يعني استحقاقهم مساحة اكبر من الارض.

كما أن أول رئيس إسرائيلي دافيد بن غوريون في 19 يوليو 1949 تعهد بتقديم  “جائزة إنجاب” لكل امرأة يهودية تنجب عشرة أولاد. وهي فكرة سادت في ألمانيا النازية حيث خصص هتلر ذكرى ميلاد أمه كلارا في الثاني عشر من آب/ أغسطس من كل عام للاحتفال بالأمهات وتكريمهن. أعطيت النساء اللواتي أنجبن ثمانية أطفال ميدالية ذهبية واللواتي أنجبن سبعة أو ستة أعطين ميدالية فضية. أما اللواتي أنجبن خمسة فأعطين ميدالية برونزية. كما أعطيت الفرصة للفتيات اللواتي يردن التبرع لإنجاب طفل من “العرق الآري السامي”.

مكنت تكريمات الأمومة وتقديس دورها هتلر من غزو أوروبا الذي راهن على تزايد أعداد الجنود. كما سنحت له توفير أيد عاملة للمصانع التي ما زالت إلى يومنا هذا تشكل أساس الاقتصاد الألماني. كما غذت النساء الدورة الاقتصادية في العصر الإسلامي ومثلت دليلاً على توسعها وازدهارها إذ تكثر الجواري والإماء والعبيد الذين يعتبرون غنائم حرب في دولة تجعل من أجساد النساء مستباحة للغزو إذا انتمين لفئة “العدو” ويجوز الإنجاب منهن ليكون أولادهن خدماً أو مقاتلين في صفوف القبيلة. وهي عادة جاهلية أجبرت العائلات على وأد بناتهن واستمرت حتى العصر الإسلامي الذي حرم الوأد وحلل السبي.

تغيرت المصطلحات مع حفظ المعاني. اختفت الفتوحات وأمست النازية واسم هتلر مكروهين، وأصبح وأد البنات عادة جاهلية لا تذكر إلا في دروس التاريخ لكن مظاهر النساء التي تقطع الحدود وأولادها هرباً من الحرب أو الجوع، بقيت مستمرة. كما بقي تقديس الإنجاب والأمومة تحت أي ثمن وإن كان بنطف مهربة من السجن أو تطلبت من المرأة التخلي عن عملها أو تحمل أعباء اقتصادية في سبيل التوازن الديموغرافي الطائفي أو العرقي أو المحافظة على الهوية أو ما تبقى منها أو إنقاذ الجماعة التي تنتمي إليها من لعنة الأقلية الدينية أو الإثنية. لذلك تكون المجتمعات التي تعاني من توالي الحروب فتية والتي تعيش بسلم تتمتع بمستوى عال من الشيخوخة. الأمومة جردت من معانيها ومشاعر الدفء والرحمة لتتخذ شكلاً سياسياً ودفاعياً عن الجماعة التي تمثلها الأمهات، لذا قد يرغب الديكتاتور بنساء من جماعته لتقويتهن بينما يطرد تعسفياً وتدريجياً نساء من جماعة غيره كيلا يكبرن.

الأمومة، بتعريف متفق عليه عرفياً، اختزلت بالإنجاب وهو “ميزة الإناث”. وهي واجب يحاك اجتماعياً للنساء جميعاً منذ لحظة ولادتهن. يقدن تدريجياً إلى جذب الجنس الآخر ليمتلئن نشوة تأتي بحياة جديدة إلى الحياة. ويتم تشجيعهن على فقدان الوزن وتقليم الأظافر وتصفيف الشعر أي على “التصرف بأنوثة”، لكن بأنوثة معتدلة لا صارخة لجذب زوج لا مجرد حبيب. يؤطر المجتمع دور النساء في علبة “الدور الأنثوي” فيهددن بقضاء آخر أيام حياتهن وحيدات بلا طفل أو زوج. ويترعرعن خائفات من مستقبل قد لا يصلن إليه فيصبح هدفهن الأول إيجاد زوج ليمارسن “دورهن الطبيعي” بالإنجاب ويذقن لذة الشعور بالأمومة ولو تطلب الأمر محاولات طبية عدة أو القبول بزواج ثان كي يرى الزوج أولاده وهو “حق طبيعي لكل رجل”. 

برغم من تقديس الأمومة ودورها الأساسي بقلب موازين القوى في مرحلتي الحرب والاستعداد لها، يكرس للنساء اللواتي لم ينجبن واكتفين بتحمل عبء الشفقة التي ترافق العقل وحرية الاختيار حصة أيضاً من ساحة الحرب. إبان الحرب العالمية الأولى، اضطرت النساء إلى الانخراط في سوق العمل بعد خسارة أعداد هائلة من الرجال ثم استدرجن إلى ساحة المعركة ليقاتلن إلى جانب جنود هم تبرعت نساء/ أمهات بهم من أجل النصر. ثم شاركت العزباوات بعملية إعادة الإعمار الإقتصادية بينما تولت أخريات مهمة إعادة الإعمار الديموغرافية، لكنهن لعبن أدوارهن خلف الكواليس بينما سيطر الرجال على الساحة السياسية معظم الوقت. 

بيد أن المجموعتين من النساء لعبن دورهن بامتياز إلا أن القضايا المتعلقة بهن لا تراعى في الموازنات والقوانين والمناهج. بل يتحملن تناسي الحكومات قضاياهن وأعباء الضريبة الوردية وتهميش حمايتهن. 

يُبنى الاقتصاد العالمي على عمل النساء الذي يقدمنه بلا مقابل تحت مسمى الأمومة أو الأنوثة، كالتعليم والتربية والطبخ والتنظيف والتمريض والقيادة التي تشكل عملاً من دوام كامل بلا مقابل. لكن، هل يصمد الاقتصاد إن اعترف العالم بجهد الأم كعمل وليس كوظيفة جندرية؟ 

بالطبع لا فهذا سيعني تقاضي الأم أجراً لكونها أماً وتصبح الأمومة خياراً قد لا تتخذه النساء ويكف عن كونه واجباً بيولوجياً أو إحدى ركائز الاقتصاد أو سلاحاً بشرياً يضمن توالي أسلحة بشرية أخرى إلى هذا العالم. 

تتحرر النساء من كون “المرأة الشيء الذي يحيا برحم المسدس” لينجبن ويربين ما وصفه مريد البرغوثي “بالرجل الشيء الذي يحيا بعقل المسدس”. يعطين حياة للقناص والمقنوص والقاتل والقتيل والمسلح والأعزل. يضعنهم في هذا العالم فيمسى الرحم تجنيداً إجبارياً للمنتسبين إلى صفوف الوجود وللمستقطبين إلى التجنيد الإجباري والمذعورين من وابل الرصاص. تنجب النساء البائع والشاري والصانع والمستهلك والمورد والمستورد للسلاح بينما ينظر لأطفالها كدروع بشرية وحماة الوطن ومدافعين عن قضية فيخسرون شيئاً فشيئاً إنسانيتهم وانتماءهم لأسر يمارسون فيها أدواراً أكثر لطافة وإنسانية. 

انتهى “شهر المرأة” بانتهاء آذار/ مارس، لكن تهميش احتياجات النساء اقتصادياً واجتماعياً وتأطير دورهن جندرياً ما زال مستمراً. يفرغ يوم المرأة وعيد الأم من معناهما ويفقدان ماهيتهما بينما تتلقى النساء غسالات وبرادات وأدوات مطبخ جديدة أو، في عالم أكثر بؤساً وواقعية، قد يتلقين خيمة أو يجهلن أنه عيد الأم/ المرأة أصلاً، إذ يغيب عن مكان سكنهن حائط لتعليق روزنامة. لذلك، يتحول شهر آذار تدريجياً إلى شهر المرأة العالمي. نستغله لكي نلقي الضوء على معاناة النساء التي تفاقمها الأمومة بما تخلقه من ضعف جسدي وحاجة إلى إعالة مادية يستحال أن تتوفر إن غاب دور الدولة أو عائلة الأم وزوجها بما أننا نعيش في عالم بعيد جداً عن جو الاحتفال.  

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!