fbpx

 في النجف: لو بُعِث الإمام مجدداً لقتله “أصحاب العمارات”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تستثمر حيتان الفساد في المساحة أفقياً وعمودياً. عمودياً ترفع “المقدس” تقديساً كما في الإعلان التجاري لغواية الزوار الذين يتحولون في ذهن الفاسد إلى مجرد مستهلكين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أتركُ الصحراء خلفي وأدخل غابة النخيل على امتداد نهر الفرات. أعبرُ جسر الكوفة الحديدي إلى قمة القوس فأتوقعُ لمعة الذهب تحت الشمس و أجهّز أذنيَّ للأدعية التي تقطع دويّ السيارة. لحظات تعطيني إحساساً بالأمان: وصلتُ مدينتي.

الزائر القادم من بلد بعيد لزيارة الإمام علي يشهق من لمعان المعنى وقد مسّ قلبه وعقله. وصل بغيته بعد مسار طويل كما في قصة للقاص الخمسيني جيان. تستيقظُ الحكايات وأنا أقترب من المدينة، حكايات المدينة عن نفسها وحكاياتي معها. التاريخ ينهض من الحجر ومن تماسي مع القبور. من قبر آدم أبو البشرية، أعبر بقايا المسيحية التي سبقت الإسلام وقد تحولت بفضل الفساد الماسح للتاريخ إلى مطار، حتى المرقد الذي أتلمّس منه اتجاهات سيري في المحلات الأربع التي تحيط به… كلها غابت وأنا مقبل إلى المدينة.

في ذاك “الماضي الذي لا يمضي” اخترع صدام حسين “نسّابة” رسموا شجرة عائلته بحيث يكون تسلسله السادس والأربعين بعد عليّ ابن أبي طالب وولديه الحسن والحسين. خلال الحرب مع إيران حرص على أن يزور المرقد بين جولة وأخرى. يصلي قريباً من المرقد من دون أن ينزع مسدسه عن خصره. في واحدة من زيارته أمر بمنع أي بناء يعلو على المنارات ويقطع مشاهدتها من شمال المدينة أو جنوبها. 

لكن أوامره ضاعت مع ضياع سلطته.

مرقد الإمام علي في النجف

في زمن الفساد صرت أدخل إلى النجف من شمالها فلا أرى لمعة المنارات. تصدّني غابة الإسمنت. مع ذلك ابحث عن المنارات الذهبية لأحدد اتجاهاتي في المدينة. “الفساد” يرافقني وأنا في طريقي إلى المقدس. الأحزاب استولت على أملاك الدولة السابقة وختمت أسماء قادتها على الواجهات وعلى جانبيّ الطريق. قبيل الوصول إلى المرقد، يلوح عند مدخل المدينة صرح منافس (مؤسسة شهيد المحراب) أكبر مساحة من الصحن وأعلى مناراتها. أراد أصحاب هذا الصرح أو لم يريدوا فقد ارتكبوا أربعة ذنوب: جنائي، وسياسي، وأخلاقي وديني…الجنائي يكمن في انتهاك القانون بمصادرة المال العام وتحويله إلى ملك خاص. تمّت الخصخصة بورقة صغيرة من رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، حين كان نائبا لرئيس الجمهورية، في عهد رئيس الوزراء أياد علاوي. 

الأخلاقي يكمن في حرمان ناس المنطقة من متنزه عام وتحويله الى مؤسسة مغلقة بجدران عالية.  

الوطني يكمن في أن هذا المكان كان مخصصاً لمتحف ونصب عن ثورة العشرين التي كان لمدينة النجف الدور الأساسي في تفجيرها. 

والديني يكمن في إنشاء مرقد وجامع أكبر من صحن الإمام علي. 

في الطريق الى المرقد سلسلة من صور قادة جدد تتنافس في الحجم وفي الموقع حسب نفوذهم السياسي وهيمنة مليشياتهم. تريد بالصور أن تثبت السلطات الرمزية الجديدة نفسها من خلال التكرار والتتالي على غرار السلطة التي سقطت ولم تسقط. تتناسل الصور وتفرض نفوذها المنتزع من ذاك “المقدس” في ضريحه. في عالم السلطة و حواشيها الفاسدة، عالم الوعود والفضائل المنسية يغيب الإخلاص ويصبح الرجل هو “الذي يخلي بالسلة عنب”. السلطة، دينية أكانت أم سياسية مفصولة تماماً عن الفضائل التي يتمتمون بها حين يصلّون، إنها هنا على الأرض وآنية مفصولة عن تاريخ المدينة “المقدس” ومربوطة بأفعال يومية وانتصارات آنية وليست بالآخرة التي يعدون بها رعاياهم. 

الاستيطان التاريخي في المدينة لم يرتبط بالنهر والزراعة. وقد استغرب شاعر المدينة أحمد الصافي النجفي اختيار المكان:

بنيت على الأنهار بلدات الورى  فعلام أنت بنيت في الصحراء؟

الاستيطان جاور المرقد. المحلات الأربع دارت حول الضريح، وعلى عكس الفاتيكان التصقت جدران البيوت بجدران الصحن المحيط بالمرقد في نسيج عمراني متداخل. أفقياً لا يستطيع التوسع أن يتقدم نحو شمال المدينة وشمال شرقها لأن الأموات سيمنعون دخوله إلى مملكتهم في أكبر مقبرة في العالم. ولا يتقدم نحو الغرب، سيقطعه فجأة المنخفض الأرضي المتصل ببحر النجف. لذلك تأكل العمارات العالية، من محلات الحويش والبراق والمشراق، من بيوت الناس القديمة ومن معمارها وازقتها وحتى مدارسها الدينية. تزيح أبناء المدينة عن المركز لأن المدينة مدينتهم. لا يدفع أبناء المدينة أجور المبيت في الفنادق ولا يأكلون في المطاعم ولا يشترون هدايا رمزية مقدسة. 

الزوار القادمون إلى المدينة من خارجها لهم الأفضلية لأنهم يدفعون. 

تستثمر حيتان الفساد في المساحة أفقياً وعمودياً. عمودياً ترفع “المقدس” تقديساً كما في الإعلان التجاري لغواية الزوار الذين يتحولون في ذهن الفاسد إلى مجرد مستهلكين. الفنادق تقترب من المركز المقدس لمزيد من الثواب. وترتفع العمارات فوق المرقد عالياً عاليًا لتستوعب أكثر ما يمكن من “مستهلكي” الثواب. ترتفع العمارات لتغطي المرقد بحيث لا يراه الزائر إلا وهو داخله.

حين يصل إلى الضريح بعد وعناء السفر، يمسك الزائر بفضة الشباك ويحاول أن يرى ما فيه. لا يرى المدفون ولا يجرؤ على تخيل الإمام تحته لأن الخشوع يغشي بصيرته. والمدفون تحت الذهب يمنح المدينة معناها المقدس.

دينياً يبرر حصار الإسمنت على المرقد بانه فعل ثواب (لخدمة الزوار)، لكنه ليس خدمة مجانية، لأن صوت النقود يطغى على بسمات الزوار وأدعيتهم. قيمة المدفون لحيتان الفساد تكمن في كونه ميّتاً وليس بصفته ضميراً حيّاً:

لذلك يقول لي دليلي التشريني: “لو نهض من رقاده سيقتله أصحاب هذه العمارات ويعيدونه الى مكانه تحت التراب”.

إقرأوا أيضاً: